الحوار والتوافق الإقليميان، وإيجاد آلية إقليمية لإدارة نزاعات الإقليم ومشكلاته ومعالجاتهما، خصوصا المعقّدة والمزمنة منها، من الخطوات المطلوبة التي تحتاجها منطقتنا في ضوء الاستقطابات والتشنّجات التي تعيشها الأجواء الدولية نتيجة الحرب الروسية على أوكرانيا، ومناخات الشكّ المتبادل بين كل الولايات المتحدة والصين، وتطلّع الدول المؤثرة على المستوى الإقليمي نحو دور دولي يتناسب مع حجم سكّانها وإمكاناتها الاقتصادية والتكنولوجية.
وحتى يكون التوافق الإقليمي في منطقتنا مُنتجاً لا بد من اشتراك جميع القوى الإقليمية المؤثرة، بغية التوافق على استراتيجيةٍ محورها تخفيف التوترات عبر استراتيجية الحلول، لا إعادة التموضع والاصطفاف بموجب تعليق الأزمات، أو العمل على تجاوزها عبر تجاهل أسبابها ومآلاتها، والدعوة إلى الإقرار، باسم الواقعية والمنطق، بوقائع ومعطياتٍ تتمرّد على أي تسويغ أو شرعنة (كما الحال في موضوع التطبيع مع كل من إسرائيل وسلطة بشّار الأسد).
ومن دون التوافق الإقليمي العام، ستبقى المنطقة مضطربة، كما ستبقى مختلف التوافقات بين هذه الدولة أو تلك من دول الإقليم خاضعةً لتأثيرات (وانعكاسات) التوافقات الدولية التي ما زالت أطرافها تمتلك من أوراق الضغط، والقدرة على التأثير، ما يتجاوز بكثير تلك التمنّيات والتحليلات الرغبوية التي تُساق هنا وهناك. فما قيل أو يُقال عن تراجع الدور الأميركي، وما بُشّر به من دور صيني حاسم منتظر، وحتى المراهنة على انتصار روسي في أوكرانيا، قياساً إلى الانتصارات التي حقّقها الروس على السوريين المتروكين لمصيرهم، وذلك بفعل توافقات إقليمية ودولية لم تعد سرّاً مخفياً، يدخل في باب التمنيات التي تخص هذا الطرف أو ذاك. هذا في حين أن الوقائع الملموسة تؤكّد استمرارية أهمية الدور الأميركي، والغربي عموماً، وقدرته على المناورة والتوصّل إلى توافقاتٍ وتفاهمات، وحتى عقد الصفقات التي تضبط الأمور بين القوى الكبرى. ويُشار في هذا السياق إلى زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى بكين أخيراً والمساعي الأميركية الرامية إلى تخفيف التوترات مع الصين، وذلك منعاً لتحوّل الوضعية التنافسية بين الجانبين إلى نزاع مفتوح لن يكون في صالحهما، ولا في صالح الأمن والاستقرار العالميين؛ كما ينبغي التمعّن ضمن السياق ذاته في الأزمة بين مجموعة فاغنر وقادة الجيش الروسي، الأمر الذي يُنذر بانقسامات أعمق ومآلات أكبر في الداخل الروسي.
لن يكون التوافق السعودي الإيراني مُجدياً من دون توافقات أوسع على مستوى الإقليم بين الدول المؤثّرة فيه
وبالتناغم مع ما تقدّم، تجدر الإشادة هنا مجدّداً بأهمية التوافق السعودي الإيراني من حيث المبدأ، مع الأخذ في الحسبان أنه لن يكون مُجدياً من دون توافقات أوسع على مستوى الإقليم بين الدول المؤثّرة فيه؛ كما أنه لن يكون مثمراً ما لم يكن مدخلاً لمناقشةٍ معمّقةٍ جادّة لقضايا الإقليم ومشكلاته، ومنصّة لطرح الحلول الواقعية لها، والعمل الفاعل على المستويين الإقليمي والدولي، لمعالجتها. أما الاكتفاء بالعبارات العامّة والجمل الإنشائية، التي غالباً ما تحوم حول أشباه الحلول ولكنها لا تقدّم مقارباتٍ حقيقيةً ملموسةً تؤدّي إلى المطلوب، ففحواه أن ما يجري هو مجرّد تهدئة جزئية آنية للأوضاع البينية، بمعزلٍ عن سياقها العام المؤثر.
