من الصعب تخيل زعيم لروسيا أكثر قومية من الرئيس فلاديمير بوتين. لقد روج مراراً وتكراراً لفكرة “عالم روسي” ينتمي إليه جميع المتحدثين بالروسية، وجعل غزو أوكرانيا يبدو وكأنه محاولة لاستعادة الأراضي الروسية المفقودة وإرجاع عظمة روسيا.
لكنه يوماً ما لن يعود في سدة الحكم، سواء كان ذلك نتيجة الإطاحة به أم استقالته أم وفاته. ونظراً إلى النتائج الكارثية المترتبة على مغامرته في أوكرانيا، فضلاً عن طبيعته الفريدة من نوعها، يتوقع كثيرون بثقة أن أياً كان من سيخلفه فهو سيظهر حتماً ميولاً قومية أقل شراسة. إنهم يأملون أن تكون روسيا الجديدة في نهاية المطاف دولة طبيعية، أي ليبرالية وديمقراطية بشكل نسبي.
في الواقع، تشير الاتجاهات في روسيا إلى نتيجة مختلفة بعد بوتين تتمثل في التحول نحو شكل أكثر وضوحاً من القومية. لقد كانت قومية بوتين إمبريالية بطبيعتها مع التركيز على الهيمنة على المناطق المجاورة لروسيا وتقوية الدولة في الداخل. ومع ذلك، فإن ما يتوق إليه الروس على الأرجح بعد بوتين هو زعيم يشاركهم معاداتهم للنخب ويعد بتضميد كبريائهم المجروح. وهناك بالفعل تيار قومي إثني قوي في السياسة الروسية.
في الحقيقة، يلقي الروس من أتباع تيار القومية الإثنية مشكلات روسيا على المسلمين والمهاجرين من آسيا الوسطى والنخب الفاسدة، ويعدون بجعل روسيا عظيمة مرة أخرى، كما أنهم يزعمون بأن الدولة يجب أن تبدأ في تلبية احتياجات الإثنيين الروس. ومن السهل أن نتخيل مدى تزايد جاذبية هذه الأفكار مع تلاشي الإمبريالية الروسية.
بالنسبة إلى أولئك الذين يعرفون تاريخهم الروسي، هذا ليس مشهداً مطمئناً. في التسعينيات من القرن الماضي، بعد الانهيار السوفياتي، احتدمت التوترات الإثنية في روسيا وحولها. واندلعت حروب تسببت بها إلى حد كبير المظالم الإثنية في الشيشان ويوغوسلافيا وجورجيا ومولدوفا وطاجيكستان وأذربيجان وأرمينيا.
الجدير بالذكر أن السقوط مجدداً في هاوية القومية الإثنية من شأنه أن يجعل المظالم الموجودة تعاود الظهور ويشكل تهديداً ليس بالنسبة إلى مجموعات الأقليات التي جرت شيطنتها فحسب لا بل أيضاً لاستقرار روسيا ووحدتها.
ولكن على رغم أن روسيا بعد بوتين قد يكون مصيرها الاتجاه نحو تبني القومية، إلا أن هذا لا يعني أن عليها اعتناق القومية الإثنية. بالنسبة إلى أولئك داخل روسيا وخارجها الذين يهتمون بحماية الأقليات وتعزيز الليبرالية، فالمهمة هي تشكيل قومية روسية أكثر ديمقراطية وشمولية، تغذي الهوية الإثنية الروسية من دون منحها حقوقاً على حساب المجموعات الأخرى.
دولة واحدة، شعوب كثيرة
لطالما كانت روسيا دولة متنوعة بشكل ملحوظ، مع أكثر من 180 مجموعة إثنية مختلفة في جميع أنحاء البلاد. ولطالما كانت أكبر هذه المجموعات هي الروس، السلاف الشرقيين الذين كانت لغتهم المشتركة هي الروسية ودينهم التاريخي هو المسيحية الأرثوذكسية.
