“الشيطان يكمن في التفاصيل” قد تكون هذه القاعدة أو المقولة الأكثر صدقاً في مرحلة ما بعد أي تسوية أو اتفاقية سياسية أو اقتصادية بين الدول، فأي اتفاقية رسمية بين دولتين صديقتين أو متخاصمتين أو تختلفان على بعض الملفات والقضايا، يوجد فيها نقاط معتمة أو غامضة خاصة تلك التي تمس بأمن واستقرار وسيادة كل دولة وتكون بحاجة إلى كثير من التفاوض بسبب ما يكمن فيها من اختلاف وتوتر، قد يوصل الأمور إلى حافة الفشل والانهيار والعودة إلى دائرة الصراع والتباعد، نتيجة محاولة كل طرف الحصول على الحد الأعلى من المكاسب التي تكبل الطرف الآخر وتقطع عليه الطريق لتوظيف هذه الاتفاقية لتحقيق أهدافه ومطامحه.
والحراك الإيراني والانفتاح الذي اعتمدته حكومة طهران مع دول عربية وتحديداً الدول الخليجية، شكّل ترجمة لتوجهات القيادة العليا للنظام وشخص المرشد، ولم يقف عند التوقيع على الاتفاق مع المملكة العربية السعودية في الـ10 من مارس (آذار) 2023 برعاية صينية، بل استُكمل بنقل الحوارات الثنائية مع دولة الإمارات إلى اتفاق يشبه إلى حد ما الاتفاق مع الرياض.
كما أن السرعة التي حصلت فيها هذه الخطوات، ومبادرة النظام الإيراني للوصول إلى تفاهمات تسمح له بترتيب علاقاته السياسية والاقتصادية مع محيطه العربي الخليجي، لم تستثن العراق ومحاولة نقل العلاقة مع هذا البلد من الدائرة الأمنية والعسكرية إلى المستوى علاقة بين حكومتين ودولتين تقوم على المصالح المشتركة، ثم توسعت هذه المبادرة لتشمل محاولة ردم الهوة التاريخية القائمة بين طهران والقاهرة منذ مطلع العقد الثامن من القرن الماضي.
هذه التوجهات لدى النظام والدولة العميقة الإيرانية، تأتي كخطة بديلة هدفها البحث عن آليات وخطوات وتسويات تساعده في معالجة الأزمات المتراكمة، في ظل ما تعيشه مفاوضات إعادة إحياء الاتفاق النووي أو مفاوضات إلغاء العقوبات بحسب أدبيات النظام في طهران، وعدم وصول المفاوضات غير المباشرة مع الولايات المتحدة إلى النتائج المطلوبة حتى الآن، سواء باتفاق كامل أو نصف اتفاق أو تفاهم غير مكتوب.
ويبدو أن قرار الانفتاح الإيراني على المحيط العربي، أو إعادة ترميم العلاقة بينها وبين العالم العربي، هو قرار استراتيجي بعيداً من التكتيك، بخاصة أنه يتطلب من النظام ومنظومته العقائدية تقديم تنازلات أيديولوجية مرتبطة بمكونات النظام الديني الذي يحكم الدولة ويقودها ويتحكم بعلاقاتها الخارجية والداخلية.
وترافق التحول في سياسة النظام الإيراني في علاقاته مع محيطه العربي، وبالدرجة الأولى الخليجي، مع تخل إيراني واضح عن مبادئ عقائدية عدة حكمت هذه العلاقة على مدى العقود الأربعة الماضية، وظفتها طهران في تسويغ مواقفها العدائية ضد هذه الدول وقياداتها والتحالفات التي نسجتها مع القوى الإقليمية والدولية، وهذا يعني أن قيادة النظام قامت بعملية جراحية في البعد العقائدي والأيديولوجي مع ما يعنيه ذلك من إعادة إنتاج مفردات ومفاهيم أيديولوجية سيطرت على خطاب النظام وفرضت نفسها على العلاقة مع الآخرين.
قد لا تكون هذه التغييرات العقائدية مؤلمة، بخاصة إذا ما تتبعنا المسار الذي حكم مواقف النظام في كثير من القضايا التي وضعها في دائرة محددات هويته الأيديولوجية، وحجم المصالح التي وفرتها له على مدى العقود الماضية، بخاصة على مسارين أساسيين في علاقته مع المحيط العربي، وفي محاولة مصادرة القضية الفلسطينية والدخول إلى ساحة الصراع العربي- الإسرائيلي، فالنظام الإيراني منذ انتصار ثورته في عام 1979، استخدم معادلة دمجت بين الأيديولوجيا والاستراتيجيا، فكانت الأيديولوجيا رافعة وعطاءً عقائدياً لبناء مفردات استراتيجيته، وفي الوقت ذاته جعل من المشروع الاستراتيجي وسيلة ومدخلاً لنشر أيديولوجيته العقائدية والسياسية، أو “التكامل بين الميدان والدبلوماسية” حسب التعبير الذي استخدمه المرشد الأعلى للنظام علي خامنئي.
فالحروب التي خاضها النظام الإيراني في الإقليم من العراق وسوريا ولبنان وفلسطين وصولاً إلى اليمن، كانت تحت غطاء أيديولوجي، إلا أنها كانت تصب في خدمة المشروع الاستراتيجي، الهادف إلى تكريس النظام الإيراني كقوة إقليمية، وكان المدخل لبناء هذا المشروع أو الطموح هو رفع مستوى العداء مع المحيط العربي في الإقليم، واستخدام الجوانب العقائدية لتسويغ هذا العداء والصراع، والذهاب به إلى حدود الحرب المباشرة في حال فشل الحروب بالوكالة التي خاضها وقام بها حلفاء إيران وأذرعها في الإقليم.
خيار الانفتاح على المحيط العربي، يعني أيضاً التخلي أو إخراج مسألة العلاقة بين الدول العربية وإسرائيل من المشهد الأيديولوجي، التي حكمت وسيطرت على مواقف النظام في علاقاته مع هذه الدول. والمخرج الذي اعتمده النظام لتسويغ هذا التحول، هو الفصل بين موقفه المستمر من إسرائيل، وعلاقته مع الدول التي دخلت في تسويات أو اتفاقيات مع تل أبيب، متذرعاً بأن تعزيز العلاقة مع هذه الدول يساعد في التخفيف من الآثار السلبية لهذه الاتفاقيات والتسويات، ويمنع إسرائيل من توظيف هذه العلاقات وتحويلها إلى منصة لاستهداف النظام في طهران ومشروعه الإقليمي. وعلى هذا الطريق أسقط النظام كل المحاذير التي كانت تتحكم في السابق بعلاقته مع الأردن ومصر ولاحقاً مع الإمارات والبحرين وصولاً إلى المغرب.
وما يطمح له النظام الإيراني من خلال ترميم علاقاته مع محطيه العربي والخليجي، هو تكريس مبدأ الأمر الواقع، أي الاحتفاظ بنقاط النفوذ التي حققها في الإقليم على حساب هذه الدول والحصول على الاعتراف بذلك منها، مقابل فتح صفحة جديدة من العلاقة معها وتوسيع مجالات التعاون الاقتصادي والمالي والتسويات السياسية في المسائل التي تشكل مساحة اختلاف معها.
اندبندت عربي