بالتزامن مع موعد افتتاح الدورة التشريعية الجديدة للبرلمان التركي في الأول من الشهر الجاري، تعرضت وزارة الداخلية الواقعة على مسافة قصيرة من مبنى البرلمان، لهجوم إرهابي أدى إلى مقتل المهاجمين وإصابة شرطيي الحراسة بجروح. فقد فجر أحدهما عبوة ناسفة كان يحملها بنفسه، وقتل الثاني في إطلاق النار الذي تبادلاه مع عناصر الحراسة.
صحيح أن هذا الهجوم ليس الأول في تركيا، لكن عدداً من عناصره يشير إلى فارق نوعي عن السوابق. منها التوقيت المتزامن مع افتتاح دورة المجلس، وأحد البنود المهمة على جدول الأعمال هو المصادقة على قرار انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي، وهو ما يشكل بعداً خارجياً محتملاً لهجوم أنقرة؛ ومنها الهدف، مبنى وزارة الداخلية الذي يشكل نوعاً من التحدي الأمني الكبير لحكومة أنقرة؛ وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن حزب العمال الكردستاني قد تبنى العملية، فهذا يقودنا إلى التساؤل عن معنى هذا التصعيد، بعد طول هدوء، ومن جهة أخرى إلى التساؤل عما إذا كان للتصعيد علاقة بحرب الطائرات المسيّرة التي يشنها الجيش التركي منذ وقت طويل على عناصر ومواقع «قسد» في سوريا (لكن بيان العمال الكردستاني لم يشر إلى ذلك).
من جهة أخرى كان تصريح وزير الداخلية التركي، على حسابه على تويتر، مختلفاً بعض الشيء عن بيانات الداخلية المعتادة في التعليق على هجمات «الكردستاني». فبعد السرد الرسمي الموجز لحادثة الهجوم، توعد وزير الداخلية بمواصلة الجهود الأمنية في ملاحقة «كل أشكال الإرهاب، وعصابات الجريمة المنظمة (المافيا) وعصابات ترويج المخدرات».
غرابة التصريح تكمن في ذكر عصابات المافيا والمخدرات، مع أن الرواية الرسمية اتهمت «العمال الكردستاني» صراحةً حتى قبل صدور بيان التبني من قبله. والحال أن وزارة الداخلية قد شنت عدة حملات أمنية ضد عصابات مافيا وتجارة مخدرات، منذ استلام علي يرليكايا منصبه في حزيران الماضي خلفاً لسليمان صويلو، في التعديل الوزاري الذي أجراه أردوغان بعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية. وكان أبرز تلك الحملات ضد «مجموعة كابلن» بقيادة «آيهان بورا كابلن» الذي تم اعتقاله في مطار أتاتورك في إسطنبول، قبل أسبوعين، أثناء استعداده للهروب من تركيا.
أما حزب العمال الكردستاني الذي أعلن تبنيه للهجوم الإرهابي فلم يترك أي لبس في مسؤوليته عن الهجوم، وعليه أن يتحمل عواقب ذلك التي بدأت فعلاً بالهجوم على مواقعه في شمال العراق
وقد شاعت صور سابقة لكابلن يظهر فيها مع وزير الداخلية السابق سليمان صويلو، وتعود العلاقة المعروفة بينهما إلى ليلة السادس عشر من تموز 2016 بعد محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة. وكان ظهور صويلو في ذلك المساء مع مجموعة مسلحين دفاعاً عن الدولة ضد الانقلاب نقطة البداية في صعوده إلى السلطة وتحوله إلى أحد رجالها الأقوياء، إضافة إلى انتسابه لحزب العدالة والتنمية الحاكم قادماً من حزب يمين الوسط (الحزب الديمقراطي).
سبب هذه الإشارة إلى صويلو هو أن اسمه قد ظهر أيضاً في الجدل الذي ثار في الرأي العام بعد هجوم أنقرة. فقد شنت مجموعة «ترولات» معروفة باسم «أبابيل» ناشطة على وسائل التواصل الاجتماعي، حملة واسعة ضد وزير الداخلية الجديد متهمةً إياه بضعف التدابير الأمنية التي أدت إلى هذا الاختراق الكبير من قبل الإرهابيين الذين سرقوا سيارة من مدينة «قيصري» بعد قتل صاحبها، واجتازوا الطريق الطويل بين قيصري وأنقرة، محمّلين سيارتهم بكمية كبيرة من الأسلحة إضافة إلى المتفجرات. وعزوا هذا «الضعف» إلى «انشغال يرليكايا باستئصال بما اعتبره من ضباط وعناصر موالين لسلفه في الوزارة وجهازها الأمني، وصولاً للحجّاب الذين كانوا يقدمون الشاي لصويلو» على حد تعبير بعض تعليقاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي.
الواقع أن يرليكايا قد أجرى فعلاً مجموعة كبيرة من التنقلات والتعيينات في الوزارة، أشارت بعض وسائل الإعلام في حينه إلى أنها استهدفت الكتلة التي كانت مقربة من الوزير السابق.
كان من اللافت، من جهة أخرى أن أحداً من أركان حزب العدالة والتنمية الذي ينتمي إليه صويلو أو من الحكومة لم ينبرِ للدفاع عنه في مواجهة الاتهامات بعلاقته بزعيم المافيا المعتقل «كابلن» بل جاء هذا الدفاع من زعيم حزب الحركة القومية الحليف للحكومة دولت بهجلي، الذي سبق له ولعب دوراً بارزاً، في العام 2020، في رفض أردوغان استقالة صويلو بعد ارتكابه خطأ الإعلان عن حظر التجول قبيل ساعتين فقط من سريان مفعوله، وما أدى إليه ذلك من تزاحم الناس على المتاجر مجازفين باتساع عدوى وباء كورونا الذي من أجل الحماية منه كان قرار الحظر.
وفي تلك المناسبة كان أول ظهور لمجموعة «أبابيل» التي دافعت عن الوزير مطالبةً إياه بسحب طلب استقالته، الأمر الذي كرس في الأذهان أن هذه المجموعة «الترول» مرتبطة بالوزير صويلو. والآن ها هي المجموعة نفسها تهاجم وزير الداخلية الجديد الذي أطلق حملة واسعة ضد مجموعات المافيا وعصابات الاتجار بالمخدرات.
بالمقابل قام أبرز أركان السلطة بزيارة تضامن مع يرليكايا في اليوم نفسه الذي حدث فيه الهجوم، في حين لم يقم صويلو بزيارة مماثلة إلا بعد يومين.
كل هذه التطورات أظهرت إلى العلن ما كان يتم تداوله في الكواليس من الصراع الخفي بين الوزيرين الحالي والسابق، وأسلوبهما المختلف في إدارة شؤون الأمن الداخلي، مع التزام السلطة الصمت أمام ما يتعرض له صويلو من «فتح دفاتر» بعد عزله من منصبه الذي شغله طوال سبع سنوات، والتداول العلني في الإعلام عن علاقاته المفترضة مع مجموعات مافيوية.
أما حزب العمال الكردستاني الذي أعلن تبنيه للهجوم الإرهابي فلم يترك أي لبس في مسؤوليته عن الهجوم، وعليه أن يتحمل عواقب ذلك التي بدأت فعلاً بالهجوم على مواقعه في شمال العراق، كما بحملة اعتقالات واسعة للمشتبه بعلاقتهم به في مختلف المدن التركية.