وبالاسترجاع، بانت النزعة القومية الإثنية الروسية بشكل جدي في أوائل القرن الـ19 مع ظهور تيار “سلافوفيليا” Slavophilia [أنصار النزعة السلافية] التي دعت إلى توحيد جميع الشعوب السلافية تحت حكم القيصر الروسي. ثم شهدت بداية القرن الـ20 ظهور مجموعة قومية بارزة أخرى “المئة السوداء” (تشيورنايا سوتنيا) The Black Hundreds، وهي حركة متطرفة موالية للقيصرية ترى أن الروس وحدهم يعتبرون أبناء الأمة الروسية الحقيقيين.
لكن انهيار الإمبراطورية الروسية عام 1917 أدى إلى قمع الحركات الإثنية القومية الروسية. قام البلاشفة، المتأثرون والمدفوعون بنفور فلاديمير لينين من الشوفينية ورغبتهم في القضاء على خصومهم السياسيين، بسجن القوميين الروس أو نفيهم أو إعدامهم. وفي سبيل توسيع جاذبيتهم خارج روسيا، ساعدوا حتى في تقوية الهويات القومية غير الروسية داخل الاتحاد السوفياتي. على سبيل المثال، كانوا حريصين على أن يدرس جميع أطفال المدارس في أوكرانيا باللغة الأوكرانية. وفي الجمهوريات المختلفة التي تكون منها الاتحاد الروسي، قاموا بنقل السلطة إلى الزعماء الإثنيين المحليين.
لكن وصول جوزيف ستالين إلى السلطة، قضى على تلك النخب المحلية كجزء من حملة القمع الجماعي التي انتهجها، واصفاً إياهم بأنهم عملاء يمثلون نفوذاً أجنبياً. قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها، أصبحت السياسة السوفياتية أكثر تمحوراً حول روسيا التي جعلها ستالين مركز القوة. قام بترويس اللغة والثقافة [فرض اللغة والثقافة الروسيتين] في جميع أنحاء الاتحاد السوفياتي وضم أبطالاً روساً من العصر الإمبراطوري إلى البانثيون السوفياتي.
غالباً ما يصور بوتين على أنه قومي ومؤمن باستثنائية الثقافة الروسية وعظمتها المتأصلة وقيمها السامية (غيتي)
غالباً ما يصور بوتين على أنه قومي ومؤمن باستثنائية الثقافة الروسية وعظمتها المتأصلة وقيمها السامية (غيتي)
لكن عدداً كبيراً من النقاد الداخليين للاتحاد السوفياتي اعتقدوا أن موسكو كانت في الواقع تتجاهل الإثنيين الروس، إذ إن الاتحاد السوفياتي أسكت المفكرين الروس وقمع الكنيسة الأرثوذكسية. كان هناك أيضاً انطباع بأن أكبر جمهورية سوفياتية، وهي روسيا، كانت تحظى باهتمام قليل. ففي الواقع، كانت الجمهورية السوفياتية هي الوحيدة التي تفتقر مثلاً إلى حزب شيوعي وطني خاص بها.
ليس من المستغرب إذاً أن كثيراً من المعارضين السوفيات، وعلى الأخص ألكسندر سولجينيتسن، كانوا أيضاً قوميين إثنيين رجعيين. في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، انتشرت وجهات النظر الإثنية القومية على نطاق أوسع، مع تحرر النظام السوفياتي وزعزعة استقراره. وظهرت حركات موازية في الجمهوريات الإثنية الروسية، وكان أكثرها وضوحاً، مثل تلك الموجودة في الشيشان، يدعو إلى الانفصال عن روسيا. ثم في فوضى الانهيار السوفياتي، انتشرت الجماعات الإثنية القومية بشكل لم يسبق له مثيل.
خلال أول ولايتين لبوتين في سدة الرئاسة، شكلت الجماعات القومية تهديداً خطراً لحكمه، ولم تكن تشمل القوميين الإثنيين فحسب، بل أيضاً الجماعات التي رفضت القومية الإثنية، مثل الأوراسيين، الذين طالبوا روسيا بأن تصبح دولة حضارية ترسم مسارها الخاص بعيداً من الغرب.
ابتداء من عام 2005، نظم القوميون المتطرفون مسيرة سنوية جذبت عشرات الآلاف من المتظاهرين في جميع أنحاء البلاد. ورفع المتظاهرون رايات عليها خطوط سوداء وصفراء وبيضاء تمثل علماً إمبراطورياً روسياً قديماً، ورددوا شعارات مناهضة للهجرة وضد مجتمع الميم ومعادية لبوتين. لقد كرهوا كيف شجع بوتين هجرة واسعة النطاق من آسيا الوسطى، وسمح بزيادة السكان المسلمين، وفشل في منع الإسلاميين من تنفيذ هجمات إرهابية.
