ارتفاع الديون ينذر بالمزيد من التهميش الجيوسياسي لمصر وتونس

ارتفاع الديون ينذر بالمزيد من التهميش الجيوسياسي لمصر وتونس

تكتسب البلدان المصدّرة للمواد الهيدروكربونية (النفط والغاز الطبيعي) مكانة بارزة على حساب الدول ذات المديونية الشديدة مثل مصر والأردن ولبنان وتونس. ويؤدّي ذلك إلى تفاقم التهميش الاقتصادي للبلدان منخفضة ومتوسطة الدخل، ما يرغمها على الاصطفاف جيوسياسيًا إلى جانب جهات مموِّلة طموحة وغنيّة بالموارد، تتسبّب دوائر نفوذها المتداخلة أو المتصادمة بالمزيد من الاضطراب والتفكّك في المنطقة.

القاهرة/تونس- من بين البلدان المُثقلة بالديون، واجهت مصر وتونس تحدّيات متشابهة، على الرغم من تباين مساراتهما السياسية والاقتصادية منذ العام 2011. فكلتاهما تسعيان إلى الحصول على الدعم المالي الخارجي، بعد معاناتهما من صدمات متتالية نتيجة ارتفاع أسعار المواد الغذائية وموارد الطاقة وزيادة معدّلات الفائدة. وبعد سنوات من التقشّف، تتخبّط مصر، وهي أكبر مستورد للقمح في العالم، في مواجهة التداعيات الناجمة عن الحرب الروسية الأوكرانية. وبالمثل، واجهت تونس بدورها أوضاعًا مالية متدهورة باطّراد ودينًا عامًّا تكاد تعجز عن تحمّله.

ومنذ تفشّي وباء كوفيد – 19، استفحلت أوجه الضعف البنيوية طويلة الأجل في البلدَين بسبب الظروف الاقتصادية العالمية المناوئة. وأدّى تراجع الاستثمارات الأجنبية المباشرة جرّاء التباطؤ طويل الأمد في الاقتصاد العالمي، والانكماش في التجارة العالمية وقطاع السياحة المحوري في مصر وتونس، والارتفاع الشديد في أسعار المواد الغذائية وموارد الطاقة، إلى تفاقم العجوزات والاحتياجات المالية.

وعلى الرغم من أن مصر أبرمت اتفاقًا مع صندوق النقد الدولي في ديسمبر 2022 جنّب البلاد أضرارًا محتّمة بعد تدفّق كبير للديون قصيرة الأجل إلى الخارج، فإنها لا تزال تعتمد بصورة أساسية على سخاء دول مجلس التعاون الخليجي، مع أن هذه الدول متردّدة حيال دعمها نظرًا إلى حاجاتها المالية الضخمة. وفي تونس، عوّل الرئيس قيس سعيّد بصورة أساسية على الدعم المالي الضئيل الذي تقدّمه الجزائر المجاورة. ومثلما اضطُرَّت مصر إلى إبداء المزيد من الاصطفاف إلى جانب دول الخليج بسبب حاجاتها المالية، كان على تونس أن تفعل الأمر نفسه مع الجزائر، متخلّيةً عن النهج الأكثر استقلالية الذي اتّبعته في السابق.

وولّد هذا الاعتماد المزمن على التمويل الخارجي حالة تهميش على مستويَين طالت مصر وتونس. فقد أصبحتا هامشيتَين على مستوى الاقتصاد العالمي، إذ باتت سياساتهما الاقتصادية مطبوعةً إلى حدٍّ بعيد بالحاجة إلى الحصول على التمويل الخارجي والقبول بتفضيلات الدائنين لملء فجواتهما التمويلية الآخذة في الاتّساع. وفي غضون ذلك، عبّر اعتمادهما على البلدان المصدِّرة للمواد الهيدروكربونية عن المزيد من تهميشهما أيضًا على المستوى الجيوسياسي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ما أسهم في تقويض الاستقلالية النسبية التي تمتعت بها مصر وتونس لفترة طويلة في مجال السياسة الخارجية.

