مع انطلاق الحملة الدعائية الخاصة بالانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة التي أُعلن بشكلٍ نهائي انعقادها يوم 14 مايو 2023؛ تستعد التحالفات والأحزاب المختلفة ومُرشحوها لخوض معركة انتخابية تأتي في مرحلة شديدة الخصوصية والحساسية سواء على صعيد الداخل التركي، الذي يشهد تحديات عديدة على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية، أو على الصعيد الخارجي وما تشهده الساحة السياسية العالمية من تطورات ومُستجدات ذات أهمية كبيرة بالنسبة لرسم مستقبل السياسة الخارجية التركية، وتحديد دورها في خريطة القوى الإقليمية والدولية.
ولعل أبرز ما يجب استعراضه ومناقشته خلال هذه المرحلة، هو القانون الانتخابي في تركيا والآلية التي سيتم على أساسها انعقاد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، إضافة إلى التعرف على خريطة المرشحين للرئاسة من حيث مناصبهم، وانتمائاتهم الحزبية والسياسية، فضلاً عن تحديد اتجاهات وتفضيلات بعض الفئات الاستثنائية التي من المُتوقع أن يكون لها تأثير خاص على نتائج الانتخابات. وفي النهاية يمكن تحليل مدى الارتباط والتأثير المُتبادل بين ملف الانتخابات التركية والعديد من الملفات الإقليمية والدولية الأخرى التي تنخرط فيها تركيا.
خريطة المرشحين للانتخابات
وفقًا للدستور وقانون الانتخابات التركي، بالنسبة للانتخابات البرلمانية فمن المُقرر أن تنعقد بنظام التمثيل النسبي بمشاركة 36 حزبًا لانتخاب 600 عضوًا يمثلون 87 دائرة انتخابية في 81 ولاية تركية، وذلك على أن تكون العتبة الانتخابية 7% من الأصوات يحصل عليها الحزب مُنفردًا أو بالتحالف مع أحزاب أخرى. أما بالنسبة للانتخابات الرئاسية فمن المُقرر أن يتم انتخاب رئيسًا للبلاد لمدة 5 سنوات من خلال نظام تصويت من جولتين، ويكون الترشح في الانتخابات إما عبر الأحزاب التي تُشكل كتلة في البرلمان تتكون على الأقل من 20 نائبًا، أو التي فازت بنسبة 5% من أصوات العتبة الانتخابية في الانتخابات البرلمانية السابقة، وإما بشكلٍ مستقل من خلال جمع المُرشح لـ 100 ألف توقيع من الناخبين المُسجَّلين.
وقد أعلن المجلس الأعلى للانتخابات أن من بين 11 شخصية تمت الموافقة على ترشحها للانتخابات الرئاسية، استطاع مرشحان فقط الحصول على 100 ألف توقيع لخوض السباق الرئاسي في جولته الأولى يوم 14 مايو 2023، إلى جانب كل من رجب طيب أردوغان، و كمال كيليتشدار أوغلو، اللذين يستوفيان باقي الشروط. وفي حال لم يحصل أي من المرشحين الأربعة على نسبة الحسم (50+1) من الأصوات، يتم عقد جولة ثانية يوم 28 مايو يخوضها المرشحان اللذان حظيا بالنسبة الأكبر من الأصوات خلال الجولة الأولى.
ويمكن التعرف بصورة أعمق على المرشحين الأربعة وعلى تحالفاتهم وانتمائتهم الحزبية والسياسية على النحو التالي:
1- رجب طيب أردوغان: الرئيس الحالي لتركيا منذ عام 2014 وزعيم حزب “العدالة والتنمية” الحاكم، يبلغ 69 عامًا، وهو مُرشح “تحالف الشعب” اليميني الوسطي، الذي تأسس عام 2018 ليُمثل التيار المحافظ المعتدل ويضم في الأساس كلاً من حزب “العدالة والتنمية”، وحزب “الحركة القومية” بزعامة دولت باهتشيلي، وحزب “الاتحاد الكبير” بزعامة مصطفى ديستيجي، إلى جانب أحزاب أخرى أعلن بعضها مؤخرًا دعم التحالف والانضمام إليه مثل حزبا “الهدى بار” الإسلامي الكردي، و”الرفاه الجديد”.
2- كمال كيليتشدار أوغلو: رئيس حزب “الشعب الجمهوري” المعارض منذ عام 2010، يبلغ 74 عامًا وينتمي للطائفة العلوية، وهو مُرشح “تحالف الأمة” أو ما يُعرف بـ “الطاولة السداسية” الذي تأسس عام 2022 بمثابة تحالف رئيسي للمعارضة التركية يضم 6 أحزاب معارضة مختلفة أيديولوجيًا ما بين علمانية، وقومية، ويمينية محافظة، وهي: حزب “الشعب الجمهوري”، وحزب “الخير” بزعامة ميرال أكشنير، وحزب “السعادة” بزعامة تمل كرم الله أوغلو، والحزب “الديمقراطي” بزعامة غولتكين أويسال، فضلاً عن حزبى “الديمقراطية والتقدم” بزعامة علي باباجان، و”المستقبل” بزعامة أحمد داود أوغلو، المُنشقين عن حزب “العدالة والتنمية”.
