عندما أسقِط نظام صدام حسين في العراق، يوم 9 أبريل (نيسان) 2003 بعد أكثر من أسبوعين من القصف المتواصل الذي تبعته حرب برية كان رئيس الوزراء العراقي الحالي محمد شياع السوداني موظفاً زراعياً في مسقط رأسه، محافظة العمارة بجنوب شرقي العراق. ومع أن صدام حسين كان قد أعدم والده وعدداً من أعمامه، فإن شياع السوداني ينتمي إلى «الداخل» طبقاً للتقسيمات التي ظهرت بعد الاحتلال الأميركي. أما أهل «الخارج» فينقسمون إلى قسمين: قسم جاء مع بدء دخول الدبابات الأميركية، والقسم الآخر التحق بالأول لاحقاً. ولكن، مع هذا، فإن أبناء «الخارج» سواءً، الذين جاءوا مع الدبابات الأميركية – وبعضهم جاء راكباً على ظهورها – أو أولئك الذين تأخروا في المجيء قليلاً، هم الذين تولوا كل السلطات في ما تبقى من دولة منهارة. ولقد أيّد عدد من هؤلاء كل إجراءات الحاكم المدني الأميركي بول بريمر الهادفة إلى تدمير مؤسسات الدولة، بدءاً من حل المؤسسات الأمنية المهمة، وفي المقدمة منها الجيش والشرطة وأجهزة الأمن. في هذه الأثناء، ربما لم يكن محمد شياع السوداني، المهندس الشاب، يحلم وقتذاك بأكثر من الاقتصاص عن طريق العدالة ممن جعله يتيم الأب وهو في سن العاشرة (إذ ولد رئيس الوزراء الحالي عام 1970 ووالده أُعدِم عام 1980). وأيضاً ربما حلم بوظيفة تتناسب مع قدراته. لكن ذلك المهندس الشاب، الذي نجح في إدارة المواقع التي شغلها، وبينها: مدير زراعة وقائمقام ونائب في البرلمان، ووزير… وجد نفسه بعد عشرين سنة من تغيير النظام السابق على «رأس الدولة»، بل صار الأول من «جيل ما بعد التغيير». فحقيقة الأمر، أن العراقيين الذين وُلدوا خلال شهر أبريل عام 2003 بلغوا اليوم من العمر عشرين سنة، في حين أن من كان شاباً في سن العشرين عند سقوط صدام صار اليوم أربعينياً مقترباً من الكهولة، بقطع النظر عما إذا كان معارضاً أم موالياً. المتغير الرئيسي هو أن الجيل الشاب الذي وُلد في حقبة «ما بعد صدام» لا يزال يعيش في دولة غارقة حتى أذنيها في عقدة «ما بعد صدام».
طوال السنوات العشرين الأخيرة لم يشهد العراق استقراراً، لا على الصعيد الداخلي في سياق عمليات بناء الدولة، ولا على مستوى طبيعة علاقاته الخارجية سواء مع محيطيه العربي والإقليمي أو الدولي. ومع أن السلطات العراقية تمكنت بمساعدة «التحالف الدولي» من الانتصار على تنظيم «داعش» الإرهابي في أعقاب معارك طاحنة استمرت حتى أواخر عام 2017، فإن العراق شعباً ومجتمعاً ودولة، واجه قبلها حرباً أهلية استمرت نحو سنتين (2006 – 2008) دفع خلالها ثمناً باهظاً على كل المستويات، بما في ذلك النسيج الاجتماعي.
رغم كل ذلك، انطلقت الخطوات الأولى لعلاقات عراقية متوازنة مع الخارج خلال منذ العام 2018 وما تلاه. ولكن تلك الخطوات ظلت خجولة ومتعثرة لأسباب تتعلق بطبيعة الخلافات السياسية… سواءً بين المكوّنات الفئوية العراقية (الشيعة والسنة والكرد) أو حتى داخل المكوّن الواحد. وفي حين بقيت الحكومات العراقية تتشكّل طوال أربع دورات برلمانية على وفق طريقة التوافق، أو «الديمقراطية التوافقية» – التي هي مجرّد مصطلح ملطّف لـ«المحاصصة» العرقية والطائفية -، شهدت الدورة البرلمانية الخامسة التي نتجت من انتخابات أواخر عام 2021، محاولة تحالف سياسي قاده زعيم «التيار الصدري» مقتدى الصدر إلى كسر قاعدة «المحاصصة»، وذلك بتشكيل حكومة غالبية وطنية. والصدر هو الآخر، مثل السوداني، من أبناء «الداخل»، وهو أيضاً رجل أقدم صدام حسين على اغتيال والده المرجع الشيعي محمد محمد صادق الصدر عام 1999. غير أن القوى التقليدية، وفي المقدمة منها تلك التي كانت في الخارج عندما سقط نظام صدام حسين، وجاءت عبر شراكة مع الأميركيين، لم تمكّن لا الصدر ولا حليفيه السني والكردي من تحقيق هذا الهدف.
