تكمن معضلة أوكرانيا في العديد والعتاد. في المقابل، تكمن معضلة روسيا في سوء إدارة العديد والعتاد. لا ينقص أوكرانيا الابتكار العسكريّ على كلّ المستويات. لكن نجاح استراتيجيّتها مُرتبط مباشرة بإرادة من يدعمها. فالغرب، خصوصاً الولايات المتحدة الأميركيّة، يدعم أوكرانيا دون حدود، شرط أن لا يتجاوز هذا الدعم الخطوط الحمر الموضوعة.
تخاف أوكرانيا من وصول هجومها المُضاد إلى نقطة الامتداد الأقصى.
لقطات من فيديو لمسيّرة بحرية أوكرانية تقترب من سفينة روسية في البحر الأسود أمس (أ.ب)
فبعد الوصول إلى هذه النقطة، لا مجال للخرق على ما سُمّي بخط الجنرال المعزول، أو المُعتقل سيرغي سيروفيكين. فهذا الجنرال هو الذي اقترح الانسحاب من مدينة خيرسون. وهو الذي اقترح اعتماد الخطّة الدفاعيّة المرنة. وهو الذي اقترح استراتيجيّة القصف الاستراتيجيّ لكل مرافق أوكرانيا الحيويّة. وهو الذي أُطيح به بسبب قربه من زعيم شركة «فاغنر» العسكرية الخاصة. وهو الذي أوقف بعد تمرّد المموّل يفغيني بريغوجين على سلطة سيد الكرملين فلاديمير بوتين.
اللفتنانت جنرال فلاديمير ألكسييف (يمين) مع بريغوجين في مقطع الفيديو من روستوف يناشد رئيس «فاغنر» في مقطع مصور سابق إعادة النظر في أفعاله (أ.ف.ب)
حتى الآن، لم تفشل الاستراتيجيّة الهجوميّة الأوكرانيّة. لكنها تعاني من البطء، كما من عدم توفّر الإمكانات العسكريّة. لم يُحقّق الهجوم حتى الآن نجاحات تكتيكيّة مهمّة، وبشكل أن تتراكم لتٌغيّر الصورة العملانيّة لصالح الجيش الأوكرانيّ، عّله مع الوقت يُغيّر الصورة الاستراتيجيّة.
إذا نجحت الخطّة الأوكرانيّة في ضرب الجسر البرّي الروسيّ، والممتد من إقليم دونباس إلى إقليم خيرسون. فهذا الأمر يُعد وحسب مرسوم الضمّ الذي يجعل هذه الأقاليم روسيّة، على أنه تهديد لوحدة الأرض الروسيّة، الأمر الذي يُحيي العقيدة النوويّة الروسيّة. وهذا ما هدّد به مؤخراً الرئيس الروسيّ السابق ديمتري ميدفيديف.
ألسنة النار تتصاعد من موقع تخزين ذخائر انفجرت في حقل تدريب عسكري بشبه جزيرة القرم يوم 19 يوليو الحالي (أ.ف.ب)
ماذا يجري على الساحة الأوكرانيّة حالياً؟
يدور القتال المباشر على 3 محاور هجوم أوكرانيّة هي: محور باخموت، وهو الأكثر جهوزيّة لتحقيق تقدّم عسكريّ أوكرانيّ، وفي الوسط، محور فيليكا نوفوسيلكا، وفي الجنوب الغربيّ، يدور القتال على محور أوريكيف.
سفينة حربية روسية تبحر بالقرب من جسر كيرتش (أ.ف.ب)
ويهدف محور فيليكا نوفوسيلكا إلى إحداث خرق بهدف الوصول إلى برديانسك على شواطئ بحر آزوف، أو حتى الوصول إلى مدينة ماريوبول. كما يهدف القتال على محور أوريكيف إلى الوصول لمدينة ميليتوبول، وبالتالي الوصول إلى حدود شبه جزيرة القرم. وإذا تحقّق الهدفان، قد يمكن القول إن القوات الأوكرانيّة استطاعت تقسيم انتشار كل الجيش الروسيّ الموجود على الجسر البريّ، لتعود الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل بدء الحرب.
تبدو الأهداف الأوكرانيّة بعيدة المنال حتى الآن. من هنا قرار القيادة الأوكرانيّة المتابعة في القتال على طول خطّ الجبهة. مع السعيّ إلى اعتماد استراتيجيّة «غير مباشرة»، كما بشّر المفكّر الاستراتيجيّ الإنجليزي ليدل هارت (الاقتراب غير المباشر). أو حتى ما قاله المفكّر الصيني صان تسو، الذي يقوم على هزيمة العدو عبر مهاجمة استراتيجيّته بدل القتال المباشر معه. من هنا السعي الأوكراني إلى ضرب الخلفيّة الروسيّة والعمق الاستراتيجيّ، الذي يؤمّن كل اللوجستيّة والقدرة القتاليةّ للقوات الروسيّة المنتشرة في الجنوب الأوكرانيّ. وإذا نجحت هذه الخطّة، ستربح أوكرانيا الحرب في الجنوب، وذلك دون ضرورة خرق الدفاعات الروسيّة بتكلفة عالية. من هنا ضرب جسر كيرش، وكلّ القواعد العسكريّة في القرم. كما ضرب الجسور التي تربط القرم بالجنوب الأوكرانيّ.
عناصر الأمن في وسط موسكو بعد استهدافها من قبل المسيرات الأوكرانية (إ.ب.أ)
في مكان آخر، تقوم أوكرانيا حالياً بضرب العمق الروسيّ، خصوصاً العاصمة، بمسيّرات بعيدة المدى وبشكل مستمرّ، وكأنها أصبحت مقاربة جديدة تسير جنباً إلى جنب مع الاستراتيجيات الأخرى. هذا مع العلم أن المُسيّرات لا تنهي الحرب، لكنها تُضيف بُعداً سيكولوجيّاً سلبيّاً على روسيا. فالمسيّرات الأوكرانيّة تضرب حالياً مراكز الثقل السياسيّة الروسيّة: موسكو، الكرملين، ناطحات السحاب، وبعض الوزارات.
الشرق الأوسط