3- محرم إنجه: مرشح مستقل ورئيس حزب “البلد” المعارض الذي تأسس عام 2021، يبلغ 58 عامًا، وكان مُرشحًا عن حزب “الشعب الجمهوري” في الانتخابات الرئاسية التركية التي أجريت عام 2018 أمام 5 مرشحين آخرين، وحصد خلالها 30% من أصوات الناخبين في مقابل أردوغان الذي حصد 53% من الأصوات، ما تسبب في نشوب خلافات بينه وبين زعيم الحزب آنذاك، كمال كيليتشدار أوغلو، وتقديم استقالته من الحزب. ومن الناحية الأيديولوجية يميل حزب “البلد” إلى اليمين القومي، ويُعتبر سياسيًا تيارًا ثالثًا مستقلاً بين التيار الحاكم، وتيار المعارضة.
4- سنان أوغان: مُرشح تحالف “الأجداد” أو المعروف بـ تحالف “آتا”، يبلغ 55 عامًا، ويُعرف بآرائه القومية والمحافظة، وكان من أشد المُنتقدين لحزب “العدالة والتنمية” الحاكم وزعيمه أردوغان. ويُذكر أنه دخل البرلمان على قائمة حزب “الحركة القومية” عام 2011 وذلك قبل أن يتم فصله من الحزب مرتين بسبب سلوكه الذي اتهمه البعض بأنه يضر وحدة الحزب. وتحالف “آتا” يُعد حديث النشأة، تأسس في مارس 2023 لخوض الانتخابات الرئاسية التركية، ويضم 5 أحزاب تركية قومية تحت قيادة حزب “النصر” الذي يترأسه اليميني القومي، أوميت أوزداغ، المعروف بعنصريته، وعداءه الكبير للأكراد، وللاجئيين السوريين والأفغان والعرب عمومًا في تركيا.
أصوات استثنائية
أعلن المجلس الأعلى للانتخابات أن عدد الأتراك الذين يمتلكون حق التصويت يبلغ 64 مليون ناخب، منهم حوالي 61 مليون ناخب داخل تركيا. لكن الجدير بالذكر أن بعض فئات الناخبين سيكون لها تفضيلات استثنائية عن باقي الفئات انطلاقًا من اعتبارات ومصالح خاصة، وهو الأمر الذي من شأنه أن يكون له تأثير كبير على النتائج النهائية للانتخابات، وذلك على النحو التالي:
أولاً: النساء
كان حزب “العدالة والتنمية” ومُرشحه للرئاسة، رجب أردوغان، هو الاختيار التقليدي والشائع بين الناخبات الأتراك على مدار السنوات الماضية في كل من الانتخابات البرلمانية والرئاسية، إلا أن الانتخابات القادمة قد تشهد تغيرًا في توجهات الناخبات على نحو يؤثر على فرص أردوغان أمام خصومه في السباق الرئاسي، وهو الأمر الذي أشارت إليه بعض استطلاعات الرأي التي أُجريت مؤخرًا وكان من بينها استطلاع أعدته مؤسسة “الديمقراطية الاجتماعية” (SODEV) بالتعاون مع جمعية “فريدريش إيبرت” الألمانية وشركة “باناليز” للاستطلاع والأبحاث، على عينة تضم 1067 امرأة لها حق الاقتراع.
فقد كشف الاستطلاع أنه في حين صوتت نسبة 38.3% من المشاركات لصالح “حزب العدالة والتنمية” في الانتخابات البرلمانية لعام 2018، مقابل 27.8% صوتن لحزب “الشعب الجمهوري”، إلا أن نسبة 30% منهن أعربن خلال الاستطلاع عن رغبتهن في التصويت لحزب “الشعب الجمهوري” خلال الانتخابات القادمة، بينما انخفض عدد الراغبات في التصويت لحزب “العدالة والتنمية” إلى 26.6%. أي أن 7.8٪ من الأصوات النسائية التي كانت لصالح حزب “العدالة والتنمية”، ستذهب إلى حزب “الشعب الجمهوري”. وذلك في مقابل أن 79.1% من المشاركات اللواتي صوتن لصالح حزب “الشعب الجمهوري” ما زلن يفكرن في التصويت له، فيما أعرب 2% منهن أنهن سيصوتن لحزب “العدالة والتنمية” في الانتخابات القادم [1].
وفي هذا الشأن يمكن ترجيح عاملين أساسيين قد يُسهما في تآكل القاعدة الشعبية لحزب “العدالة والتنمية” بين النساء خلال الانتخابات القادمة: العامل الأول هو أن الأصوات النسائية التي كانت تذهب لصالح حزب “الخير” وقائدته ميرال أكشنير، باتت الآن تصب في مصلحة “تحالف الأمة” المعارض بقيادة حزب “الشعب الجمهوري” ومرشحه كمال أوغلو.
أما العامل الثاني فهو التحالف الذي أُعلن عنه مؤخرًا بين “تحالف الشعب”، وحزبى “الرفاه الجديد”، و”الهدى بار” المعروفين بموقفهما المؤيد والداعم لقرار انسحاب أردوغان رسميًا من اتفاقية “اسطنبول لحماية المرأة من العنف” في يوليو 2021، وهي اتفاقية أوروبية تحث الموقعين عليها على مراقبة العنف المنزلي ضد المرأة ومنعه ومحاسبة المتورطين فيه. هذا إلى جانب إصرارهما على أن تقديم دعمهما لـ “تحالف الشعب” خلال الانتخابات القادمة يكون مشروطًا بـ 30 بندًا من بينهم شرط إدخال تعديلات على قانون رقم 6284 لمنع العنف ضد النساء والأطفال، الذي صدر عام 2012 بعد عام من تصديق تركيا على اتفاقية اسطنبول[2].