في عام 2010، احتج الآلاف من القوميين خارج الكرملين بعد مقتل مشجع كرة قدم روسي في موسكو على يد شخص قادم حديثاً من داغستان، وهي جمهورية ذات غالبية مسلمة في منطقة شمال القوقاز الروسية. وجمعت الحركة القومية كل أنواع معارضي بوتين. وفي سياق متصل، كان السياسي أليكسي نافالني، على سبيل المثال، يعتنق في الأصل آراء قومية إثنية، تدعو إلى ترحيل المهاجرين من آسيا الوسطى في عام 2007، قبل أن يعتدل في آرائه.
قد تعتنق روسيا القومية، لكن ليس عليها أن تتبنى القومية الإثنية
في النهاية، نجح بوتين في صد التهديد القومي من خلال مزيج من القمع والاحتواء. أدت حملات القمع المتكررة، أولاً على مجموعات النازيين الجدد العنيفة، ثم على الحركات النشطة الأكثر اعتدالاً، إلى إضعاف المعارضة القومية.
وفي الوقت نفسه، فإن البهجة الشعبية في شأن ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014 وغزو شرق أوكرانيا خطفت الأضواء من القوميين. واستطراداً، استخدم الكرملين الصراع في شرق أوكرانيا للتخلص من القوميين المشاكسين.
كان صاحب السمعة الأكثر سوءاً بينهم إيغور غيركين، ضابط مخابرات سابق قومي متطرف قام بتنظيم مسلحين موالين لروسيا في المنطقة وادعى أنه أقنع بوتين ببدء الحرب عام 2014. (في الآونة الأخيرة، ظهر غيركين كناقد بارز لطريقة إدارة الكرملين الحرب في أوكرانيا واعتقل في يوليو / تموز من هذا العام).
جذور سردية الكرملين حول المؤامرة ضد روسيا
غالباً ما يصور بوتين على أنه قومي، وأصر على استثنائية الثقافة الروسية وعظمتها المتأصلة وقيمها السامية. لكن أكثر ما يعرف عنه هو أنه دولاني [من المذهب الدولاني الذي يؤمن في مركزية الدولة وسيطرتها]، زعيم يقلل من أهمية احتياجات الناس أمام احتياجات الدولة.
ففي رأيه، إن احتياجات الدولة هي إمبريالية بالدرجة الأولى. واستند بوتين إلى هذه الرؤية عن روسيا من أجل تبرير الحروب العدوانية في الخارج وقمع المعارضة في الداخل. لقد حاول التوفيق بين مطالب الأغلبية الإثنية الروسية، والواقع المتعدد الإثنيات للاتحاد الروسي، وطموحاته الإمبريالية الشخصية. في كثير من الأحيان، تجاهل تفضيلات تلك الأغلبية الإثنية.
على سبيل المثال، أبقى الحدود مفتوحة أمام المهاجرين من آسيا الوسطى لسد الثغرات في سوق العمل على رغم انتشار كراهية الأجانب، وألغى ديون البلدان الأفريقية والآسيوية لتعزيز النفوذ السياسي الروسي في الخارج على رغم الفقر المتزايد في الداخل.
تجاوز بوتين هذه المشكلة من خلال إعطاء الهوية الروسية تعريفاً أوسع. تستخدم اللغة الروسية نعتين يعنيان “الشخص الروسي”: “روسكي” russkii الذي يصف الشخص الروسي الإثني، و”روسيسكي” rossiiskii الذي يصف المواطن الروسي.
في مقابلة أجريت عام 2012، استخدم بوتين الصفة الأولى بشكل واضح في سياق كان من الأفضل والأكثر بديهية أن يستخدم فيه الصفة الثانية. وقال: “إن الشعب الروسي هو شعب يشكل دولة، وفق ما يثبته واقع وجود روسيا بحد ذاته. مهمة الشعب الروسي الكبرى هي توحيد هذه الحضارة وجعلها أكثر تماسكاً: استخدام لغتهم وثقافتهم و’التعاطف العالمي‘، على حد تعبير فيودر دوستويفسكي، في سبيل توثيق الروابط بين الروس الأرمن والروس الأذريين والروس الألمان والروس التتار”.
