تأتي حركة الاحتجاج الشعبي في الجنوب السوري في وقت تتسلل فيه المجاعة بالمعنى البحت للكلمة إلى مناطق مختلفة على امتداد الخريطة السورية.
لأجل ذلك أيضاً تصير إطالة الحديث عن دوافع اقتصاديّة للاحتجاج غير متناسبة مع الظرف القاهر الذي يفرض نفسه كأمر واقع يتضح أكثر فأكثر يوماً بعد يوم في سوريا، ولا نزال نجد صعوبة في رسم صورة إجمالية له من جهة، وتفصيلية له بين منطقة وأخرى من جهة أخرى. فالمجاعة عادة ما نتعامل معها في بلاد الشام على أنها ماض مؤرق من زمن الحرب الكبرى مطلع القرن الماضي، ولن يأتي بعدها إلا الجوع في الطبقات المعدمة، يزيد أو يقلّ، مرة حسب التدبير، ومرة حسب المواسم، ومرة حسب الحروب. المجاعة بقيت بهذا المعنى بمثابة الماضي المؤرّق للحاضر، المرعبة صوره، والمطمئنة خلسة في الوقت نفسه بأنها لن تعود، ولن ترافق الكوارث والنكبات التالية. وبالفعل، شهدت سوريا في العقد الماضي ثورة وحربا أهلية وحروب تدخل وحركة خروج لملايين من سكانها بالتهجير، الاقتلاعي الممنهج حيناً، أو الحاصل بعد أن انسدت أمام القوم طرق الحياة حيث هم، أمنية كانت، أم معاشية، أم الإثنين معاً. لكن، على الصعيد الإجمالي للبلد، لسوريا، لم تحصل مجاعة. حصل ضرب بالكيميائي في الغوطة وخان شيخون، تدمير لنصف حلب، حصلت فظائع تطهير على أساس مذهبي وإثني لم تنحصر بطرف واحد، وان بقيت للنظام اليد الطولى في إدارة الحرب الأهلية ككل، وبلغ الرعب مداه مع فانتازيا تنظيم الدولة وسواه من الجماعات المتطرفة الدموية. تراجع الإنتاج بشكل عام، والإنتاج الزراعي وتأمين القوت بشكل خاص. مع هذا، لم تعش سوريا ككل في مجاعة في زمن الثورة ثم الحرب 2011-2018. وكاد يظهر بعد أن تراجعت الوتيرة الحربية مع تمكن الروس من إجلاء المقاتلين من محيط وريف دمشق باتجاه المناطق المتبقية للفصائل الإسلامية في ريفي إدلب وحلب بأن البلد على الصعد الزراعية والغذائية والتموينية على الأقل يستعيد أنفاسه، بل وأن حركة إعادة إعمار جزئية فيه حاصلة، بانتظار حركة الإعمار العامرة والشاملة التي تنتظر التطبيع مع الدول العربية التي قاطعت سوريا – النظام عام 2011 وأخرجتها من الجامعة العربية. لكن ما حصل أن سوريا وفي اللحظة نفسها التي حصل فيها التطبيع الرسمي بينها وبين الدول العربية، وأعيد لنظامها مقعده في الجامعة العربية، وأخذ الأمريكيون يتخففون من العقوبات حيالها بشكل متدرج بعد الزلزال الذي ضرب كيليكيا التركية والشمال السوري، باتت أضعف من ذي قبل على صعيد احتواء أزمة انهيار عملتها الوطنية، وأزمة تصدع دورة الإنتاج فيها، وأزمة تدبر تأمين المحروقات وكلفتها. وفوق ذلك ظهر أن التطبيع مع الدول العربية لن يفتح الطريق مباشرة لمسار إعادة إعمار سوريا، وان إعادة إعمارها ليس بوسعها القفز على العملية السياسية، ولا بالوسع القفز على ملفات اللاجئين السوريين في بلدان الجوار، تركيا ولبنان والأردن، بل ان كل حديث عن عودتهم أخذ يتنافر مع واقع يقول باستمرار خروج السوريين، مبتغين النجاة هذه المرة من جوع آخذ التحول أكثر فأكثر، وقد صار كذلك في مناطق عدة، إلى مجاعة.
خطر المجاعة
سوريا اليوم هي تحت خطر المجاعة، لم تعد موشكة، لقد بدأت. أما المناطق التي خرجت للتحرك أول شيء ضد هذا الأمر فهي ليست المناطق التي اقتحمتها المجاعة قبل سواها، وانما هي المناطق التي تريد بحراكها هذا، قبل أي شيء آخر، إبعاد شبح المجاعة عنها، وهي تدرك أن أزمة أسعار المحروقات وتوفرها، بمقدورها ان تتسبب باشاعة هذه المجاعة حتى في المناطق الزراعية التي يعتمد عليها البلد ككل في إنتاج الحبوب.