ثانيًا: الشباب
من بين 64 مليون ناخب تركي، هناك نحو 6 ملايين ناخب شاب تتراوح أعمارهم بين (18 و25) عامًا ويُطلق عليهم جيل “Z”، سيقومون بالتصويت لأول مرة في الانتخابات القادمة، وهو الأمر الذي سيُشكل تحديًا كبيرًا لمُرشحي الانتخابات الرئاسية التركية، لاسيما أن هذه الفئة العمرية من الناخبين تختلف في رؤيتها وتفضيلاتها عن الفئات العمرية الأكبر سنًا التي غالبًا ما ترفض التغيير، وتميل للاختيارات الأكثر استقرارًا مثل حزب “العدالة والتنمية” الحاكم ومُرشحه أردوغان الذي يتقلد الحكم منذ عام 2014. فوفقًا للمسح الذي أجرته مؤسسة أبحاث “بوبار”، حول الميول الانتخابية للشباب في 12 منطقة مختلفة في تركيا، بمشاركة 3000 شاب، فإن 80٪ منهم سيصوتون لأحزاب ومرشحين لا ينتمون لـ “تحالف الشعب”[3].
لكن الجدير بالذكر هنا أن تناقص فرص “تحالف الشعب” ومرشحه أردوغان، لا يعني في المقابل تزايد فرص كمال أوغلو، البالغ من العمر 74 عامًا وأكبر المُرشحين للرئاسة عمرًا، خاصة أن هذه الفجوة العمرية الكبيرة بينه وبين جيل الشباب تجعله غير مُمثل لهذا الجيل وعن أفكاره وتطلعاته واحتياجاته، الأمر الذي قد يجعل فرصة محرم إنجه أكبر في استقطاب أصوات الناخبين الشباب، لاسيما أنه يبلغ من العمر 58 عامًا، ويُمثل بالنسبة لهم تيارًا مستقلاً يميل للمعارضة والرغبة في إحداث التغيير الذي يبحثون عنه.
فوفقًا لنتائج استطلاعات الرأي التي قامت بها شركة أبحاث الرأي العام Optimar خلال الفترة من (1-7) أبريل 2023، لعينة تضم 4745 ناخبًا، حاز إنجه على النسبه الأعلى من الأصوات وهي 19.5%، يليه كل من كمال أوغلو، وأوغان الذي حصل كل منهما على حوالي 15.3% من الأصوات، بينما حصل أردوغان على النسبة الأقل من الأصوات الشبابية والتي قُدرت بـ 13.6%[4].
ثالثًا: الأكراد
يُمثل الأكراد حوالي نسبة 20% من سكان تركيا، وهي نسبة قد تُسهم بدرجة ما في حسم نتائج الانتخابات القادمة، ما يجعل صوت الناخب الكردي محل تنافس واستقطاب من قبل التحالفات ومُرشحيها للرئاسة، لاسيما بعد أن أعلن تحالف “العمل والحرية” الذي يضم مجموعة من الأحزاب اليسارية والمنظمات المدنية الكردية في تركيا، أبرزها وأهمها حزب “الشعوب الديمقراطي” برئاسة مدحت سانجار، عدم طرح أي مرشح للانتخابات الرئاسية.
وعلى الرغم من إعلان حزب “الشعوب الديمقراطي” الكردي دعمه لـ “تحالف الأمة” ومُرشحه كمال أوغلو في الانتخابات القادمة، إلا أن اتجاه حزب “الشعوب الديمقراطي” لا يُمثل بطبيعة الحال أصوات جميع الناخبين الأكراد، خاصة في ظل الربط الدائم لحزب “الشعوب الديمقراطي” بحزب العمال الكردستاني المُصنف جماعة إرهابية في تركيا.
فمن خلال انضمام حزب “الهدى بار” الكردي الإسلامي -الذي سبق وأن دعم أردوغان في انتخابات عام 2018- إلى “تحالف الشعب”، يسعى أردوغان لضمان استقطاب أصوات الناخبين الأكراد المحافظين والإسلاميين المناهضين لحزب العمال الكردستاني، خاصة أن حزب “الهدى بار” يعتبر الذراع السياسي لـ “حزب الله” التركي المعروف بعداءه التاريخي مع أعضاء حزب العمال الكردستاني.
لكن يظل الجدير بالإشارة إليه هنا، أن التحالف مع التيار الكردي المُتمثل في حزب “الشعوب الديمقراطي” أو في حزب “الهادى بار” لكسب أصوات الناخب الكردي سواء بالنسبة لـ “تحالف الأمة” أو “تحالف الشعب” قد يؤدي في الوقت ذاته إلى خسارة جزء من أصوات التيار القومي المناهض للأكراد.
رابعًا: المُجنسون
يعد تفعيل قانون حقوق المُجنسين الذي يُقر بحق حاملي الجنسية التركية -سواء المُقيمين في البلاد أو خارجها- في التصويت في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية، من بين أكثر المسائل التي اثارت جدلاً واسعًا بين الحكومة التركية والمعارضة منذ عام 2018، حيث شنت المعارضة التركية بشكل عام والتيارات القومية اليمينية والمُتشددة بصفة خاصة، في السنوات الماضية، حملات واسعة ضد اللاجئين والمُجنسين، وسعت إلى استصدار قانون يمنع الحاصلين على الجنسية التركية -حديثًا-من المشاركة في الانتخابات القادمة، مُعتبرة أن مبادرة الحكومة التركية لتجنيس السوريين هي محاولة لتوظيف تلك الأصوات في الانتخابات القادمة لصالح “تحالف الشعب” ومرشحه أردوغان، إلا أن تلك المساعي باءت بالفشل، وتم إحباطها من قبل الحكومة التركية.