للدولة إدارة
من ناحية أخرى، المتغيّر اللافت اليوم هو أن الحكومة الحالية التي يترأسها محمد شياع السوداني تكاد تختلف عن الحكومات التوافقية السابقة. فهي في حين ليس بالإمكان القول إنها حكومة غالبية عابرة، فإنها في المقابل، ليست توافقية بالكامل. إذ إن السوداني في آن معاً، من جهة مرشح قوى «الإطار التنسيقي» الشيعي، ومن جهة أخرى مدعوم من ائتلاف كبير اسمه «ائتلاف إدارة الدولة». ثم إن ثمة طرفاً رئيسياً في المعادلة السياسية في العراق، هو التيار الصدري، خارج السلطة. وصحيح أنه لم يعلن معارضة صريحة للحكومة فهو ليس مؤيداً للقوى التي تدعمها. وانسجاماً مع هذا الوضع، يبذل السوداني، الذي شكّل حكومته طبقاً لهذه القاعدة، جهوداً كبيرة لإشراك «التيار الصدري» في الحكومة من دون أن ينجح في إقناع الصدر، يجد نفسه في وضع شبه مريح من أجل البدء في تنفيذ برنامجه الحكومي.
كان السوداني قد اجتاز مع حكومته الأيام المائة الأولى له ولها في الحكم. ثم تخطى تلك العتبة ليبدأ الآن، مع اقتراب الذكرى العشرين لسقوط صدام حسين يوم 9 أبريل 2003، الشهر السادس من عمر حكومته. وفي سياق أي «جردة حساب» لما خطط له السوداني وما بدأ تنفيذه، فإنه يعدّ نفسه قد وفّق بتحريك المياه الراكدة في علاقات العراق الإقليمية والدولية. وعمل على استئناف ما بدا أنه «تأسيس» صحيح قام به من قبله أسلافه في رئاسة الوزراء، فضلاً عن البدء بخطوات تبدو قوية لجهة عقد اتفاقات وتوقيع مذكرات مع دول وشركات لتطوير القطاعات الرئيسة في العراق، التي تحتاج بالفعل إلى عمل متواصل.
وعلى الرغم من الصعوبات التي تواجه رئيس الحكومة راهناً، سواءً من جانب الذين يُعدّون داعمين له، وفي مقدمتهم قوى «الإطار التنسيقي» الشيعي، أو الائتلاف الأكبر الداعم له وهو «ائتلاف إدارة الدولة» الذي يضم ممثلين عن الكرد والسنّة، أو من جانب قوى المعارضة. وللعلم، فإن قوى المعارضة هي اليوم نوعان أيضاً: الأول هو المعارضة الصامتة حتى الآن، وهي الأهم والأقوى وتتمثل في «التيار الصدري» بزعامة مقتدى الصدر، والآخر هو المعارضة المتمثلة بالقوى المدنية و«حراك تشرين» وهي معارضة رافضة للنظام السياسي وباحثة عن التغيير مع أنها دفعت عام 2019 ثمناً باهظاً عندما أطلقت شرارة «انتفاضة تشرين» حينذاك. ولكن، على الرغم من كل ما سبق، لا بد من القول إن السوداني ركز كثيراً على العلاقات الخارجية للعراق مع مختلف الأطراف الإقليمية والدولية في محاولة منه لترسيخ مبدأ المصالح المشتركة مع الأشقاء والأصدقاء.
