منذ بداية الحملة الانتخابية لاختيار رئيس جديد لتركيا قبل بضعة شهور كان الاحتمال الأرجح فوز رجب طيب أردوغان على منافسه كليتشدار أوغلو بدورة رئاسية أخرى برغم الدعاية الغربية المضادة.
هذا الترجيح كان لأسباب عديدة: أولها إنجازات الرئيس رجب طيب أردوغان ليس خلال فترته الرئاسية فحسب، بل قبل ذلك عندما كان عمدة أسطنبول في التسعينيات. فقد استطاع تطوير المدينة بشكل لافت، الأمر الذي وفر له شعبية واسعة ساهمت بإيصاله الى الرئاسة. ثانيها: أنه يستند إلى قاعدة حزبية صلبة منحته ثقتها وما تزال ترى فيه القائد القادر على إدارتها وتحقيق مكاسب سياسية لحزب العدالة والتنمية. ووفقا لبعض التقارير فإن الدعم الحزبي صلب لا يتزحزح، وقلّما يتوفر لزعيم آخر. ثالثها: أن المرشحَين الآخرَين للمنصب لا يستطيعان منافسته برغم ما يبدو من توافق في اوساط المعارضة على ضرورة إزاحة أردوغان من الرئاسة، فليس لدى تلك المعارضة أطروحات سياسية جذابة، وليست قادرة على تقديم جبهة متناغمة فكريا أو سياسيا. رابعها: أن التحول الثقافي والأيديولوجي خلال العقدين الأخيرين ساهم في تقوية تركيا وليس إضعافها، وأن عودتها إلى المحيط الذي كان عاملا مؤثرا لبناء امبراطوريتها السابقة سيساهم بإعادة إحياء دورها الطليعي، وكان للحزب الحاكم دور مباشر في ذلك.
هذه العوامل كانت ترجح كفة أردوغان، ولكن القوى الغربية بشكل عام لم تكن متحمسة لفوزه نظرا لما يمثله من تحد فكري وأيديولوجي للمشروع الغربي. فلم يعد خافيا انتماؤه الإسلامي برغم محاولاته عدم إظهار رفضه الإرث الأتاتوركي الذي حاول قبل مائة عام إقصاء تركيا عن محيطها الإسلامي عندما أسقط الخلافة الإسلامية وفرض العلمانية على تركيا وحارب مظاهر الالتزام الديني وفي مقدمتها الحجاب. واستمر الوضع كذلك حتى جاء أردوغان وأحدث تغيرا جوهريا في المجتمع التركي. وحتى اليوم حين يعدّد الإعلام الغربي إنجازات أردوغان فإنه يركز على نشر الحجاب وبناء المساجد بشكل خاص، على أمل أن يساهم ذلك في تشجيع ذوي التوجهات العلمانية ومعارضي المشروع الإسلامي للتصويت ضده.
وهناك أربع قضايا أساسية تشغل بال القادة الأتراك والمجتمع التركي بشكل عام: الوضع الاقتصادي، وقضية اللاجئين والموقف من حزب العمال التركي والدور التركي الإقليمي والدولي.
على صعيد الاقتصاد ليس جديدا القول بأن تركيا دولة عملاقة توسعت قدراتها الصناعية والتجارية والثقافية حتى أصبح لها ثقل إقليمي واسع. وبرغم توسع ذلك الاقتصاد تكرر تراجع سعر صرف الليرة التركية بشكل شبه متواصل، برغم متانة الاقتصاد. ويعزو البعض ذلك لمحاولات الغرب إضعاف الاقتصاد باستهداف العملة، كما يحدث في البلدان المستهدفة من الغرب كالعراق ولبنان وإيران التي تشهد عملاتها تراجعا في القيمة مقارنة بالدولار امريكي. برغم ذلك تتمتع تركيا باقتصاد متين متشعب، في مجالات التصنيع والانتاج الزراعي الواسع. وتعتبر من أكبر منتجي المواد الزراعية في العالم والأقمشة والسيارات ووسائط النقل ومواد الإنشاء والادوات المنزلية والكهربائية. مع ذلك استخدم ارتفاع الأسعار في العامين الأخيرين في الدعاية الانتخابية ضد أردوغان. برغم ذلك كاد يحقق نسبة الفوز بالانتخابات في الجولة الأولى التي أجريت مطلع الشهر حيث حصل على 49.5 بالمائة من الأصوات، بينما كان يحتاج للفوز بأكثر من 50 بالمائة.
اما قضية اللاجئين فهي مشكلة حقيقية لا يستطيع الساسة الأتراك تجاوزها. فهناك أكثر من ثلاثة ملايين ونصف من اللاجئين السوريين الذين عبروا الحدود خلال السنوات العشر الأخيرة، أي منذ اندلاع الأزمة التي نشبت في البلاد والصراع بين مجموعات المعارضة خصوصا المسلحة منها مع النظام السوري.
