لن يشكل انتهاء تمرد مجموعة “فاغنر”، مساء أول من أمس السبت، بوساطة بيلاروسية، واستعادة المدن الروسية أجواء الهدوء تباعاً، أمس الأحد، مع انسحاب المتمردين من الشوارع، نهاية الأزمة غير المسبوقة التي تفجرت داخل روسيا ووضعتها على شفير حرب أهلية، بحسب تصريحات المسؤولين الروس أنفسهم.
وإذا كانت الكثير من التفاصيل التي رافقت التمرد وحتى لحظة الإعلان عن الاتفاق على سحب المرتزقة من الشوارع وعدم معاقبتهم لا تزال غامضة، إلا أن تداعيات مرحلة ما بعد التسوية بين الرئيس فلاديمير بوتين ومؤسس “فاغنر” يفغيني بريغوجين لن تتأخر في الظهور، بحسب الكثير من التوقعات، خصوصا بعد أن كان يوما الجمعة والسبت الماضيين الأكثر خطورة بالنسبة لبوتين، القابض على السلطة في موسكو منذ عام 2000، إذ تصرّف بشكل غير معهود، مثيراً الشكوك حول احتمال تراخي قبضته في الكرملين.
تساؤلات وشويغو
وإذا كانت الأزمة فجرت الكثير من التساؤلات حول وضع بوتين قبل وبعد التمرد، فإن علامات الاستفهام تطرح أيضاً حول موقع وزير الدفاع سيرغي شويغو والعديد من النخب الروسية في المرحلة المقبلة، في ظل تكهنات بفصول أخرى للأزمة لن تتأخر في الظهور، وهو ما ألمح إليه وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أمس الأحد بقوله “لم نر بعد الفصل الأخير من قصة تمرد فاغنر على روسيا، والأزمة في روسيا قد تستمر لأسابيع أو أشهر”.
ومن شأن ما جرى في الأيام الماضية، وأي تداعيات مرتبطة به بالأيام المقبلة، أن ينعكس على عدد كبير من الملفات، أهمها الحرب الروسية في أوكرانيا من جهة والتي أكد بوتين أمس أنها تتصدر أولوياته، والنفوذ الروسي في العديد من الدول خصوصاً في أفريقيا والشرق الأوسط، حيث كانت فاغنر تؤدي، طيلة السنوات الماضية، أدوراً عدة، بغطاء من موسكو وخدمة لمصالح الأخيرة.
معهد دراسة الحرب: دور لوكاشينكو كان مهيناً لبوتين
كما أن مصير بريغوجين سيبقى الملف الأكثر حساسية في المرحلة المقبلة، خصوصاً أن خروجه إلى بيلاروسيا وإسقاط التهم الجنائية عنه لن يعني انتهاء نفوذه داخل روسيا أو خارجها. ونحو 12 ساعة فصلت بين خطاب بوتين صباح أول من أمس السبت، الذي وصف فيه التمرّد الذي قادته “فاغنر” بـ”الخيانة”، وبين التراجع مساء اليوم نفسه ومنح بريغوجين ضمانات شخصية للذهاب إلى بيلاروسيا.
وتُشكّل هذه التحولات نقطة مفصلية في سلوك بوتين وفي كيفية التعامل مع مرحلة ما بعد انتهاء التمرد، إذ أنه من الواضح أنها لن تكون مرحلة مستقرة، خصوصاً أن وساطة الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، جعلت من بريغوجين نداً مساوياً لبوتين في الداخل، وهو أمر يحصل للمرة الأولى مع الرئيس الروسي، المعتاد على الحكم بصورة منفردة.
وكان لافتاً أن بوتين بدا بمظهر الضعيف في الداخل، بدءاً من عدم تنفيذ تعهده بسحق التمرد في المهد، أي حين أعلن بريغوجين مساء الجمعة أنه سيتوجه إلى موسكو، بل على العكس، استيقظ سكان مدينة روستوف الجنوبية، صباح السبت، على سيطرة عناصر “فاغنر” على مدينتهم، وعلى مقر القيادة العسكرية الجنوبية، التي تقود الحرب في أوكرانيا.