ما يهمنا في المقام الأول هنا هو الموضوع السوري بالدرجة الأولى، لأنه الأكثر مأساوية والأكثر تأثيراً في واقع المنطقة ومستقبلها. فما لوحظ عبر التحرّكات التي أعقبت زلزال كهرمان مرعش التركية، فبراير/ شباط 2023، الذي امتدّ ليشمل مناطق سورية متاخمة للحدود التركية السورية، وحتى مناطق أخرى أبعد باتجاه الداخل السوري، هو أن دولاً عربية استغلّت حملة التعاطف الإنساني على المستويين الإقليمي والدولي مع ضحايا الزلزال، لتبدأ تطبيق قراراتها المتخذة الخاصة بمسار تعويم سلطة بشّار الأسد عبر بوابة المساعدات الإنسانية. وتزامن ذلك مع حملة التصريحات والزيارات العلنية، الأمر الذي أكّد وجود توجّه رسمي عربي لفكّ العزلة عن السلطة المعنية، من دون أن يتزامن ذلك مع طرح أي تصوّر عربي واضح يكون بمثابة خريطة طريق منسجمة مع المرجعيات الدولية الخاصّة بالحل السياسي في سورية.
ويُشار هنا على وجه التحديد إلى بيان جنيف 1 عام 2012 وقرار مجلس الأمن 2254 عام 2015. هذا إلى جانب إصرار بشّار الأسد نفسه على التمسّك بروايته الخاصة به، وعدم إبداء اي استعدادٍ للاعتراف بدور سلطته في ما آلت إليه الأوضاع في سورية التي تتجسّد راهناً في توزّع أكثر من نصف الشعب السوري بين نازح في الداخل الوطني ولاجئ في الجوار الإقليمي، واعتقال عشرات الآلاف وتغييبهم، إن لم نقل مئات الآلاف، ناهيك عن قتل أكثر من مليون سوري، بالإضافة إلى تدمير الاقتصاد والعمران والاجتماع، فضلاً عن تحكّم الجيوش والمليشيات الأجنبية في رقاب السوريين وأرزاقهم وإراداتهم في مناطق النفوذ التي تحكمها سلطات الأمر الواقع، بما فيها المناطق الخاضعة رسميا لحكم بشّار نفسه. فبشار الأسد يعلن صراحة “انتصاره” على السوريين، رغم معرفة الجميع، وإدراكه اليقيني، قبل الكل، أنه ما كان له أن يستمرّ في الحكم لولا دعم الإيرانيين والمليشيات التابعة لهم منذ البداية، ولولا الدعم الروسي الذي ما زال مستمرّا بكل أشكاله، ولا سيما في المجالين العسكري والسياسي.
الشعب في منظور آل الأسد واجبُه التسبيح والتمجيد والانقياد، والسوريون هم موضوع اتهام دائم من السلطة الأسدية
من جهة أخرى، لا يهتم بشّار الأسد بمعاناة السوريين في الداخل وفي الخارج، وذلك ينسجم مع عقليته الانتقامية التي تُعدّ استمراراً لنهج الاستعلاء على السوريين الذي اتّخذه والده حافظ الأسد من ركائز سياسته الداخلية؛ فالشعب في منظور آل الأسد واجبُه التسبيح والتمجيد والانقياد، والسوريون هم موضوع اتهام دائم من السلطة الأسدية التي أدركت، منذ اليوم الأول لسيطرتها على مقاليد الحكم في سورية، أنها سلطةٌ غير مرحب فيها من الشعب، وإنما جاءت إلى الحكم بناء على الصفقات التي كانت بينها وبين القوى الدولية التي كلفتها بمهمة المتعهد/ المقاول في سورية، لتحكُم من دون مساءلة أو محاسبة مقابل أن تنفّذ المهام المطلوبة منها على مستوى الإقليم. وتجدر الإشارة هنا، على سبيل المثال، إلى دورها في الملفّين اللبناني والفلسطيني؛ هذا إلى جانب التناقض الصارخ في موقفها من موضوع العلاقة مع إسرائيل؛ ففي حين كان حافظ الأسد يتحدّث عن ضرورة التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل، ويزاود على الفلسطينيين في قضيتهم، كان يلتزم الصمت المطبق في موضوع الجولان، ويكتفي بمفاوضات تحريكية من حين إلى آخر، كان يحرص على عرقلتها قبل غيره، حتى لا يفقد الورقة الرابحة بالنسبة إليه تحت شعار “المقاومة والممانعة”، وهي عينها التي ما زال بشّار، وارث الجمهورية، يحرص على استخدامها بالتنسيق مع الراعي الإيراني الذي يقدّم نفسه زعيم “المقاومة والممانعة”.