في الماضي، كان الحديث عن “أرمني روسي إثني” يمثل نوعاً من التناقض اللفظي، لكن بوتين كان يحاول بذكاء توسيع تعريف “روسكي” [أي الشخص الروسي]، وتحويله إلى هوية سياسية وثقافية يختارها المرء.
وهكذا، لم تعد الهوية الروسية وسيلة لتحديد الروس الإثنيين فحسب بل أصبحت تنطبق على أي شخص يتماهى مع أية نظرة تجاه العالم يوافق عليها الكرملين، بغض النظر عن إثنيته. وبدلاً من الإشارة إلى تراث الروس الإثنيين وآرائهم وتقاليدهم، فإن كونك روسياً أصبح يعني الآن أنك داعم للدولة وتتماهى معها، وأي روسي يعارض الدولة لا يعتبر روسياً بعد ذلك. إذاً لا عجب أنه بعد غزو أوكرانيا عام 2022، دعا فياتشيسلاف فولودين، رئيس مجلس الدوما ومساعد بوتين السابق، إلى تجريد أولئك الذين انتقدوا الحرب من جنسيتهم.
سياسات الهوية
لقد نجحت سياسة بوتين المتوازنة لفترة من الوقت. لكن النكسات في ساحة المعركة في أوكرانيا سمحت لأشكال مختلفة من القومية المتطرفة بالازدهار. ففي نهاية المطاف، هناك أمور كثيرة قد يكرهها القوميون بشأن الحرب في أوكرانيا. فهي أودت بحياة آلاف عدة من الجنود الروس. وأدى القصف في شرق أوكرانيا إلى مقتل آلاف الأشخاص الذين يعتبرهم بوتين من الروس.
واستطراداً، تسبب بوتين إلى الأبد في تنفير الأوكرانيين الناطقين بالروسية الذين كانوا ذات يوم متقبلين للدعاية الإعلامية الخاصة به. كذلك، أبدى إعجابه بالزعيم الشيشاني رمضان قديروف الذي لعب مقاتلوه دوراً بارزاً في الحرب، الأمر الذي أثار غضب القوميين الإثنيين الروس الغاضبين من فكرة قيام الإثنيين الشيشانيين بقتل السلاف الشرقيين في أوكرانيا.
اليوم، تمزج أكثر الجماعات القومية نجاحاً في روسيا بين أقوى الأيديولوجيات في البلاد: التطرف اليميني والحنين إلى الاتحاد السوفياتي والإمبريالية القيصرية والأرثوذكسية الروسية. وهذه الجماعات القومية الأكثر رسوخاً تدعم الغزو، حتى أن بعضها ينتقد الكرملين لأنه متساهل أكثر مما ينبغي في التعامل مع الأوكرانيين.
هناك مجموعات أخرى أقل عدداً، يفضلها المؤيدون الأصغر سناً، تتبنى شكلاً أكثر ليونة واعتدالاً من القومية، وأقل عنفاً وأكثر تركيزاً على القضايا الداخلية. إنهم غير متحمسين للغزو، لأنه يضعف روسيا، لكنهم مع ذلك يواصلون دعم الجنود الروس، ويرسلون الإمدادات الطبية إلى الخطوط الأمامية. كما يرسلون المساعدات إلى المدنيين الأوكرانيين في المدن التي تحتلها روسيا. على سبيل المثال، نظمت حركة “مجتمع.مستقبل” (أوبشيستفو بودوشيي) Society.Future سلسلة من جولات المساعدات الإنسانية لسكان مدينة ماريوبول الأوكرانية وغيرها من المدن الصغيرة بعد أن دمرها القصف الروسي.
بالنسبة إلى مجموعات مثل هذه، فإن معارضة الحرب لا تنبع من أي التزام بالقيم الليبرالية، وبدلاً من ذلك، فهي تتناسب تماماً مع النظرة القومية الإثنية تجاه العالم. ويجمع أعضاء تلك المجموعات بين كراهية الأجانب والقلق على الجندي الروسي العادي. لقد أظهر روستيسلاف شوروخوف، وهو أحد المشاركين في منصة إخبارية قومية، اندماج المشاعر المعادية للمهاجرين والمناهضة للحرب في منشور على تطبيق “تيليغرام” جرت مشاركته على نطاق واسع، وكتب فيه “يموت الروس بمعدل مليون شخص سنوياً، ويستبدلون بجحافل من الإرهابيين”.