وبدت صورة بوتين مغايرة للرجل الذي أمر باقتحام مسرح موسكو في عام 2002، ومدرسة بيسلان في 2004 لحلّ أزمة رهائن فيهما، حيث سقط أكثر من 500 قتيل في الموقعين. وفي حين توقع الروس خصوصاً، أنه سيُقدم على ضرب “فاغنر” ومنع عناصرها من التوجه إلى موسكو، بناء على خطابه صباح السبت، إلا أنه تصرّف بصورة مغايرة في مساء اليوم عينه، بالعفو عن أفعال “فاغنر”، وترك الباب مفتوحاً لانضمام عناصر منهم إلى وزارة الدفاع الروسية بموجب عقود.
نقاط ضعف في الكرملين ووزارة الدفاع
ورأى مركز “معهد دراسة الحرب”، ومقره الولايات المتحدة، أن تمرد بريغوجين “كشف نقاط ضعف شديدة” في الكرملين ووزارة الدفاع. واعتبر أن الكرملين كافح لتقديم رد متماسك على التمرد، وأن أحد الأسباب كان “على الأرجح تأثير الخسائر الروسية الفادحة في أوكرانيا”. وأضاف المعهد في تقرير: “كان من المحتمل أن تصل قوات فاغنر إلى ضواحي موسكو لو اختار بريغوجين ذلك”.
ورأى المعهد أن دور الزعيم البيلاروسي كان “مهيناً لبوتين، وربما يكون قد ضمن للوكاشينكو مزايا أخرى”. وهو ما يطرح تحديات حول قدرة الرئيس الروسي على الإمساك بمفاصل القرار في البلاد، قبل عام تقريباً على موعد الانتخابات الرئاسية.
وأيضاً تبرز تساؤلات حول سيطرته على الجيش، الذي لم يتحرك فعلياً لضرب قافلة “فاغنر” المتجهة إلى موسكو. وكان لافتاً، في خضمّ التمرد، توقيعه قوانين رفع فيها سن التجنيد حتى عمر الـ70 عاماً، وإشراك السجناء في القتال، وإعفاء الجنود من المحاكمات الجنائية.
ومن شأن التساؤلات المطروحة أن تؤثر على مستقبل روسيا البوتينية، إذ أن سلوك الرئيس تجاه “فاغنر” مؤشر لبروز إرهاصات أخرى، ليس أولها اكتساب أوكرانيا زخماً ميدانياً يتيح لها تسريع وتيرة الهجوم المضاد، الذي بدأته منذ نحو 3 أسابيع. كما قد تعود الأفكار الانفصالية إلى الواجهة في أقاليم شمال القوقاز، ولو أن الزعيم الشيشاني رمضان قديروف لا يزال يوالي بوتين.
وقد يسمح إظهار بوتين ضعفه، في بدء حراك سياسي في جورجيا لاستعادة إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، اللذين سيطرت عليهما روسيا في حرب عام 2008. ومن شأن الضعف الداخلي أن يفسح المجال لدول آسيا الوسطى، خصوصاً كازاخستان، في الخروج من العباءة الروسية. وسيدفع هذا الضعف الدول الحليفة لروسيا، من كوريا الشمالية وبيلاروسيا والصين وإيران وفنزويلا والنظام السوري على وجه التحديد، إلى التفكير في ما إذا كان بوتين قادراً على الصمود في المرحلة المقبلة، أو القيام برد فعل يزيل فيه صورة الضعف في التصرف مع تمرد “فاغنر”.
ويبدو هنا مصير وزير الدفاع سيرغي شويغو في بالغ الأهمية، خصوصاً أنه إلى جانب رئيس الأركان فاليري غيراسيموف، كانا عرضة لهجمات بريغوجين، بسبب “خيانتهما” و”بيروقراطيتهما” و”منعهما وصول الذخائر إلى قواته”، كما ردد مراراً على موقعه على منصة “تليغرام”. وخلال التمرد غاب شويغو عن الظهور العلني، ولم يدلِ بأي موقف.
سيرة سياسية
يفغيني بريغوجين.. كيف تحوّل “طباخ بوتين” إلى “خائن”؟
غير أن وكالة “فرانس برس” ذكرت في تقرير أمس، أنه في”12 يونيو الحالي، تمت مشاركة مقطع فيديو على نطاق واسع، حيث حضر بوتين وشويغو تسليم ميداليات في مستشفى عسكري، وظهر الرئيس الروسي وهو يدير ظهره لوزير الدفاع في ازدراء واضح”. وتطرقت الوكالة إلى مسيرة شويغو في روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي ووجوده في مراكز السلطة في موسكو قبل وجود بوتين نفسه.