هل سيؤدّي الاتفاق السعودي الإيراني الذي جرى برعاية صينية إلى تجاوز نتائج (وانعكاسات) الدور الإيراني المزعزع للأمن والاستقرار في دول الإقليم، أم سيكون بمثابة توافقات وقتية مرحلية تلبّي لكل طرف ما يحتاجه في المرحلة الحالية؟ من دون أن يكون الاتفاق المعني خطوةً في إطار تصوّر شامل، أو استراتيجية عامة لمقاربة جملة قضايا المنطقة المتداخلة في ما بينها، ويمكن استخدام أي واحدةٍ منها من القوى الإقليمية أو الدولية المؤثرة لتفجير التوافقات التي كانت. وما يعزّز هذا الاحتمال الرؤى المتباينة بشأن ما جرى الاتفاق عليه، وما هو مفروض أن يكون التوافق أوسع وأشمل وأعمق، فبينما يرى الجانب السعودي في الاتفاقية المذكورة خطوةً على طريق المستقبل، ومقدّمة لتعاونٍ مشترك في الإقليم لسدّ الطريق أمام النزاعات والتركيز على المصالح والمنافع الاقتصادية والتنموية المتبادلة، واحترام سيادة الدول وعدم التدخّل في شؤونها كما كان يفعل قائد فيلق القدس السابق في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، بتكليفٍ من نظامه، يرى الجانب الإيراني الذي يعتبر الأخير “شهيد الواجب”، في الاتفاقية المعنية تعزيزاً للتوافق الإسلامي، ودعماً للمشروع المقاوم الممانع الذي جاء أصلا ليكون مجرّد شعارٍ من الشعارات التي أنهكت المنطقة بمجتمعاتها ودولها.
تحدّيات الفساد والاستبداد تجعل من أوطاننا ساحة طاردة لسكّانها، وميداناً لأصحاب مشاريع تدميرية الهدف منها البقاء في موقع السلطة والتسلّط
وبالتناغم مع هذا التوجّه، كان، وما زال، الإصرار الإيراني على تسويق بشّار الأسد وتعويمه مجدّدا من دون أي التزام أو إقرار منه بإعادة النظر في سياساته وممارساته الداخلية وتحالفاته الإقليمية والدولية، وهي جميعها التي أدّت إلى القيامة السورية، وتسبّبت في الكارثة الإنسانية التي يعيشها السوريون في كل مكان من سورية خارج إطار سائر التصنيفات النمطية.
منطقتنا في حاجة إلى مؤتمر إقليمي عام يُحضّر له جيدا على صعيد الحوار والتوافقات بين الدول، وعلى مستوى الحوارات المعمّقة بين النخب المؤثرة في الميادين المختلفة (الفكرية والثقافية والاقتصادية والمجتمعية بصورة عامة). حوارات خارج الصندوق، وخارج الأطر المعهودة. أما أن تظل الأمور في نطاق التوافقات البينية التي تفرضها الضغوط التي تتعرّض لها هذه الدولة أو تلك، فستظل الأمور على حالها، بل هناك خطر انشغال نخب المنطقة بعضها ببعض في أجواء مساعيها للدفاع عن سياسات دولها، عوضاً عن تركيز الطاقات والجهود من أجل البحث بعقليةٍ نقديةٍ عن حلولٍ إبداعية تُبعد المنطقة عن مزيد من الانهيارات والتداعيات، في زمن تلبّد الغيوم في سماء العلاقات الدولية، والتحدّيات المناخية التي يُخشى أن تضرب منطقتنا بما هو أشد واقسى مما كان؛ هذا إلى جانب تحدّيات الفساد والاستبداد التي تجعل من أوطاننا ساحة طاردة لسكّانها، وميداناً لأصحاب مشاريع تدميرية الهدف منها البقاء في موقع السلطة والتسلّط.
العربي الجديد