ولمثل هذه الجماعات علاقة معقدة مع الحكومة الروسية. يجد الكرملين أن جمع التبرعات الخاصة بها مفيد، فهو يسد فجوة لم تتمكن الدولة من سدها ويروج لصورة إيجابية عن الروس بصفتهم المنقذين، ولذلك يسمح الكرملين لها بالاستمرار في نشاطها. لكن الدولة تنظر أيضاً إلى هذه الجماعات باعتبارها تهديداً محتملاً. فهي في نهاية المطاف مستقلة نسبياً وأيديولوجياتها لا تتمحور حول بوتين.
في الواقع، إن مجموعات جمع التبرعات والمتطوعين هذه تنمو يوماً بعد يوم ومن المرجح أن تتوسع أكثر مع مواصلة الصراع في أوكرانيا واستمرار وزارة الدفاع الروسية في إهمال احتياجات قواتها. وعلى رغم أن مراقبين غربيين كثيرين يتحسرون على موت المجتمع المدني في روسيا، فإن هذه المجتمعات تمثل شكلاً من أشكال المجتمع المدني الذي يشهد صعوداً، كل ما في الأمر هو أن نوع نشاطها يتناقض مع معظم الأنشطة في الغرب.
الأجانب والمهاجرون يشكلون أهدافاً سهلة للسكان الذين يسعون إلى استعادة كبريائهم
إن التمرد الفاشل الذي قاده رئيس فاغنر يفغيني بريغوجين في يونيو (حزيران) والطريقة التي تلقاه فيها الروس العاديون، أظهرا قوة بعض هذه الفصائل القومية الناشئة. قال أولئك الذين تعاطفوا مع التمرد إنهم رأوا أن مرتزقة بريغوجين يقفون إلى جانب الشعب، وشجع بريغوجين هذه الآراء في خطاباته، علماً أنه كان المسوق لها بشكل دائم. مصوراً نفسه على أنه صريح ويروي الأمور على حقيقتها، زعم أن غزو أوكرانيا كان مبنياً على الأكاذيب وأن القتال كانت تعوزه الكفاءة. إنها قصة قوية: روسيا لا تزال عظيمة وجنودها أبطال لكنهم تعرضوا للخيانة والتضليل من النخب الخائنة والجنرالات الفاسدين. مثل هذه التأطيرات تشكل تعزية لآلاف من الروس الذين فقدوا أحباءهم في أوكرانيا ويشعرون بالارتباك بسبب الحرب ولكنهم ما زالوا ينتمون ويرغبون في الانتماء إلى المجتمع القومي المتخيل في روسيا. وتحظى هذه القصص بشعبية خاصة بين القوميين الإثنيين الذين يحاولون تفسير إخفاقات الحرب من دون إلقاء اللوم على الشعب الروسي.
واستكمالاً، سلط التمرد الضوء على الصعوبات التي تواجهها مجموعات المعارضة الروسية الليبرالية الصغيرة الحجم نسبياً، التي ترفض أي شكل من أشكال القومية باعتبارها عائقاً للقيم الليبرالية العالمية. ومن المرجح أن يجد هؤلاء الليبراليون أنفسهم غير متوافقين مع الرأي العام إذا فشلوا في الاعتراف بأن معظم الناس، وخصوصاً في أوقات عدم الاستقرار والخسارة، يريدون بشدة الانتماء إلى شيء أكبر وأعظم من أنفسهم. إنهم يتوقون إلى الشعور بالاستمرارية التاريخية، في شكل مجموعة إثنية أو أمة مدنية أو فكرة أو دولة. وعلى النقيض من ذلك، يميل الليبراليون في روسيا إلى تقديم فردية مثالية يوتوبية [نوع من الليبرالية يعطي الأولوية للحقوق والحريات الفردية] غير جذابة في نظر أغلب الناس.