وتتمحور الإشكالية الرئيسية -الآن- بين الحكومة والمعارضة في الأعداد الحقيقية للمُجنسين الذين يحق لهم الإدلاء بأصواتهم والتأثير في نتائج الانتخابات المُقبلة. فمن جانب، تزعم المعارضة بقيادة كمل أوغلو أنها تمتلك بيانات تتعلق بالناخبين السوريين المُجنسين غير متوافرة لدى المجلس الأعلى للانتخابات، وأن عددهم يصل إلى ما يقرب من مليون مُجنس سوري. ومن جانب آخر ترفض وزارة الداخلية التركية اتهامات المعارضة المُشككة في نزاهة المجلس الأعلى للانتخابات وتؤكد أن أعداد المُجنسين السوريين أقل من 300 ألف سوري، وأن نسبة الذين يستوفون شروط حق المشاركة في التصويت منهم لا تتجاوز 0.178% من إجمالي أعداد الناخبين في تركيا، وبالتالي هي نسبة لن تكون مؤثرة بدرجة كبيرة في نتائج الانتخابات كما تزعم فصائل المعارضة[5].
والجدير بالذكر، أن مخاوف المعارضة من مدى تأثير أصوات المُجنسين دفع التحالف الرئيسي للمعارضة- تحالف الأمة- إلى محاولة استقطاب تلك الأصوات بالعمل على تغيير أجندته في التعامل مع هذا الملف، وتبني خطاب جديد يخدم مصالحه في السباق الرئاسي القادم، بحيث يكون أكثر تقاربًا واستقطابًا للناخب السوري المُجنس، من خلال تعزيز قنوات التواصل والتفاهم بين الجانبين. هذا في مقابل استمرار الخطابات التحريضية والمناهضة للمُجنسين التي لا تزال تتبناها التيارات القومية واليمينية المُتشددة، وعلى رأسها تحالف “آتا” الذي علق مرشحه للرئاسة، سنان أوغان، مُستنكرًا لحق المُجنسين في التصويت خلال الانتخابات المُقبلة، قائلاً: “يمنحون للاجئين السلطة لتحديد مستقبلنا”[6].
انعكاسات مُتبادلة
في سياق قراءة استعدادات الساحة السياسية التركية للانتخابات الرئاسية والبرلمانية المُقبلة، يجدر بنا مناقشة العديد من الملفات المحورية -الداخلية والخارجية- التي ترتبط بنتائج الانتخابات التركية القادمة، سواء من حيث تأثيرها المباشر وغير المباشر على أصوات الناخب التركي، أو من حيث انعكاس تداعايات نتائج الانتخابات على مستقبل الإدراة التركية لها، لاسيما في ظل تباين مواقف وسياسات المُرشحين وتحالفاتهم الحزبية تجاه تلك الملفات.
اولاً: ملفات داخلية
بطبيعة الحال تعتبر الملفات الداخلية هي الأكثر حساسية وتأثيرًا على أصوات وتفضيلات الناخب التركي، خاصة أنها تؤثر على حياته ومصالحه الخاصة بصورة مباشرة، الأمر الذي يجعلها أيضًا أكثر الملفات توظيفًا من قِبل المُنافسين لكسب المعركة الانتخابية القادمة. ويمكن تناول أبرز 3 ملفات داخلية على النحو التالي:
1- ملف الوضع الاقتصادي
يعتبر الملف الاقتصادي من بين أبرز الملفات التي كانت وستظل الأكثر توظيفًا واستغلالاً من قِبل تيارات المعارضة التركية للتشكيك في مدى كفاءة النموذج الاقتصادي الذي يتبناه أردوغان منذ وصوله لسُدة الحكم، وإقناع الناخب التركي بأن المعارضة ستتبنى إدارة اقتصادية مختلفة جذريًا عن تلك التي تتبناها الحكومة الحالية، أبرزها منح البنك المركزي استقلاليته، خاصة أن السياسات الاقتصادية والإجراءات المالية التي اتبعها أردوغان خلال السنوات الأخيرة، وعلى رأسها السيطرة على البنك المركزي، وتخفيض أسعار الفائدة وتثبيت سعر صرف الدولار أمام الليرة، أدت إلى ارتفاع معدلات التضخم في تركيا إلى أعلى مستويات لها، وتراجع قيمة الليرة بنحو 30% أمام الدولار خلال عام 2022 بسبب انخفاض رصيد احتياطي البنك المركزي من النقد الأجنبي.
فقد أعلنت وكالة “ستاندرد آند بورز” (S&P) في أبريل 2023 أن التصنيف الائتماني السيادي طويل الأجل لتركيا يُصنف في مستوى “B”، وتم تعديل النظرة المستقبلية للاقتصاد التركي من مستقرة إلى سلبية. ووفقًا للوكالة سينمو الناتج المحلي الإجمالي لتركيا في نهاية العام 2023 بما يزيد قليلاً عن 2%، وذلك مقارنة بزيادة قدرها 5.6% في العام الماضي[7].