منذ العام 2013، أصبحت مصر وتونس أكثر اعتمادا على الموارد المالية الخارجية نتيجة الصدمات التي تعرّضت لها أسعار المواد الغذائية وموارد الطاقة ومعدّلات الفائدة. ففي ذلك العام، أقرّت تونس برنامجها الأول مع صندوق النقد الدولي بعد انتفاضة 2011، فيما اعتمدت مصر على الودائع طويلة الأجل والقروض ذات الفوائد المنخفضة من دول الخليج لمحاولة تحقيق استقرارها الاقتصادي.

وأبرمت تونس مجددًا اتّفاقًا مع صندوق النقد الدولي في العام 2016، وأقدمت مصر على هذه الخطوة أيضًا. وكان هذان البرنامجان أساسيَّين من أجل وصول البلدَين إلى الأسواق المالية الدولية، لكنهما جعلا مصر وتونس خاضعتَين للشروط التي تفرضها المؤسسات المالية الدولية، ما زاد من إمكانية تأثّرهما بالصدمات الخارجية، ولاسيما التغييرات في معدلات الفائدة على الدولار الأميركي.

وقد ألقت هذه الصدمات ضغوطًا إضافية على السلطة الحاكمة في مصر، ما زاد من مخاطر حدوث توترات اجتماعية، فيما لا تزال تقوّض على نحو خطير قدرة سعيّد على ترسيخ قيادته في تونس. وتعود مشاكل مصر الاقتصادية إلى المرحلة التي أعقبت ثورة 2011 وما نجم عنها من زعزعة للاستقرار. وقد تضافرت عوامل مثل انعدام الأمن الغذائي والعجوزات الكبيرة في الحساب الجاري والميزان التجاري لتزيد من اعتماد البلاد على التمويل الأجنبي، فارتفع رصيد الدين الخارجي وتفاقم عبء خدمة الدين.

ومنذ أن أبرمت الحكومة المصرية اتفاقها مع صندوق النقد الدولي في أواخر العام 2016 اعتمدت برنامجًا نيوليبراليًا تضمّن خفضًا حادا في قيمة الجنيه المصري، ما أسفر عن ارتفاع معدلات التضخم. وفرض برنامج صندوق النقد الدولي أيضًا إجراءات تقشفية شديدة، من بينها خفض الدعم عن السلع الأساسية، وتقليص الخدمات العامة، وتوسيع نطاق الضرائب غير المباشرة.

وكان التحسُّن النسبي في مؤشرات الاقتصاد الكلّي ضروريًا لجذب استثمارات قصيرة الأجل في الديون الخارجية لمصر، والتي غالبًا ما يكون أجل استحقاقها أقل من عام. والحال هو أن حصّة الدين قصير الأجل في الاحتياطيات الخارجية لمصر تضاعفت ثلاث مرات من متوسط بلغ 11.86 في المئة في الفترة الممتدة بين عامي 2000 و2010، إلى 29 في المئة في الفترة بين عامي 2011 و2021. ويُعزى ذلك إلى معدلات الفائدة الحقيقية التي ارتفعت كثيرًا بعد إبرام الاتفاق مع صندوق النقد في العام 2016، إضافةً إلى تراجع قدرة مصر على جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة.

في البداية، تألّفت الديون قصيرة الأجل من ودائع قامت مصارف مركزية في دول مجلس التعاون الخليجي بإيداعها لدى البنك المركزي المصري. ولكن، اعتبارًا من العام 2017 استُبدِلت هذه الودائع تدريجيًا بتدفقات مالية قصيرة الأجل من صناديق الأسهم الدولية. لكن ذلك عرّض مصر بصورة أكبر لتقلّبات الأسواق المالية العالمية، وعكس أيضًا تدهور شروط الاقتراض للاقتصادات الطرفية في دول الجنوب العالمي، والتي كان عليها أن تسعى لجذب التمويل قصير الأجل في ظل غياب الاستثمارات الأطول أجلًا.

وفي تونس، كان الوضع مختلفًا إلى حدٍّ ما. فبعد الانتفاضة الشعبية في فترة 2010 – 2011، تدفّقت إلى البلاد أموال كبيرة من أنواع مختلفة، تراوحت بين قروض منخفضة الفوائد، وودائع في البنك المركزي التونسي، وقروض مضمونة من الولايات المتحدة، ومساعدات من الاتحاد الأوروبي في مجال التمويل الكلّي للميزانيّة، وغير ذلك. وقد ساعدت هذه التدفقات البلاد على التعامل مع التراجع الحاد في الاستثمارات الأجنبية المباشرة وانهيار القطاع السياحي بعد الهجمات الإرهابية في عامي 2015 و2016.