ومن أجل تحديد من أنت عليه عليك تحديد من لست عليه [وإحدى الطرق لتحديد ما تكونه تتمثل في تحديد ما لا تكونه]. يشكل الأجانب والمهاجرون أهدافاً سهلة لشعب يسعى إلى استعادة كبريائه، وتظل المشاعر المعادية للمهاجرين منتشرة في روسيا.
في يوليو، في نوفوسيبيرسك، ثالث أكبر مدينة في روسيا، وضعت ملصقات مجهولة المصدر تبلغ المهاجرين من آسيا الوسطى وجنوب القوقاز “أخباراً سارة”: “الحدود مفتوحة. يمكنكم العودة لبلدكم وجعله مكاناً أفضل”. وفي الشهر نفسه، دهمت الشرطة في موسكو مسجداً، وأمرت المصلين بالانبطاح أرضاً وتحققت من أوراق إقامتهم.
وأظهر رد الفعل على الحادثة التحالفات المتنافسة التي يجب على بوتين أن يراعيها: لقد طلب كونستانتين مالوفيف، وهو من الأوليغارشية المحافظة المتشددة، “أن يبعد ضيوف المدينة أيديهم عن شرطة مكافحة الشغب”، في حين وصف رمضان قديروف، حاكم الشيشان، رد فعل الشرطة بأنه “استفزاز”.
إعادة ابتكار روسيا
تنطوي أغلب سيناريوهات روسيا ما بعد بوتين على درجة كبيرة من عدم الاستقرار السياسي، وفي زمن الفوضى، قد تشكل القومية الإثنية ملجأ لكثير من الروس. وعلى وجه التحديد، إذا انتهت الحرب في أوكرانيا بهزيمة روسيا بأي شكل من الأشكال، فإن أي زعيم يأتي بعد بوتين سيكون عليه أن يستمد الشرعية الشعبية من أي شيء آخر غير الإمبريالية. ومع فقدان الدولة لصدقيتها، سيتعين عليه التمييز بين الهوية الروسية والدولة، وبعبارة أخرى، سيحتاج إلى استعادة نوع من القومية الشعبية.
وإذا ظلت هذه نسخة شمولية من القومية فمن الممكن أن توفر طريقاً إلى إحساس أكثر عمقاً بالأمة الروسية لا يعتمد على التوسع الإمبريالي من أجل الحفاظ على تماسكها. ولكن في مجتمع يعاني الصدمة بسبب الحرب على أوكرانيا، فإن القومية الإثنية سيكون لها الأفضلية، لأنها تخاطب الرغبة الإنسانية الأساسية في الشعور بالتفوق على الآخرين والانتماء إلى مجموعة حصرية.
ولا شك في أن التحول [الاستدارة] نحو القومية الإثنية سيكون أمراً سيئاً بالنسبة إلى روسيا. وفي الشيشان، وداغستان، وغيرهما من المناطق العرقية، قد يؤدي ذلك إلى تجدد المطالبات الانفصالية، لا بل حتى إلى مزيد من إراقة الدماء.
ولكن من الناحية الواقعية فإن أي نوع من التحول السياسي في روسيا سيكون عصيباً لا بل حتى دموياً. وفي مواجهة هذا الاحتمال القاتم، يتعين على أولئك الذين يتوقون إلى روسيا الديمقراطية ألا يحاولوا فرض نظام ليبرالي عالمي، وعوضاً عن ذلك، ينبغي عليهم أن يتقبلوا أن القومية ستظهر حتماً، وأن يحاولوا تحديد المظهر الذي ستتخذه، وتوجيهها بعيداً من أشكالها القبيحة.
عليهم أن يدفعوا باتجاه نسخة تتماشى مع الفكرة الجمهورية المتمثلة في “نحن الشعب” عوضاً عن “هو الحاكم” [أي أن السلطة في يد الشعب وليس فردياً في يد الحاكم]. وستكون تلك القومية من النوع الذي يركز على كل المواطنين الروس ويمنح الجميع شعوراً بأنهم يملكون البلاد.
وهذا التحول الذي هناك حاجة ماسة إليه يمكن أن يجد الإلهام في الماضي. ففي أوروبا الشرقية في القرن الـ19، كانت القومية قوة ديمقراطية أسقطت الممالك الإمبراطورية. وفي أواخر القرن الـ20، فعلت الشيء نفسه بالأنظمة الشيوعية.