وفي محاولة لإثبات نجاح النموذج الاقتصادي الذي تتبناه إدارة أردوغان، يسعى الأخير من خلال اتخاذ بعض التدابير والإجراءات الاقتصادية إلى استعادة ثقة الناخب التركي في قدرة الحكومة الحالية على تخفيف أثر تدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي على المواطنين، بسبب ارتفاع الأسعار وانخفاض القيمة الشرائية لليرة. فمن بين أبرز تلك الإجراءات، الإعلان عن مزيد من فرص التوظيف، ورفع الحد الأدنى للأجور، وزيادة معاشات المُتقاعدين، والإعلان عن مشاريع إسكان كبيرة بأقساط بسيطة مدعومة من الحكومة، وإلغاء ديون بعض الفئات الأكثر هشاشة، وتسهيل القروض، فضلاً عن برامج مكافحة التضخم المستمرة.
لكن على الرغم من تصريحات الرئيس أردوغان ووزير المالية والخزانة التركي المؤكدة على أن الشهور الأولى من عام 2024 ستشهد انخفاضًا في نسبة التضخم، استنادًا على نجاح البنك المركزي -مؤخرًا- في خفض معدلات التضخم من 86% في أكتوبر عام 2022 إلى 55.18% في فبراير عام 2023[8]، إلا أنه في حقيقة الأمر من غير المُتوقع أن يستمر التضخم في الانخفاض بنفس الوتيرة -مع استمرار السياسات المُتبعة- لاسيما بعد الأعباء المالية التي تتكبدها الميزانية التركية بسبب المليارات التي تُنفق في مواجهة تبعات كارثة الزلزال من مساعدات مالية، وجهود إعادة إعمار البنى التحتية في المناطق المنكوبة.
2- ملف اللاجئين
يعد ملف اللاجئين من بين أهم وأبرز الملفات الداخلية التي من شأنها أن تؤثر على الناخب التركي، وعلى مصير الملايين من المُقيمين الأجانب في تركيا، لاسيما أنه على مدار السنوات الماضية وظفت المعارضة التركية هذا الملف في معركتها ضد حكومة أردوغان وحزبه الحاكم، في محاولة دائمة لتأسيس علاقة سببية بين سياسة “الباب المفتوح” التي تبناها أردوغان وسمحت للعديد من اللاجئين وطالبي الهجرة بالإقامة والتجنس والانخراط في سوق العمل -بصورة قانونية ورسمية- وبين تأزم الأوضاع الاقتصادية والمعيشية ونقص فرص العمل المتاحة للمواطنين الأتراك، الأمر الذي أدى إلى تنامي وانتشار ممارسات الاضطهاد والعداء تجاه اللاجئين، خاصة السوريين. فوفقًا للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشئون اللاجئين، يصل عدد اللاجئين السوريين المُسجّلين في تركيا إلى أكثر من 3 ملايين لاجئ سوري، من بين حوالي 6 ملايين لاجئ، بعضهم غادر البلاد، والبعض الآخر لا يزال يعيش بموجب “الحماية المؤقتة”.
وعلى الرغم من تعهد أردوغان أمام المجتمع الدولي بأنه سوف يضمن ترحيل طوعي وآمن لمليون لاجئ سوري إلى تجمعات سكنية آمنة ومُجهزة في مناطق شمال سوريا بمساعدات دولية، ودعم منظمات مدنية تركية، في إطار مشروع “إعادة التوطين” الذي أُعلن عنه في مطلع شهر مايو عام 2022، لكن المعارضة التركية تعتبر تلك الخطوة ليست إلا محاولة لتوظيف اللاجئين كورقة ضغط ومقايضة، للحصول على مكاسب سياسية في الداخل والخارج، وضمان مساعدات مالية من الغرب.
وانطلاقًا من هذا الأساس، يعتمد خصوم أردوغان على هذا الملف في عملية جذب الأصوات المناهضة لسياسات الهجرة واللجوء والتجنيس التي تتبناها الحكومة الحالية، من خلال تكثيف الاتهامات والشعارات المناهضة لوجود الأجانب على الأراضي التركية. فمن جانب، قدم البرنامج الانتخابي المُعلن لـ “تحالف الأمة” وعودًا بإعادة اللاجئين السوريين الخاضعين للحماية المؤقتة إلى بلادهم في أقرب ممكن، والانسحاب من اتفاقية “الهجرة وإعادة القبول” المُوقعة بين تركيا والاتحاد الأوروبي، وتضييق نطاق منح الجنسية الاستثنائية من خلال مراجعة القانون ذي الصلة واللوائح المرتبطة به، وذلك استكمالًا للحملة التي أطلقها حزب “الشعب الجمهوري” قبل شهور بعنوان: “أيها العالم جئنا لنتحداك، تركيا لن تكون مخيَّمك للاجئين”[9].
ومن جانب آخر، استغل زعيم حزب “النصر” القومي -المعروف بعداءه للاجئين-، أوميت أوزداغ، كارثة الزلزال لإثارة روح العداء تجاه اللاجئين السوريين، بزعم أنهم ينهبون المناطق التي ضربها الزلزال، خاصة أن تلك المناطق تستضيف أكثر من مليون لاجئ سوري. وتوعد أوزداغ، أنه في حال وصول مُرشح تحالف “آتا” إلى سُدة الحكم، سيتم ترحيل جميع الأجانب إلى بلادهم خلال عام واحد. وعلى غرار أوزداغ، اعتبر مُرشح الرئاسة، محرم إنجه، الزلزال فرصة لاتهام السلطات التركية بالتهاون في تأمين حدودها، وترك المعابر الحدودية مفتوحة أمام اللاجئين السوريين الذين يواصلون التدفق إلى تركيا بعد وقوع الزلزال، وهي ادعاءات نفتها الحكومة التركية وأكدت عدم صحتها.
