محور بكين – موسكو – طهران: تحد جديد للسياسة الخارجية الأميركية

محور بكين – موسكو – طهران: تحد جديد للسياسة الخارجية الأميركية

تعد الحرب الجارية في أوكرانيا، وتوسط الصين مؤخرا لتحقيق تقارب بين المملكة العربية السعودية وإيران، والتوترات المتزايدة في منطقة المحيط الهادئ مؤشرا على حقيقة لا يمكن دحضها وهي أننا نشهد تشكيل نظام تحالف يسعى لتغيير التوزيع للقوتين الناعمة والصلبة على السواء من خلال تحدي النظام العالمي الحالي.

ويرى المحلل والباحث جوناثان ميكاني أنه يمكن في الوقت الحالي تقسيم الدول غير الليبرالية والليبرالية جزئيا إلى فئتين. الفئة الأولى تشمل الدول التي تقاوم التحول الديمقراطي الليبرالي كوسيلة للحفاظ على قوة سيادية على حكوماتها.

وهذه الدول تخشى أو تتشكك من أن التحول الديمقراطي الليبرالي يصاحبه تآكل في القيم المحلية لصالح القيم الغربية العصرية، أو أن ظهور المنظمات غير الحكومية الليبرالية الغربية، سوف يخدم تحت ستار المساعدة في بناء “المجتمع المدني” كأدوات للنفوذ الأجنبي.

ويقول ميكاني إن هذه الدول تتخذ موقفا دفاعيا، بينما الفئة الثانية من الدول هي تلك التي تحاول بقوة أن تتحدى النظام العالمي الليبرالي الذي يقوده الغرب، وتعتبر إيران وروسيا والصين نماذج بارزة لهذه الفئة. وغزو روسيا لأوكرانيا هو التحدي الأكثر مباشرة ووضوحا للولايات المتحدة والنظام الليبرالي الدولي القائم على أساس القواعد والذي تدعمه واشنطن.

من أجل مواجهة محاولة تلك الدول لتحقيق المزيد من القطبية المتعددة وإضعاف العزم الأميركي، يتعين على التحالف الذي يقوده الغرب تحقيق انتصار عسكري وسياسي ضد العدوان الروسي.

وكان الرئيس الصيني شي جينبينغ قد وصل إلى موسكو الاثنين الماضي في زيارة استغرقت ثلاثة أيام وتحدث على نطاق واسع مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وفي هذا الاجتماع أكدت بكين أنها تتشارك مع موسكو في “الأهداف المتماثلة” وأيدت علانية إعادة انتخاب بوتين رغم إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بشأنه. وقبل زيارة شي إلى موسكو اختتمت الصين تدريبات عسكرية مشتركة مثيرة مع إيران وروسيا قبالة خليج عُمان، وتوسطت بنجاح في اتفاق لاستعادة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران.

القطبية

كجزء من التزام الصين بتغيير التوزيع الحالي للقوة في النظام الدولي، والنظام العالمي الذي سوف يسفر عنه ذلك، يهدف محور بكين – موسكو – إيران إلى أن تحقق روسيا شكلا من أشكال الانتصار الذي يتعلق بالسيطرة على أراض في أوكرانيا. وقد دعمت الصين جهود موسكو بزيادة حجم التجارة مع روسيا بنسبة 30 في المئة تقريبا، وبيعها لروسيا عددا كبيرا للغاية من أشباه الموصلات.

ويمكن ملاحظة جهود طهران لدعم حرب موسكو من خلال العدد الهائل من المسيرات الإيرانية التي تستخدم لمهاجمة البنية التحتية المدنية والعسكرية في أوكرانيا، بالإضافة إلى الالتزامات الأمنية المتزايدة التي قد تدل على تطور شراكة عسكرية كاملة بين الدولتين.

ويتطلب احتواء محور بكين – موسكو – طهران تفهما عاما من جانب واشنطن بأن الهيمنة الدولية التي كانت تحظى بها الولايات المتحدة طوال العقود القليلة الماضية لم تعد مضمونة وتواجه خطر الانهيار. كما يتطلب التزاما متجددا بالحفاظ على نظام عالمي ليبرالي يتعرض للتهديد المستمر من جانب دول راغبة في الانتقام مدفوعة بالسعي لتحقيق مكاسب نسبية.

ولتحقيق ذلك سوف تحتاج الولايات المتحدة إلى إعادة النظر في إستراتيجيتها الكبرى. وهذا يشمل تعزيز العلاقات مع شركاء الولايات المتحدة في منطقة المحيط الهادئ بينما تتم إعادة بحث مستويات الاعتماد الاقتصادي المتبادل المقبول بين الولايات المتحدة والصين، واستبعاد خيار أن البرنامج النووي الإيراني يمكن وقفه أو احتواؤه من خلال الدبلوماسية، وخاصة زيادة كمية المساعدات العسكرية التي يتم تزويد أوكرانيا بها وكذلك مطالبة النظراء الأوروبيين بالمساهمة أيضا.

وتعتقد طهران أن تصاعد صراعات القوى الكبرى، إلى جانب سعي الصين وروسيا لبناء نظام دولي مالي يخرج عن السيطرة الغربية قد يساعدها في مواجهة العقوبات الأميركية، ويضعف من تأثيرها فيها، خاصة إذا ما واصلت دعم علاقاتها مع البلدين.