العلم الرسمي للإمبراطورية الروسية من 1858 إلى 1896 (ويكيبيديا)
العلم الرسمي للإمبراطورية الروسية من 1858 إلى 1896 (ويكيبيديا)
لكن إحدى العقبات اليوم هي عدم وجود رموز وطنية يمكن استخدامها في روسيا. لطالما نظر القوميون إلى العلم الحالي نظرة ازدراء إذ إنهم يربطونه ببوتين، وفي الآونة الأخيرة، تلطخ بسبب غزو أوكرانيا. ولذلك، يلجأ القوميون في كثير من الأحيان إلى الرموز الإمبراطورية، مثل العلم الأسود والأصفر والأبيض [العلم الرسمي للإمبراطورية الروسية من 1858 إلى 1896].
اللغة الروسية، من جانبها، لا تنتمي إلى المواطنين الروس فحسب بل إلى عدد أكبر بكثير من الناس، لأنها منتشرة على نطاق واسع في جميع أنحاء جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، مما يجعلها وسيلة غير عملية للقومية. لقد حاولت حركة “مجتمع. مستقبل” جعل كوسوفورتكا kosovorotka، أي القميص بالياقة الذي يفضله تقليدياً الفلاحون الروس، زياً وطنياً، لكن الفكرة لم تحقق النجاح حتى الآن.
وبطريقة موازية، هناك نقص أيضاً في الأساطير القومية. فالفولكلور الروسي لا يحظى باهتمام كبير بالنسبة إلى أغلب الروس، وتدور كتب التاريخ المدرسية كلها حول الحروب والطغاة والإمبريالية. كذلك، أصبحت تقاليد نوفغورود وبسكوف، وهما مدينتان-دولتان من القرون الوسطى كانتا تتمتعان ببعض المؤسسات الجمهورية وحقوق التصويت الأساسية، تقاليد منسية إلى حد كبير.
ستكون عملية إعادة ابتكار القومية الروسية متروكة بالكامل للروس. ومن الممكن أن يلعب الساسة، ونشطاء المجتمع المدني، والمثقفون، والناس العاديون دوراً في ذلك. وسيتعين عليهم أن يقبلوا أن هناك أموراً كثيرة تفرقهم وأن يركزوا على ما يوحدهم. وسيتعين عليهم أن يكفوا عن انتقاد بعضهم بعضاً، وأن يعتبروا أنفسهم بدلاً من ذلك مواطنين يبذلون جهوداً مشتركة في سبيل تغيير البلد الذي يحبونه، وبالتالي إنقاذه.
من إمبراطورية إلى أمة
وحتى في ظل هذا السيناريو المتفائل، فإن التحول نحو القومية في السياسة الروسية سيكون محفوفاً بكثير من المخاطر وقليل من الأمل. وفي حال وجدت روسيا نفسها عاجزة عن مواجهة مشكلاتها الداخلية، فهي قد تختار تطوير رؤية تفوقية لهوية “روسكي” والانزلاق نحو معركة طاحنة ضد أعداء داخليين مزعومين، هذه المرة أعداء إثنيين وليس مجرد أعداء سياسيين، مما يؤدي إلى انهيار روسيا كما نعرفها. أو ربما قد تنجذب روسيا مرة أخرى إلى الفكرة المغرية المتمثلة في تحقيق العظمة في الخارج، وبناء دولة لا تعرف الرحمة، وتبني سياسة خارجية عدوانية.
لقد أصبحت روسيا الآن موطناً لمجموعة هائلة من الحركات القومية، ومن الصعب أن نجزم الشكل الذي قد تتخذه القومية الروسية بعد بوتين. ولكن إذا اتخذت شكلاً مرحباً [أكثر دفئاً وتقبلاً]، يركز على إرساء التضامن وتقاسم السلطة مع القوميات الروسية الأخرى، فإنها ستوفر فرصة خاطفة لمعالجة المحرك الأساسي للعدوان الروسي الأخير: الخلط بين العظمة والطموحات الإمبراطورية. وهكذا، سيصبح بإمكان الروس أخيراً أن ينظروا إلى بلدهم باعتباره أمة لا إمبراطورية.