3- ملف الزلزال
لم تقتصر تبعات كارثة الزلزال الذي ضرب 11 ولاية في جنوب تركيا يوم 6 فبراير 2023 على الخسائر البشرية والمادية فقط التي قُدر كل منها بالآلاف، إنما امتدت الكارثة لتُلقي بظلالها على ساحة التنافس السياسي بين الحكومة التركية والمعارضة. فقد سعى كل جانب لتوظيف الأزمة سياسيًا، واستثمارها باعتبارها فرصة لاستقطاب المزيد من الأصوات في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة.
فمن جانبها استغلت المعارضة إقرار الرئيس أردوغان بأن الاستجابة للزلزال في البداية لم تكن بالكفاءة المطلوبة بسبب المسافة التي تبعدها المناطق المنكوبة وما نتج عن ذلك من صعوبة في إيصال المساعدات الإنسانية بالسرعة الكافية، للتأثير على القاعدة الشعبية لأردوغان وحزبه الحاكم، والمطالبة بتأسيس محاكم جديدة تُسمى “محاكم الزلزال” لاتخاذ قرارات سريعة تدين الحكومة وتثبت تقصيرها، وفشلها في إدارة الأزمة.
هذا، بالإضافة إلى مطالب “تحالف الأمة” بشأن اتخاذ تدابير تضمن نزاهة الانتخابات من أي تلاعب بأصوات الذين لقوا حتفهم في الزلزال ومازالوا مُقيدين في السجلات، وذلك من خلال طلب مراجعة قوائم الناخبين الصادرة في 31 ديسمبر 2022 ومقارنتها بسجلات الناخبين النهائية في مناطق الزلزال للتأكد من إزالة أسماء الأشخاص الذين لقوا حتفهم من تلك السجلات، وأيضًا التأكد من أن الناخبين الذين غيروا أماكن إقامتهم بعد الزلزال قد تم تسجيلهم في مراكز اقتراعهم الجديدة.
وتعتبر “موقعة الدمى” إحدى أشهر مظاهر انتقال المعركة الانتخابية بين أردوغان والمعارضة إلى ساحات الملاعب الرياضية. ففي احدى مباريات الدوري التركي لكرة القدم يوم 27 فبراير 2023 هتف المشجعون مُطالبين باستقالة الحكومة التركية، وقاموا بإلقاء الدمى من المدرجات في الملعب عند الدقيقة الرابعة و17 ثانية من المبارة، وهو التوقيت الذي ضرب فيه الزلزال جنوب شرق تركيا في الساعة الرابعة و17 دقيقة صباحًا، الأمر الذي دفع زعيم حزب الحركة القومية، دولت بهلتشي، بالدعوى لإقامة مباريات الدوري بدون جماهير، خاصة أن “موقعة الدمى” تعتبر هي المرة الثانية التي يهتف فيها مشجعون كرة القدم ضد الحكومة والحزب الحاكم منذ عودة الدورى التركي هذا العام[10].
وفي مواجهة حملات المعارضة ضد الحكومة التركية، سعت حكومة أردوغان من جانب آخر إلى تحويل كارثة الزلزال إلى فرصة لاثبات مدى قدرة الدولة على إدارة الأزمة، وذلك من خلال عملها على تعزيز جهود الإغاثة وسياسات تعويض المُتضررين، وأهالي الضحايا سواء بتقديم المساعدات المالية، أو بسرعة بدء برامج إعادة اعمار البنى التحتية في المناطق المنكوبة. بالإضافة إلى إطلاق “نموذج درع المخاطر الوطني التركي” خلال الاجتماع الذي عقده الرئيس أردوغان يوم 3 مارس 2023 في اسطنبول بحضور علماء وخبراء محليين ودوليين، بهدف وضع استراتيجية شاملة لتحدي المخاطر الطبيعية التي قد تصيب تركيا في المستقبل، ومناقشة أفضل آليات مواجهة الكوارث الطبيعية التي تضرب البلاد من زلازل وفيضانات وسيول وحرائق وغيرها[11].
ثانيًا: ملفات خارجية
على عكس الملفات الداخلية، تعتبر الملفات الخارجية المرتبطة بنمط إدارة السياسة الخارجية التركية أكثر تأثرًا بالنتائج التي ستتمخض عنها الانتخابات، من كونها مؤثرة على قرارات الناخب التركي، خاصة أن تركيا تعتبر من الدول النشطة على المستويين الإقليمي والدولي. بالتالي من المُتوقع أن يكون مصير ملفات السياسة الخارجية التركية مرهونًا بنتائج الانتخابات المُقبلة، وبمستقبل الإدارة التركية الجديدة، وما إذا كانت ستشهد تغيرًا في أولوياتها وأهدافها وانحيازاتها، أم لا. ويمكن استعراض أبرز الملفات الخارجية على النحو التي:
1- العلاقات مع سوريا
منذ اللقاء الأول الرسمي الذي نظمته موسكو بحضور وزير الدفاع الروسي لكل من وزير الدفاع التركي ووزير الدفاع السوري في نهاية عام 2022، بهدف تطبيع العلاقات بين الجانبين وإيجاد حل للأزمة السورية وملف اللاجئين وتعزيز التعاون المشترك بين البلدين في حربهما ضد التنظيمات المتطرفة والإرهابية، يسعى أردوغان لتكثيف جهود التطبيع مع سوريا وتسريع وتيرة ترحيل اللاجئين السوريين إلى بلادهم بما يُسهم في إرضاء فئة كبيرة من الناخبين الأتراك، ويُعزز من قاعدته الشعبية قبل بدء الانتخابات التركية يوم 14 مايو 2023.