وفي ذلك الوقت، اعتبرت النُخب السياسيّة هذه التدفقات كنوع من الريع المدفوع بعملية التحول الديمقراطي في تونس. ولكن صنّاع القرار التونسيون شعروا بالثقة بأن الشركاء الدوليين سيستمرون في دعم الديمقراطية في تونس مهما حدث، لذا لم يكن لديهم حافز للامتثال لشروط المؤسسات المالية الدولية. فبدلًا من تطبيق الإصلاحات لخفض أعباء الديون التونسية، اعتمدت النخب الحاكمة على التدفقات المالية لكسب الوقت وتجنّب إجراء الإصلاحات الاقتصادية التي تشتدّ حاجة البلاد إليها.

◙ تونس تكبّدت ثمن التأخّر في تطبيق الإصلاحات بعد تفشّي وباء كوفيد – 19. فقد أدّت تداعيات ذلك على النشاط الاقتصادي إلى تسجيل معدل نمو سلبي

ونظرًا إلى الأوضاع المالية المتدهورة، ما كان من الحكومة إلّا التفاوض من أجل إبرام اتفاق مع صندوق النقد في العام 2016. ومن المطالب التي وضعها الصندوق خفض فاتورة رواتب القطاع العام والدعم الحكومي للسلع الأساسية، وتطبيق الإصلاح الضريبي. ولكن إخفاق القادة السياسيين في التوفيق بين المصالح الاقتصادية والقطاعية المتضاربة جعل من الصعب تبنّي الإصلاحات وخفض الدين العام. وحين رأى الصندوق أن برنامجه لا يحرز أيّ تقدّم، قرّر في العام 2019 تعليق صرف دفعات القروض، ما كشف عن تحوّل في موقفه فيما أصبحت الأوضاع الاقتصادية التونسية شديدة الهشاشة.

وعلى الصعيد الداخلي، شجّع إخفاق الحكومات التونسية المتعاقبة في التوصل إلى تسوية لتقاسم الأعباء، الفاعلين المحليين (نقابات ونخب أعمال وشركات) على التمسّك بمطالبهم.
وتكبّدت تونس في نهاية المطاف ثمن التأخّر في تطبيق الإصلاحات بعد تفشّي وباء كوفيد – 19. فقد أدّت تداعيات ذلك على النشاط الاقتصادي إلى تسجيل معدل نمو سلبي بمقدار 8.6 في المئة من إجمالي الناتج المحلي الحقيقي في العام 2020، وهو أكبر انخفاض شهده اقتصاد البلاد منذ استقلالها في العام 1956.

وحاولت تونس التعافي من هذه الصدمة، إلا أن اندلاع الحرب الأوكرانية في فبراير 2022 فاقم اختلالاتها المالية. فقد سجّل الدين العام زيادة حادّة من 47.7 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في 2012 إلى 88 في المئة في 2022. وازدادت النسبة المئوية للدين قصير الأجل في إجمالي الدين الخارجي التونسي من 21.7 في المئة في 2011 إلى 32.4 في المئة في 2021. وسُجِّلت أيضًا زيادة كبيرة في حصّة الدين قصير الأجل كنسبة مئوية من إجمالي الاحتياطات من 51 في المئة في العام 2011 إلى 152.5 في المئة في العام 2021.

التداعيات الجيوسياسية
◙ فرصة متاحة

وقد سلّطت هذه الاتجاهات الضوء على انكشاف البلاد على الأسواق المالية الخارجية والتراجع الحاد في المصادر طويلة الأجل للعملات الصعبة، أي الاستثمار والسياحة والإيرادات من صادرات الفوسفات التونسية. وكما في مصر، أدّى الارتفاع السريع في أسعار الطاقة الدولية، والاعتماد الشديد على الواردات الغذائية، وزيادة معدلات الفائدة العالمية إلى اشتداد حاجة تونس إلى العملات الصعبة. ولكن بعد العام 2019، فقدت تونس إمكانية الوصول إلى الأسواق المالية الدولية بعد أن عمدت وكالات التصنيف الأساسية بخفض تصنيفها الائتماني بصورة دورية.