ويمكن تحقيق المطلب الأخير في المدى القصير. ومن أجل ذلك، ينبغي على إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ونظرائها الأوروبيين زيادة عدد أنظمة جافلين، ومدافع هاوتزر، والذخيرة، وأنظمة الدفاع الجوي، والمركبات المدرعة، والطائرات التي يتم إرسالها إلى أوكرانيا. ولن تقبل روسيا السلام إلا عندما يكون هناك تفهم واضح في الكرملين بأنه لن يمكنه الاستحواذ على أراض جديد، أو حتى استمرار الاحتفاظ بالأراضي التي تم الاستيلاء عليها.

ولذلك فإن أي انتصار غربي في أوكرانيا لن يُبقي خصوم الولايات المتحدة في مأزق إلى الأبد. ومع ذلك، فإنه سوف يوفر للولايات المتحدة فرصة للاستثمار في القوة الصلبة التقليدية الضرورية للغاية لمواصلة ردع خصومها في مناطق أخرى، وأساسا في الشرق الأوسط ومنطقة المحيط الهادئ. وسوف يتطلب هذا الكثير من المناقشات الصعبة في واشنطن والعواصم الأوروبية، ولكن ذلك سوف يكون ضروريا من أجل الحفاظ على النظام الليبرالي الدولي القائم على أساس القواعد.

ويقول هال براندز أستاذ الشؤون العالمية في كلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية “قد لا يكون أعداء الولايات المتحدة متحالفين رسمياً، ولكنهم متحالفون ضمنياً في منطقة حرجة وهي قلب أوراسيا، حيث لا يمكن للولايات المتحدة أن تتعامل عسكرياً مع مشكلة واحدة من دون النظر إلى تأثيرها في قدرتها على التعامل مع الآخرين، وفي وقت لا يمكنها تحمل رؤية التصعيد على ثلاثة مسارح عمليات عسكرية دفعة واحدة، وهو مأزق يشبه في بعض النواحي فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية”.

سيناريو المواجهة

إذا كانت الحرب بين الولايات المتحدة وخصومها ليست حتمية في أي من هذه المسارح الثلاثة، فإنها تظل احتمالاً واضحاً في كل منها، وعندما تنهار مناطق عدة في وقت واحد، فإنها يمكن أن تؤدي إلى انهيار النظام العالمي بالنظر إلى أن أوروبا والشرق الأوسط وشرق آسيا تشكل مجتمعة النواة الإستراتيجية للمسرح الأكبر وهو أوراسيا، الذي كان النقطة المحورية للسياسة العالمية في العصر الحديث، ومن خلال زرع الاضطرابات داخل هذه المناطق تهز القوى “التعديلية” وهي الدول الراغبة في تعديل النظام الدولي ركائز عدة للنظام العالمي القائم في وقت واحد.

◙ احتواء محور بكين – موسكو – طهران يتطلب التزاما متجددا تجاه الشركاء الجيوستراتيجيين الذين ربما شعروا أنه تم تهميشهم

ومن خلال متابعة وتنفيذ أجنداتهم الخاصة يخلقون فرصا للآخرين لاستغلالها، إذ إن التوترات المحمومة مع الصين وروسيا تجبر واشنطن على السير بحذر مع إيران، في حين أن الرئيس الروسي خسر رهانه بأن تركيز الولايات المتحدة على الصين سيضمن رد فعل ضعيفاً عندما هاجم أوكرانيا، ومع ذلك فإن الخطر المتمثل في أن المنافسة بين الولايات المتحدة والصين قد تتحول إلى صراع عسكري قريباً جداً، لا تزال تمنح بوتين الأمل في أنه يمكن أن ينتصر إذا تمكن من الصمود.

وغالباً ما تعاني حكومة الولايات المتحدة في التعامل مع أكثر من أزمة واحدة في وقت واحد، لأن اهتمام كبار صانعي السياسة محدود، كما تتمتع أميركا حالياً بقدرة أقل على التعامل مع تحديات عسكرية عدة مقارنة مع أي وقت مضى منذ الحرب الباردة، فقد أدت التخفيضات الدفاعية الكبيرة في أوائل عام 2010، في ظل الأزمة الاقتصادية التي ضربت البلاد وبعد سحب معظم القوات من العراق وأفغانستان، إلى جانب تراجع بيئة التهديد العالمية ضد الولايات المتحدة، إلى إجبار واشنطن على تبني إستراتيجية الدفاع في “حرب واحدة”، بدلا من قدرتها على خوض حربين متزامنتين خلال فترة التسعينات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

ويعكس هذا التحول الإدراك المتأخر في واشنطن بأن حربا كبرى مع خصم قوي مثل الصين ستفرض أعباءً كبيرة على الجيش الأميركي، ومع ذلك فهذا يعني أن البنتاغون يفتقر إلى الموارد اللازمة للتعامل مع حالات الطوارئ العنيفة لخوض حربين متزامنتين، ناهيك عن ثلاث حروب إذا حدثت في وقت واحد أو في تتابع وثيق.

العرب