لكن الجدير بالذكر أن ما يقف حائلاً أمام تلك المساعي والجهود، هو اشتراط الجانب السوري سحب تركيا لجميع قواتها من الأراضي السورية لاستكمال إجراءات التقارب والتنسيق بين الجانبين في باقي الملفات، وهو شرط يرفضه أردوغان ويستبعد الامتثال له، لاسيما في ظل العلاقات التي تربط حزب الاتحاد الديمقراطي بحزب العمال الكردستاني الإرهابي، حسب الادعاءات التركية، والتعاون المشترك بين الجيش السوري ووحدات حماية الشعب الكردية في إدارة أجزاء من الأراضي السورية، ما يؤدي في النهاية إلى استمرار تأجيل اللقاء المُنتظر بين أردوغان وبشار الأسد، خاصة أن الأخير قد يأمل في قدوم إدارة تركية جديدة تكون أكثر امتثالاً وتجاوبًا مع مطالبه وشروطه.
ففي واقع الأمر، قد تكون فرص الأسد في التفاوض أفضل مع نجاح تحالف المعارضة في الوصول إلى سُدة الحكم مقارنة بباقي التيارات ومُرشحيها، خاصة أن مسألة انخراط أنقرة في العديد من الملفات الخارجية، على رأسها ملف الأزمة السورية، وما ترتب على ذلك من أعباء وخسائر اقتصادية وإنسانية، كانت ولاتزال واحدة من بين أبرز القضايا الخلافية بين إدارة أردوغان، وقوى المعارضة. فعلى غرار سياسة أردوغان، أعلن مُرشح التيار القومي المُتشدد، سنان أوغان، رفضه لشرط الأسد بشأن سحب القوات التركية من الأراضي السورية، مُطالبًا في البداية بإجراء عملية مشتركة بين البلدين ضد قوات حزب العمال الكردستاني لضمان تأمين الحدود التركية – السورية من خطر العمليات الإرهابية التي تشنها عناصر التنظيم ضد قوات تركيا، وداخل أراضيها.
2- العلاقات مع روسيا
على الرغم من أن العلاقات التركية – الروسية تشهد تناميًا ملحوظًا منذ اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية، وذلك على خلفية جهود الوساطة التي تلعبها تركيا بين الجانبين، فضلاً عن الاتفاقيات والمشاريع التجارية والاستثمارية المشتركة بين البلدين التي من المُتوقع أن يكون لها دور كبير في تخفيف وطأة أزمتي الغاز والغذاء في العالم، إلا أن الانتخابات التركية قد يكون لها أثر كبير في تعديل طبيعة هذا الدور، سواء بتعزيزه أو بتراجعه.
فبرغم مساعي أردوغان لأن تصبح تركيا مركزًا لتصدير الغاز الروسي إلى أوروبا، من خلال تحويل مسار الغاز الطبيعي الروسي من خطوط أنابيب “السيل الشمالي” إلى منطقة البحر الأسود وتركيا، وهو الأمر الذي من شأنه أن يكون له صدى إيجابي في الداخل التركي على مكانة أردوغان الشعبية خلال الانتخابات القادمة، إلا أن هذا الملف قد يشهد بعض العراقيل بسبب الخسائر الاقتصادية التي تكبدتها تركيا جراء كارثة الزلزال، والحاجة إلى المزيد من الاستثمارات الروسية لاستكمال مشاريع الطاقة المُتفق عليها من قبِل الجانبين.
إضافة إلى ذلك، فإنه في حال استطاع مُرشح “تحالف الأمة” الإطاحة بأردوغان والوصول إلى الحكم، فعلى الأرجح، قد تشهد العلاقات بين الجانبين تدهورًا -نسبيًا- خاصة بعد التصريحات التي أدلى بها كبير مستشاري السياسة الخارجية لكمال أوغلو، أونال تشافيقجوز، في إحدى المقابلات في نهاية شهر مارس 2023، بشأن عدم تكافؤ العلاقات بين تركيا وروسيا، والإشارة إلى ضرورة تقليل اعتمادية تركيا في واردات الطاقة على روسيا، ومراجعة المشاريع المشتركة بين البلدين، فضلاً عن تأكيده على موقف السياسة الخارجية لبلاده -كعضو في الناتو- من الحرب الروسية – الأوكرانية[12].
وعلى غرار ضبابية مستقبل ملف مشاريع الطاقة بين الجانبين، تترقب تركيا مستقبل صفقة الحبوب التي تم توقيعها بين كل من تركيا وروسيا وأوكرانيا والأمم المتحدة في 22 يوليو عام 2022 تحت مُسمى “وثيقة مبادرة الشحن الآمن للحبوب والمواد الغذائية من الموانئ الأوكرانية”، والتي كان من المُفترض أن يتم مدها تلقائيًا للمرة الثانية لمدة 120 يوم آخرين، إلا أن روسيا قررت تمديد الصفقة لمدة 60 يوم فقط. بالتالي ستنتهي فترة المد بعد انتهاء الانتخابات التركية، ويبقى مستقبل تمديد الصفقة للمرة الثالثة مرهونًا بطبيعة الإدارة التركية الجديدة، وما إذا كانت ستتبع نفس نهج الإدارة القديمة في التفاوض والتنسيق مع أطراف الصفقة، أم لا.