ولا يشكل شويغو خطراً في الأساس على بوتين، لتحدّره من أقلية عرقية غير روسية من منطقة توفا في جنوب سيبيريا، كما أن تعيينه وزيراً للدفاع في عام 2012، حصل بهدف معالجة فضيحة فساد تسبب فيها سلفه أناتولي سيرديوكوف.
وقاد شويغو، الذي لا يملك خبرة عسكرية، الجيش الروسي للتدخل في سورية في عام 2015. لكن على الرغم من علاقة الصداقة مع بوتين، إلا أن الحرب الأوكرانية تؤثر سلباً على نفوذ شويغو في الكرملين. ومن بين الأسباب التي أوردها بريغوجين للدعوة إلى إقالة شويغو من منصبه، هو أن أليكسي ستولياروف، زوج كسينيا ابنة شويغو، مدرب لياقة بدنية ابتعد عن المشاركة في الحرب. كما ذكرت وسائل إعلامية روسية معارضة بأن ستولياروف أُعجب بمنشور على وسائل التواصل رافض للحرب في أوكرانيا.
وفي وقتٍ لم يظهر بعد أي عملية تغيير في المناصب العسكرية في روسيا، نقلت “فرانس برس” عن قنوات “تليغرام” روسية، أن بديل شويغو جاهز، وهو حاكم تولا، أليكسي ديومين، الذي سبق أن شغل مناصب عليا في الجيش والأمن الرئاسي.
وأمس الأحد، تحدث بوتين من دون الإشارة إلى الاتفاق، وقال في تصريحات صحافية إن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا (الاسم الروسي لغزو أوكرانيا) تتصدر أولوياته “منذ بداية يوم عمله وحتى نهايته”. وأوضح أن زيادة وتيرة وحجم إنتاج الأسلحة لتلبية متطلبات العملية العسكرية، يجب ألا تؤثر على الالتزامات الاجتماعية تجاه المواطنين”.
وقال: “نبحث دائماً الدعم المالي، حتى يتم إنتاج الأسلحة والذخائر بالسرعة المناسبة والحجم المناسب والجودة المناسبة، وفي نفس الوقت، حتى نفي بكل التزاماتنا الاجتماعية تجاه الوطن والشعب وحل المشاكل الاجتماعية”، بما يشمل القطاع الصحي وقطاعات البناء والطرق والتعليم.
بلينكن: لم نر بعد الفصل الأخير من قصة تمرد فاغنر
وأضاف بوتين أنه “يجب أن يسير كل شيء بانسجام، وجهودنا لتعزيز القدرات الدفاعية للبلاد يجب ألا تضر بما هو الأهم والأساس، وهو الاقتصاد”. وذكر التلفزيون الرسمي الروسي أمس أن الرئيس فلاديمير بوتين سيشارك في اجتماع لمجلس الأمن الروسي في الأسبوع الحالي، من دون تأكيد ما إذا كان سيُعقد الجمعة، كما هو معتاد، أم في موعد سابق.
بريغوجين أذلّ بوتين
وعلى الرغم من الاتفاق، اعتبرت كييف أن بريغوجين أذلّ بوتين. وقال مساعد الرئيس الأوكراني ميخايلو بودولاك إن “بريغوجين أذلّ بوتين/الدولة وأظهر أنه لم يعد هناك احتكار للعنف”. ولم يكن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بعيداً عن التساؤل عن المرحلة المقبلة في روسيا، تحديداً بقوله أمس الأحد: “لم نر بعد الفصل الأخير من قصة تمرد فاغنر على روسيا، والأزمة في روسيا قد تستمر لأسابيع أو أشهر”.
وكان مساء السبت قد شهد تدخل الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو على خط الأزمة الداخلية في روسيا، معلنا تواصله مع بوتين وبريغوجين، قبل الكشف عن اتفاق لإنهاء التمرد.
ونقلت وكالة “روسيا اليوم” عن المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف، تفاصيل الاتفاق، الذي يشمل مغادرة بريغوجين باتجاه بيلاروسيا، وعودة عناصر “فاغنر” إلى معسكراتهم. وجاء في الاتفاق أن بعض مقاتلي “فاغنر”، ممّن رفضوا منذ البداية الانخراط في “حملة” بريغوجين، ستتاح أمامهم إمكانية الانضمام لصفوف القوات المسلحة الروسية والتعاقد مع وزارة الدفاع.
