بقدر ما كانت القمة العربية الأخيرة في جدة رسالة سعودية وعربية شاملة إلى العالم ودول الإقليم المحيطة، فحواها عزم واضح على تحقيق أولويات السلام والتنمية، بقدر ما أثارت توجساً وارتباكاً بل وردوداً غير مبررة، مباشرة أو غير مباشرة من بعض تلك الدول.
كانت الدولة المضيفة، السعودية، أعدت المسرح الملائم لقمة مسؤولة وناجحة وقرأت الوضع العربي والدولي جيداً، وأحيت العلاقات الثنائية المتوترة منذ أعوام مع إيران في اتفاق رعته الصين، وطورت اتصالات متوازنة مع الأقطاب العالميين، انعكست في دعوتها اثنين من الشخصيات التي تختصر عالم الأزمات إلى القمة، الرئيس السوري بشار الأسد الحليف الأول لروسيا وإيران، والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي الوجه الأبرز في التحالف الغربي المناوئ للبلدين، كما كانت تلك خطوة مسؤولة لترسيم المصالح والموقع العربي في عالم متناحر، ومن هذا الموقع جرى تحديد الأولويات العربية في اللحظة الراهنة وتأكيد العزم على تحقيقها.
صدرت تلك الأولويات في “إعلان جدة” بنقاطه التفصيلية التي تتضمن حرصاً تفصيلياً على مصالح كل الدول العربية من جهة، وتأكيداً على تطوير علاقات حسن الجوار واحترام مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية من جهة أخرى، وكان هذا الكلام موجهاً خصوصاً لدولتي إيران وتركيا باعتبار أن القمة جددت الموقف المبدئي في دعم حق الشعب الفلسطيني بدولته المستقلة استناداً إلى قرارات الشرعية الدولية والمبادرة العربية.
كيف تعاملت دول الإقليم الرئيسة مع إعلان جدة؟
في الجواب عن هذا السؤال تتضح المواقف والنيات، وهي متباينة بين دولة وأخرى، إذ لاقت الأوساط التركية مقررات القمة بارتياح، ولاحظت وكالة “الأناضول” الرسمية أن القمة أظهرت “إشارات إيجابية” تجاه تركيا، وأن “البيان الختامي جاء خالياً من أي بند محدد في شأن أنقرة، بخلاف “تحفظات” خلال الأعوام السابقة تناولت تدخلاتها في عدد من الدول العربية.
وأكد البيان الختامي “وقف التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية للدول العربية، والرفض التام لدعم تشكيل الجماعات والميليشيات المسلحة الخارجة عن نطاق مؤسسات الدولة”، وعملياً ينطلق النص من روحية البيان السعودي – الإيراني في بكين، ويأخذ بعين الاعتبار تجربة بلدان عربية مسيرة مع الميليشيات وداعميها الخارجيين، ومنهم على وجه التحديد إيران الأكثر نشاطاً في هذا المجال وتركيا التي خاضت تجربتها الميليشياوية الخاصة في سوريا وليبيا، وهذا النص فيه من دون تسمية ما يكفي للقول برفض التدخلات على أنواعها، ومنها التركية والإيرانية خصوصاً.
ردود الفعل التركية الأولية كانت مرحبة بـ “إعلان جدة”، وسيتم تقييم موقف أنقرة بعد انتهاء انشغالاتها بالانتخابات الرئاسية، غير أن الاعتقاد السائد أن صفحة من العلاقات الإيجابية ستفتح بين الجانبين العربي والتركي بدأت بوادرها في استعادة التواصل الخليجي والمصري مع الحكومة التركية.
الجانب الإيراني لم يظهر مسؤولوه ارتياحهم للمقررات العربية، وكان منتظراً أن يكرروا رفضهم للقرار العربي الثابت في دعم حق دولة الإمارات بجزرها الثلاث التي تحتلها إيران منذ عام 1971 (طنب الكبرى والصغرى وأبو موسى)، إلا أنهم ذهبوا أبعد من ذلك في انتقاد المقررات وتحريك أذرعهم لنسف القرار المتعلق برفض التدخلات ودعم الميليشيات خارج سيادة الدول.
ولم توضح الخارجية الإيرانية مقصدها من غياب “خطوة إيجابية وبناءة نحو توطيد السلام والتكامل الإقليمي” في مقررات جدة، لكن سلسلة مواقف وتحركات اتخذها أنصار إيران الأساسيين في المنطقة يمكن أن تلقي الضوء على حجم استياء طهران من نتائج القمة وإصرارها على المضي في سياسة توطيد نفوذها الإقليمي.
وغداة انتهاء اللقاء العربي في جدة سارع الحوثيون الذين تربطهم بإيران أواصر لا تخفى على أحد، وبالتزامن مع تعليقات وزارة الخارجية الإيرانية، إلى رفض المقررات العربية الخاصة باليمن، وقالت وزارة خارجية الحوثي إن المقررات “لم تختلف عن سابقاتها في ما يتصل بالحرب…”، ورفضت تأكيد القمة على المرجعيات الثلاث للحل السياسي في اليمن، وهي القرار الدولي (2216) والمبادرة الخليجية ومخرجات الحوار الوطني اليمني، وقالت إنه “أكل عليها الدهر وشرب”.
يصعب اتخاذ مثل هذا الموقف بمعزل عن المناخ الإيراني، و”حزب الله” الذي استعمل يوماً تعابير الحوثي نفسها في وصف “إعلان بعبدا” الذي كان يرمي إلى الحد من تدخلات الحزب خارج لبنان قال “اغلوه واشربوا مياهه”، ونظم بعد يومين من صدور “مقررات جدة” في ما يشبه رداً على تمسكها بإنهاء أزمة لبنان الدستورية والاقتصادية ورفضها الميليشيات ضمن الدولة، مناورة عسكرية أثارت احتجاجات في لبنان رفض الحزب المذكور الاستماع إليها.
وُوضعت المناورة المذكورة في سياق جهد “محور المقاومة” بقيادة إيران استعداداً لتحرير فلسطين، لكنها حتى ذلك الحين لم تعن سوى مزيد من التفكك في الوضع اللبناني لمصلحة وضع اليد الإيرانية عليه، وهذه المرة تحت شعار مواجهة إسرائيل عبر الساحات العربية الموحدة.
وكانت معركة غزة الأخيرة وضعت أوزارها عشية القمة لكن طرفيها في القطاع حرصا خلال الأيام التالية على الإشادة بإيران، إذ قدم إسماعيل هنية شهادة بأهمية دعمها لتنظيم “حماس”، وزياد النخالة الأمين العام لـ “الجهاد الإسلامي” وعد بقصف إسرائيل من “ساحات أخرى” كما نقلت عنه وكالات الأنباء الإيرانية.
ولم يقصّر قائد الحرس الثوري الجنرال اسماعيل قاآني في الإدلاء بدلوه قائلاً “ندعم هذا المحور القوي في لبنان واليمن وسوريا وفلسطين قولاً وفعلاً، ونعمل معاً حتى زوال الكيان الصهيوني”.
ويُظهر هذا السلوك على رغم الأخطار التي يحملها مدى أهمية الاجتماع العربي الأخير، والمسؤولية الكبيرة التي ستتحملها السعودية في وضع نتائجه موضع التنفيذ، وسيتطلب ذلك جهوداً مضنية، لكن الإشارات الأولى القادمة من جدة تبشر بأن لا شيء مستحيل أمام الإرادة العربية الموحدة التي تبلورت في القمة الأخيرة.
اندبندت عربي