3- العلاقات مع الغرب
على الرغم من تعدد الملفات الخلافية العالقة بين تركيا والمعسكر الغربي الذي يضم كلاً من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، إلا أن مسألة الدعم الأمريكي للمعارضة التركية -بشكل خاص- كانت دائمًا محور توتر وخلاف حاد بين إدارة أردوغان والولايات المتحدة الأمريكية، لاسيما منذ اتهام أنقرة لواشنطن بدعم وحماية المعارض التركي، فتح الله غولن، المُتهم بتدبير الانقلاب الذي شهدته تركيا عام 2016، والذي ترفض الولايات المتحدة الأمريكية تسليمه لتركيا.
فعلى خلفية انتخابات عام 2018 -التي حظيت فيها المعارضة التركية بالدعم الأمريكي- تسببت زيارة السفير الأمريكي في أنقرة لمكتب مرشح تحالف المعارضة للرئاسة، كمال أوغلو، يوم 29 مارس 2023، في غضب أردوغان واتهامه للسفير بتجاوز حدوده ومهام منصبه، حيث يأتي الغضب التركي في ظل الاتجاه الذي يتبناه الإعلام الأمريكي محاولاً التأثير على قرارات الناخب التركي من خلال الهجوم على أردوغان، والترويج لأن وصول المعارضة للحكم في الانتخابات القادمة يُعتبر بمثابة فرصة أفضل للتقارب الغربي – التركي، وانفراجة لتركيا من الأزمات والعقوبات الاقتصادية التي ورطها فيها أردوغان وحكومته.
في مقابل هذا الدعم، وبرغم عدم وضوح ملامح استراتيجية السياسة الخارجية التركية تجاه الغرب في حال فوز المعارضة، إلا أن وثيقة السياسات المشتركة التي أعلن عنها “تحالف الأمة” أشارت في العديد من النقاط إلى أنه سيتم العمل على تعزيز التفاهم وبناء الثقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وتكثيف الجهود بشأن إعادة تركيا إلى مشروع الطائرات المقاتلات (إف- 35)، في إشارة إلى أن شراء تركيا لمنظومة الدفاع الروسية (إس-400) -التي اثارت حفيظة “الناتو” والولايات المتحدة الأمريكية- كانت خطوة غير صحيحة من إدراة أردوغان.
وإلى جانب ما سبق، فإنه رغم مساعي أردوغان للحفاظ على حالة الحياد الإيجابي التي يتبناها منذ الحرب الروسية – الأوكرانية، لموازنة موقفه بين المعسكرين الشرقي والغربي ولعب دور الوساطة بين الجانبين، إلا أن وصول المعارضة لسُدة الحكم -غالبًا- ما سيحمل للمعسكر الغربي مكاسب أكبر في حربه ضد روسيا، خاصة أن المعارضة ستسعى لتعزيز دور تركيا كحليف موثوق فيه بالنسبة للغرب، بما يُعزز من فرصها في تحقيق حلم الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
في الختام، يمكن القول إنه بقراءة المشهد العام في تركيا، قد يرى البعض أن فرص فوز المعارضة تفوق فرص استمرار أردوغان في الحكم، خاصة في ظل توقع عزوف أغلب الأصوات الاستثنائية عن التصويت لأردوغان، وكذلك بالنسبة لتأثير الملفات الداخلية والخارجية على فرص نجاح أردوغان في الانتخابات، لاسيما في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في الداخل التركي، وتنامي حالة الاستياء الشعبية من السياسة الخارجية التركية في عهد أردوغان، وتعدد الملفات الخلافية على المستويين الإقليمي والدولي.
لكن في واقع الأمر، قد يكون استمرار أردوغان في الحكم بالنسبة لفئة واسعة من الناخبين الأتراك، هو ضمان لحالة من الاستقرار والاتزان لا توفرها لهم المعارضة التركية. فمثلما راهن “تحالف الأمة” على أن مسألة التنوع بين الأيديولوجيات الفكرية المختلفة قد يضمن له كسب المزيد من الأصوات من جميع التيارات، على الأرجح سيكون ذلك التنوع مصدر عدم ثقة الناخب التركي، خاصة في ظل تنامي الخلافات بين أحزاب التحالف، بدءًا من عدم التوافق على مرشح الرئاسة، كمال أوغلو، وحتى الخلاف بشأن إعداد قوائم الانتخابات البرلمانية.
بالتالي، على الأرجح سيكون من الصعب حسم الانتخابات من الجولة الأولى، لاسيما في ظل وجود مرشحين آخرين أحدهما محسوب على تيار المعارضة، والآخر على التيار القومي، الأمر الذي سيؤدي بطبيعة الحال إلى تفتت الأصوات بين المرشحين الأربعة وعدم حصول أى منهم على نسبة الحسم (50+1). في هذه الحال سيتم إجراء جولة ثانية، قد يسعى خلالها الناخب التركي إلى ضمان التوازن بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، من خلال اختيار المرشح الذي لم يفز تحالفه بالكتلة الأكبر في البرلمان.
مركز الأهرام للدراسات