السودان: على ماذا يصطرع العسكر؟

السودان: على ماذا يصطرع العسكر؟

ظهر قائد الجيش السوداني، عبد الفتاح البرهان، في الأسبوع الأخير، أكثر من مرة، وهو محاط بجنود وضباط، في إعلان، ربما، عن القوة، أو الحاجة لشدّ أزر المنضوين تحت رايته في الحرب الدائرة مع قائد «قوات الدعم السريع» محمد حمدان دقلو، حليفه السابق، وخصمه الراهن.
تناظر ذلك مع حديث الجيش عن تعليق مشاركته في المفاوضات التي ترعاها السعودية وأمريكا في مدينة جدة، ومطالبته الوسطاء «بإلزام الدعم السريع بتطبيق بنود الهدنة» و«الانسحاب من المرافق العامة» والمقصود بذلك خروج تلك القوات من المشافي والمرافق الطبية ومنازل المواطنين.
استدعى «حميدتي» عشرات الآلاف من عناصره في «الدعم السريع» من دارفور والأقاليم السودانية النائية لأن السيطرة على الخرطوم تعني السيطرة على السودان، ولأن هؤلاء ليسوا عناصر عسكرية تقليدية ونتيجة سوء إدارة، أو عدم وجود، خطوط إمداد، لجأ أولئك العناصر إلى احتلال المرافق العامة ونهب منازل المواطنين.
اعتراض الجيش، من جهة أخرى، على احتلال «الدعم السريع» للبيوت والمشافي، لم يكن مبعثه اهتماما بحيوات السودانيين أو بحقوق الملكية والإنسان، فقد قامت وحدات الجيش بقصف المناطق المكتظة بالسكان في الخرطوم، وبذلك شاركت المؤسسة العسكرية التقليدية بدورها في الانتهاكات التي تقوم قيادتها بادعاء استنكارها، ودفع المدنيون السودانيون الثمن مرتين.
وإذا كانت «قوات الدعم السريع» لا تستطيع الخروج من طبيعة تأسيسها كذراع قمعي إضافي للسلطة، منذ كانت تسمى «الجنجويد» التي استخدمتها السلطات السودانية في عهد عمر حسن البشير لقمع القبائل غير العربية في دارفور، وإذا كان يفترض بالجيش أن يكون أكثر انضباطا والتزاما بالقواعد التي تحاول تجنيب المدنيين تبعات القتال، فما هو سبب هذا الاستهتار الفظيع بالسكان، ولماذا هذا الاستسهال الكبير للخروج على القانون من قبل المؤسسة التي يفترض أن تحافظ على أمن البلاد والعباد؟
تجمع الطرفين أيضا علاقات التبعية والارتباط بقوى أجنبية، في الإمارات ومصر وتشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى وليبيا وجماعة فاغنر الروسية، كما جمعهما التنافس، بطريقة شديدة التهافت، على رضا إسرائيل، وسعى الطرفان إلى استخدام هذه الورقة الأخيرة بحماس شديد، ويبدو أن المزاد الإسرائيلي، قبيل بدء الصراع، رسا على البرهان.
لقد قام الطرفان المصطرعان حاليا بالاشتراك في التخلّص من الرئيس السابق البشير، ثم انقلبا لاحقا على الجماهير السودانية المنتفضة وأنهيا الحكم الانتقالي وحكومة عبد الله حمدوك، وبالتالي فإن ما جمعهما هو العمل على تركيز السلطة بينهما، وما يفرقهما اليوم هو الصراع على هذه السلطة نفسها، وعلى منع تسليمها للمدنيين.
تحاول الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية، لأسباب مختلفة، خفض حدة القتال وصولا إلى هدنة، ولكن الواضح أن الضغوط التي تملكها واشنطن والرياض غير كافية لوقف الحرب الدائرة بين البرهان وحميدتي.
يضاف إلى ذلك أن المدنيين السودانيين، وقواهم السياسية، تلقّوا، خلال الصراع الراهن، ضربات مهلكة، فصار الملايين في مرمى نيران المتحاربين، ووصل عدد النازحين واللاجئين إلى قرابة المليون، وسقط مئات القتلى وآلاف الجرحى.
يختتم هذا التدهور الشديد في أحوال السودان، مرحلة عربية كاملة، انتهت فيها نهضة الجماهير العربية للتخلص من الاستبداد، والوصول إلى نظم ديمقراطية، إلى عودة ظافرة للاستبداد لكنّها عودة إلى بلدان خربة مهدّمة مصدّعة دمّرتها الحروب الأهلية والصراعات العسكرية، غير أن ذلك يعني، من جهة أخرى، أن لا أمل للشعوب العربية بالخروج من هذا المستنقع الكبير إلا بحقبة جديدة لإنهاء النظم العسكرية ـ الأمنية وعودة الحكومات المدنية الديمقراطية.

القدس العربي