– زيارة أوستن وكلامه
على صعيد آخر، فيما يخص العلاقات العراقية – الأميركية، فإن العراق يحاول دائماً البقاء على مسافة محسوبة تماماً في سياق طبيعة علاقته مع الولايات المتحدة وكل الآخرين من أكثر من منطلق. فأميركا هي التي احتلت العراق وأسقطت نظامه السياسي عام 2003، وهي التي وقّعت مع العراق «اتفاقية الإطار الاستراتيجي» التي يصار إلى تجديدها وتفعيلها بين فترة وأخرى. ثم إن أميركا تملك أكبر سفارة في العالم، موجودة في العاصمة العراقية بغداد، فضلاً عن وجود قوات كبيرة بصفة مستشارين في قاعدة عين الأسد غربي العراق.
وقبل أقل من أسبوعين زار وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن بغداد، وكتب عن أهداف زيارته على «تويتر» مغرداً «أنا هنا لإعادة التأكيد على الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والعراق، بينما نمضي قدماً نحو عراق أكثر أمناً واستقراراً وسيادةً». وفي المطار، حيث عقد أوستن مؤتمراً صحافياً، فإنه أبلغ الحاضرين بأن زيارته التي لم تكن معلنة حتى لحظة وصوله «جاءت تلبية لدعوة من الحكومة العراقية». وهنا نذكر أوستن، الجنرال المتقاعد، الذي عمل في العراق قائداً عسكرياً ورقص «الجوبي» في محافظة الأنبار غربي العراق، قبل أن يتولى منصبه الحالي وزيراً للدفاع، أكد أن محور زيارته ولقائه رئيس الوزراء محمد شياع السوداني هي «مناقشة مهمة القضاء على بقايا تنظيم (داعش) الإرهابي».
من جهته، الناطق باسم الحكومة العراقية باسم العوادي، أكد، بالتزامن مع زيارة أوستن، أن الزيارة «تهدف إلى التأكيد للتعاون المشترك بين البلدين في محاربة الإرهاب، وآفاق التعاون في هذا الملف المهم الذي يشكل الأولوية بالنسبة لأغلب زيارات القادة العسكريين للعراق، وبحث برامج التطوير والتدريب للقوات». وأضاف الناطق، أن «رئيس الوزراء العراقي أكد على تعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة وتوطيدها على مختلف الصعد». وأكد أيضاً أن «نهج الحكومة هو في اتباع علاقات متوازنة مع المحيطين الإقليمي والدولي تستند إلى المصالح المشتركة وسيادة العراق».
هذه السياسة العراقية التي تحاول الإمساك العصا من الوسط، بينما يتكلّم أوستن عن «شراكة استراتيجية» مع بغداد، تحتاج – بلا شك – إلى جهود جبارة من قِبل السوداني وفريقه الحكومي كي يتمكن من عبور المزيد من حقول الألغام التي تتناثر في طريقه. إذ إن تحالف «الفتح» بزعامة هادي العامري – وهو أحد أطراف «الإطار التنسيقي» الشيعي و«إدارة الدولة» – الذي يفترض أنه داعم للحكومة، أعلن رفضه لتصريحات أوستن بشأن بقاء القوات الأميركية في بغداد. ودعا الحكومة إلى رد قوي على تلك التصريحات عن طريق وزير الدفاع ووزير الخارجية واستدعاء السفيرة الأميركية لتقديم مذكرة احتجاج. وقال علي تركي، النائب في البرلمان العراقي عن «الفتح»: إن «تصريحات وزير الدفاع لويد أوستن خلال وجوده في العراق بتعزيز بقاء القوات العسكرية الأميركية مرفوضة جملة وتفصيلاً؛ كونها تمثل تدخلاً سافراً بالشأن العراقي، وإثبات حقيقة تواجد قوات عسكرية لا استشارية كما تزعم الإدارة الأميركية». وأضاف، أن «الإدارة الأميركية ما زالت وعلى مختلف المستويات مصرّة على التدخل في الشأن العراقي من خلال تصريحات وزرائها، أو تدخلات السفيرة الأميركية في بغداد من خلال عقد لقاءات مع مختلف الشخصيات التنفيذية والسياسية خارج مهامها الدبلوماسية». ومن ثم دعا تركي الحكومة لإصدار رد قوي على تلك التصريحات عن طريق وزير الدفاع ووزير الخارجية واستدعاء السفيرة الأميركية لتقديم مذكرة احتجاج».
الشرق الأوسط