أما الذين شاركوا في التمرد فلن يخضعوا لأي ملاحقة قانونية. وأكد وقف أي ملاحقة قضائية بحق مقاتلي المجموعة الذين “لطالما احترمنا أعمالهم البطولية على الجبهة” في إشارة إلى قتالهم في أوكرانيا. وأوضح بيسكوف أن بوتين ولوكاشينكو، اتفقا على وساطة مينسك في عملية التسوية، لافتاً إلى أن الوساطة “كانت مبادرة شخصية من رئيس بيلاروسيا، من منطلق تجنب إراقة الدماء والمواجهة الداخلية”.
وقال: “ممتنون لرئيس بيلاروسيا على جهوده… المحادثة المسائية بين الرئيسين كانت طويلة جداً”. وشدّد بيسكوف على أن السماح لبريغوجين وقواته بالرحيل من دون عقاب، يأتي ضمن “الهدف الأسمى” لبوتين، الذي كان “تجنب إراقة الدماء والمواجهة الداخلية بنتائج غير متوقعة”.
بوتين يعتبر أن غزو أوكرانيا يتصدر أولوياته المطلقة
وأفاد المكتب الرئاسي في بيلاروسيا بأن لوكاشينكو توسط في التوصل إلى اتفاق لوقف التصعيد من جانب مقاتلي “فاغنر” في روسيا، بعد حصوله على موافقة بوتين مقابل ضمانات لسلامتهم. وبعد إتمام الاتفاق، قال بريغوجين إنه قرر التراجع لتجنب “إراقة الدماء الروسية”، قبل أن يغادر في سيارة دفع رباعي تليها شاحنة كبيرة، واستقبله الناس وركض البعض لمصافحته.
كما غادر عناصره مدن روستوف وفورونيج وليبيتسك على طول طريق “أم 4” الممتد من كراسنودار باتجاه العاصمة موسكو. وأعلن حاكم منطقة فورونيج ألكسندر غوسيف، أن “تحرك وحدات فاغنر في منطقة فورونيج هو في طور الانتهاء… الأمر يتمّ بشكل طبيعي ومن دون حوادث”، مؤكداً أن القيود التي تمّ فرضها، السبت، على حركة التنقل سترفع بمجرد “حل الوضع بشكل نهائي”.
“نظام مكافحة الإرهاب”
وفي موسكو، بقي “نظام مكافحة الإرهاب” قائما رغم الاتفاق. ويعزز هذا “النظام” صلاحيات الأجهزة الأمنية ويسمح لها بالحد من الحركة، كما يمكن بموجبه القيام بعمليات تفتيش مركبات في الشوارع والتحقق من الهوية، ويسمح أيضا بتعليق مؤقت لخدمات الاتصالات إذا لزم الأمر.
وواصلت دوريات للشرطة انتشارها في جنوب العاصمة على طول الطريق السريع الرئيسي بين موسكو والمناطق الواقعة إلى جنوبها. وعلى الرغم من إعلان وكالة “إنترفاكس” الروسية أمس، عودة حركة المرور على جميع الجسور المغلقة في منطقة موسكو، غير أن وكالة “آفتودور” المسؤولة عن الطرق السريعة في روسيا، أكدت أن القيود على التنقل على الطريق بين موسكو ومدينة روستوف لا تزال قائمة.
وأفادت وكالة “تاس” نقلا عن ضابط بكتائب “أحمد” الشيشانية، بأن “القوات الخاصة في الكتائب تنسحب من منطقة روستوف”. وكانت موسكو قد استعدت لوصول قوات “فاغنر” السبت، من خلال إقامة نقاط تفتيش بمركبات مدرعة وقوات على الحافة الجنوبية للمدينة.
وأفاد التلفزيون الشيشاني الرسمي أنه تم سحب حوالي 3 آلاف جندي شيشاني من القتال في أوكرانيا، وتم نقلهم بسرعة إلى العاصمة الروسية، في ساعة مبكرة من صباح السبت.
وأقامت القوات الروسية المسلحة بالبنادق الآلية نقاط تفتيش على المشارف الجنوبية لموسكو. وحفرت أطقم أجزاء من الطرق السريعة لإبطاء المسيرة. وتقدمت قوات فاغنر على بعد 200 كيلومتر فقط من موسكو، وفقاً لبريغوجين.
(العربي الجديد، قنا، الأناضول، رويترز، أسوشييتد برس، فرانس برس)