التحول الثقافي والأيديولوجي خلال العقدين الأخيرين ساهم في تقوية تركيا وليس إضعافها، وعودتها إلى المحيط كان عاملا مؤثرا لبناء إمبراطوريتها السابقة سيساهم بإعادة إحياء دورها الطليعي، وكان للحزب الحاكم دور مباشر في ذلك
اللاجئون السوريون تحولوا إلى قضية داخلية برزت بوضوح في الانتخابات الرئاسية وأصبحت تبحث عن إجابات حول سياسات المرشحين لإنهائها. ويضاف إلى ذلك أن الدول الأوروبية هي الاخرى مهتمة بقضية اللاجئين بعد أن أصبحت تركيا معبرا لهم الى أوروبا. وكثيرا ما استخدم الرئيس أردوغان قضية اللاجئين في التفاوض مع الأوروبيين. ونظرا لموقع تركيا الاستراتيجي من جهة ودورها كعضو في حلف الناتو، فقد أصبحت رقما صعبا في العلاقات الخارجية الأوروبية يتحاشى السياسيون إثارته. وقد تعهد المرشحون الرئاسيون بحل مشكلة اللاجئين بعد الانتخابات. وفي ضوء ما تشهده المنطقة من تقارب بين حكوماتها يتوقع السعي لحل مشكلة اللاجئين خصوصا السوريين منهم بتكثيف التواصل بين حكومتي البلدين.
القضية الثالثة لها طابع أمني وسياسي، وتتمثل بحزب العمال التركي الذي يسعى للانفصال، وهو أمر يرفضه الأتراك، كما ترفضه حكومات الدول التي تقطنها أقليات كردية مثل العراق وإيران. مع ذلك فقد بقي هذا الحزب شوكة في الخاصرة التركية، وأصبح يستخدم بشكل خاص للضغط على الحزب الحاكم والرئيس أردوغان. وهذه من القضايا التي تتواصل بدون أن يتضح أفق لحلها. لقد تراجع عمل الحزب المذكور وقلّت أعمال العنف والإرهاب التي يمارسها، ولكنه يهيمن على جانب من الذاكرة التركية نظرا للعدد الكبير من الضحايا الذين سقطوا خلال العقدين الأخيرين.
وحسب إحصاءات «مجموعة الأزمات» الدولية في الشهر الماضي، فقد بلغ عدد قتلى العنف السياسي والإرهاب منذ يوليو 2015 أكثر من 6500 شخص، منهم أكثر من 600 مدني والباقون من الشرطة والجنود وأصبح على المرشحين طرح سياساتهما من ذلك الحزب تناغما مع تطلعات الناخبين. ومنذ بداية الحملة الأمنية آنذاك تكبّد الحزب خسائر تجاوزت عشرة آلاف تم تحييدهم بالقتل او الاعتقال. أما انتهاء التهديدات الأمنية لتركيا فلن ينتهي تماما إلا بالتوصل ألى تفاهمات أوسع مع الدول الإقليمية الكبرى مثل روسيا وإيران والعراق وسوريا، وهذا ما أصبح جانبا مهما من السياسة الخارجية خلال السنوات الأخيرة، خصوصا مع استمرار التحسس الغربي إزاء تركيا. فبرغم كونها عضوا في حلف الناتو، إلا أن طلباتها المتكررة لعضوية الاتحاد الأوروبي لم تصل إلى نتيجة، لأن دول الاتحاد ترى هويتها الإسلامية حائلا دون ذلك.
أما القضية الرابعة فتختص بشكل خاص بالرئيس أردوغان وحزبه واتجاهه الإيديولوجي والسياسي. فمنذ سقوط الخلافة العثمانية تراجع الدور التركي الإقليمي، وتراجع نفوذ أنقرة في العالم العربي بشكل خاص. أما في وسط أوروبا وشرقها فما تزال الأواصر الثقافية بين الجمهوريات الإسلامية التي استقلت بعد تفكك الاتحاد السوفياتي تتميز بالمتانة، فأغلبها يتحدث التركية ويمتلك تراثا ثقافيا مرتبطا بالعهد العثماني. ولكن أردوغان تميز بتوسيع علاقاته مع الدول العربية والإسلامية الأخرى كإيران والعراق. وكان للبعد الإسلامي دوره في تمتين تلك العلاقات سواء مع الحكومات أم المجموعات المعارضة. فليس جديدا القول بوجود مشاعر مشتركة مع تيار الإخوان المسلمين، ولذلك توترت علاقاته مع مصر في إثر استهداف الجماعة خصوصا بعد الانقلاب العسكري على حكم الرئيس المنتخب المرحوم محمد مرسي. ويبدو أن تلك الصفحة بدأت تطوى تدريجيا بعد عقد لقاءات بين الطرفين في السنوات الأخيرة. وبعد فترة باردة من العلاقات من السعودية عادت مجددا بعد لقاءات عديدة بين مسؤولي البلدين.
ولوحظ في العقدين الأخيرين تركيز الحكومة التركية على الجانب الثقافي من خلال الانتاجات الفنية خصوصا في مجالات المسلسلات التلفزيونية التي تظهر التاريخ العثماني وشخصياته. وقد تكثفت إنتاجاتها الثقافية في العقدين الأخيرين، حتى أصبحت مسلسلاتها التلفزيونية مهيمنة على قطاعات شعبية واسعة خارج الحدود التركية. ولا يمكن إخفاء تطلع القيادة التركية السياسية والدينية لإظهار محورية الدور التركي في المشروع الإسلامي قبل سقوط الخلافة، وتصديها للمشاريع الغربية، ودور السلاطين العثمانيين في تأصيل دور الإسلام في المنطقة سياسيا وإيديولوجيا.
القدس العربي