نتيجة عجز تونس عن تغطية حاجات إنفاقها وتأمين دعم مالي دولي كبير، بدأت تواجه مشاكل على مستوى تأمين الواردات الضرورية. ففي العام 2022، بدأت سلع ومنتجات أساسية مثل السكر والزيت النباتي والأرز والقهوة والحليب تغيب عن رفوف متاجر البيع بالتجزئة. لذا، من غير المفاجئ أن يكون المأزق الذي تعيشه تونس ومصر نتيجة المصاعب التمويلية قد أثّر على مقارباتهما السياسية الإقليمية.

◙ اعتماد مصر وتونس على التمويل الخارجي أدّى إلى تهميشهما في المشهد الجيوسياسي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا

تعيّن على مصر وتونس، في إطار مساعيهما لتلبية حاجاتهما المالية، مراجعة سياساتهما الخارجية والاصطفاف إلى جانب دول ساعدت في تمويلهما أو تستطيع ذلك. دفع هذا الواقع مصر إلى الاقتراب أكثر من المواقف السياسية لدول مجلس التعاون الخليجي، مقارنةً مع دورها السابق كدولة رسمت معالم توجهاتٍ سياسية كبرى في العالم العربي. أما تونس فلم تحصل على دعم ملحوظ إلّا من الجزائر، وتخلّت عن سياسة الاعتدال التقليدية التي كانت تنتهجها حيال شؤون منطقة شمال أفريقيا. فاقمت هذه التحولات عملية التهميش الإقليمي لدولتَين اضطلعتا في السابق بدورٍ رائدٍ في التاريخ العربي خلال مرحلة ما بعد الاستعمار.

ونظرًا إلى المشاكل الاقتصادية التي واجهتها مصر خلال العقد الماضي، احتاجت بصورة متكررة إلى الدعم المالي من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. وحاولت الدولتان الخليجيتان إرساء الاستقرار في مصر لأسباب سياسية وجيوستراتيجية.

لكن موقف دول الخليج حيال مصر تبدّل اليوم، إذ لم يعد التركيز يقتصر على الاعتبارات السياسية والأمنية وحسب، بل بات المستثمرون الخليجيون يتطلّعون على نحو متزايد إلى تحقيق عائدات أكبر على استثماراتهم من خلال زيادة حصصهم في أصول مملوكة للدولة، يتمتّع بعضها بأهمية إستراتيجية، على غرار المرافئ والمرافق العامة. وفي موازاة ذلك، تتزايد المخاوف المرتبطة بالاقتصاد المصري. فنظرًا إلى اعتماد القاهرة على حزم إنقاذ مالي أكبر وبصورة أكثر تواترًا، باتت حكومات الخليج مهتمّة بسياسات الاقتصاد الكلّي في مصر.

وفيما تبذل كلٌّ من مصر وتونس مساعٍ حثيثة لإرساء الاستقرار في البلدَين، فإن تهميشهما المتزايد قد يُدخلهما في حلقة مفرغة. فكلما تفاقمت مشاكلهما الاقتصادية، تعاظمت معها حاجاتهما المالية، وتزايد اعتمادهما الجيوسياسي على الجهات المموّلة الإقليمية. والمشكلة هي أن تهميشهما الجيوسياسي يحرمهما من هامش المناورة، على وقع تراجع أهميتهما في السياق الجيوسياسي الإقليمي والعالمي المتغيّر.

وفي ظل التحولات العميقة التي تخوضها دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تبدو مصر وتونس غائبتَين عن عملية صنع النتائج. فقد غابت مصر عن المصالحة بين السعودية وإيران، فيما عرض الرئيس الجزائري في مايو 2022 أن يؤدّي دورًا لحلحلة الأزمة السياسية التي تشهدها تونس، وكأن القادة التونسيين عاجزون عن حل الأزمة بأنفسهم. إذًا، حين تسود حالة التهميش، يصعب على الأرجح تغيير هذا الواقع.

العرب