لإبعاد المجاعة عن سوريا يمكن ان يسارع نصير النظام للقول بأن الحل هو في الرفع الكامل للعقوبات، وعدم ربط إعادة إعمار سوريا لا بالعملية السياسية ولا بعودة اللاجئين. ويمكن ان يسارع من انضم إلى الثورة 2011 وحافظ رغم كل ما حدث بعد ذلك على اقراره بصوابية هذا الخيار بأن لا حل إلا باسقاط النظام المسؤول عن كل هذه الكوارث. يبقى أن الواقع السوري لا يتيح في الوقت الحالي المفاصلة بين هذين الخيارين. النظام لا يزال يمسك بالمدن الرئيسية ولا تزال المدن الرئيسية بمنأى عن طلائع المجاعة إلى حد كبير. حركة الاحتجاج عليه متقدمة للغاية في السويداء ذات الكثافة الدرزية، وثمة حركة احتجاج محدودة أكثر في منطقة الساحل، بما في ذلك بين العلويين. لكن، ينبغي الانطلاق دائما عندما يتصل الأمر بهول مجاعة من ان هناك أناسا تجد ان الأنسب لها ان تتحرك لإبعاد هذا الخطر عنها، في حين ان هناك أناس تجد ان تحركها يمكن ان يزيد الطين بلة، وطالما لم يتمكن الخيار الأول من تثبيت نفسه في شكل منتظم، أو في شكل قيادة بمستطاعها مخاطبة العموم السوري، أو في أقل تقدير في شكل مقترحات عملية لإبعاد المجاعة بمعناها البحت، فإن الناس المترددين في التحرك كي لا يزيد الطين بلة سيظلون شريحة كبيرة. الأمر نفسه حصل مع العنوان السياسي عام 2011. عندما كان العنوان سياسيا، هناك فئات خاضت الصراع اعتقادا منها ان خوضه هو الطريق الأفضل لابعاد الكارثة السياسية عنها، في حين ان هناك فئات لم تخض الصراع، ليس تعلقا منها بالنظام بشكل مقتنع به، بل ظنا منها بأن زعزعته سيجعل أمورها أصعب ومصالحها صعبة التأمين.
شتات المعارضة
يأتي حراك الجنوب السوري، وخاصة السويداء، ليفرض كذلك الأمر على شتات المعارضة في سوريا إعادة إنتاج خطاب على مستوى اللحظة. فهذه المعارضة لم تف الموضوع الاقتصادي الاجتماعي قدره في أي يوم. خرجت ثورة 2011 من المناطق الفلاحية بالدرجة الأولى، لكن الشعارات السياسية للثورة قلما أفردت مكانا للموضوع الاقتصادي، المتصل تحديدا بالبيئات الفلاحية والشعبية الريفية وفي المدن المتوسطة. اعتبره تحصيل حاصل، يبت فيه حالما يسقط النظام، وليس قبل. جرى الغلو في أن الدافع إلى الثورة هو كرامة الإنسان السوري المعنوية السياسية، كما لو ان لقمة العيش دون الكرامة منزلة. مراجعة هذا النوع من تهميش المستوى الاقتصادي الاجتماعي أساسية.
الأساسي في الوقت نفسه التنبه كيف ان الحراك في السويداء تحديدا وصل الاقتصادي الاجتماعي بالحاجة للتعبير عن خصوصية أهلية طائفية ومناطقية لجبل الدروز. هذا واقع تعددي سوري غلب على المعارضة التبرم منه والاشتباه به، تارة من موقع مذهبي أكثروي، سواء جرى التصريح عن ذلك أو لا، وتارة من موقع مصر على تشكيل شعب سوري متعدد سياسيا فقط، ولا يصل تنوعه الثقافي المتماوج إلى درج التعدد الثقافي المتبلور خطابياً. عندما يتحرك أهل السويداء مبرزين هويتهم الدرزية، يفعلون ذلك بازاء كل من تصوراتهم عن هوية النظام الطائفية وهوية قوى المعارضة الطائفية. في مكان ما، يبدون ذاك الأكثر جذرية اليوم، كونهم ينتفضون. ويبدون في الوقت نفسه الاكثر وسطية، كونهم ما بين جماعة النظام وجماعة المعارضة. ويبدون أيضا وأيضاً وقد انخرطوا في مسار إشهار هويتهم «الثقافية» كهوية سياسية أيضاً. رؤية كل هذه العناصر في وقت واحد، ليست عملياً بالأمر السهل. انما الضروري في كل هذا التنبه لمسألة، وهي أن شبح المجاعة الداهم، بل الضارب في أنحاء من سوريا، لن يعني تراجع الحاحات سؤال الهوية الطائفية والمناطقية، وكيفية عيش التعددية الثقافية فيها، وليس فقط التعددية السياسية، خاصة وانه في سوريا أُكلت التعددية السياسية يوم أُكلت التعددية الثقافية. النظام الذي حرّم حديث الطائفية كان الأكثر طائفية. والثورة من بعده وقعت في المشكلة نفسها.
القدس العربي