المؤتمر السنوي لأطراف اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ الذي أنهى أعماله في العاصمة الفرنسية قبل أيام (من 30 نوفمبر/ تشرين الثاني إلى 12 ديسمبر/ كانون الأول 2015)، تحول إلى مؤتمر قمة عالمي، بحيث شهد مشاركة 150 من رؤساء الدول والحكومات على رأسهم الرئيس الأمريكي باراك أوباما والرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الصيني جي جينبنغ ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي وغيرهم. ومع أن القضية المكرس لمناقشتها وإيجاد الحلول العالمية لها هي ظاهرة تغير المناخ في العالم، إلا أنه في جوهره كان مؤتمراً اقتصادياً عالمياً بامتياز من حيث تعلقه مباشرة بطريقة اقتسام وتوزيع الكلفة الاقتصادية العالمية الناتجة عن المشكلة على الدول المشاركة في المؤتمر ،الأعضاء في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ.
ونظرا للتكلفة الباهظة لهذه العملية، ولأن إنجازها سوف يستغرق كل العقود الثمانية المتبقية من القرن الحالي – في حال التزمت كافة دول العالم بلا استثناء بتنفيذ التزاماتها، لاسيما منها التزامات التخفيف(Mitigation)، والأخرى الرديفة لها وهي الالتزامات المالية المتصلة بالاستثمار في مشاريع ومبادرات خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري (6 غازات أبرزها غاز ثاني أكسيد الكربون)، والالتزامات المتصلة بنقل تكنولوجيا المناخ وتدابير مكافحة هذه الظاهرة التي يقول العلماء في الهيئة الحكومية (الدولية) لتغير المناخ، المكلفة من الأمم المتحدة استشاريا بمتابعتها والتقرير الدوري بشأنها إنها سوف تفضي إلى غمر دول جزرية وشاطئية بالمياه وإلى اختفائها من الوجود فإن هذه القضية قد غدت أكبر بؤرة للصراع بين القوى الكبرى (الولايات المتحدة وحليفاتها الأوروبيات) والقوى الصاعدة (الصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا).. وبصفة عامة بين الدول المتقدمة والدول النامية.
كان هذا المؤتمر مكرس، على غرار مؤتمر كيوتو لعام 1997، لإبرام اتفاق جديد يحل محل بروتوكول كيوتو. وقد جرى التفاوض عليه لمدة 4 سنوات (من أواخر عام 2011). ولذلك حشدت الولايات المتحدة التي كانت رفضت الانضمام إلى البروتوكول، ومعها الاتحاد الأوروبي، قواهما الذاتية ونفوذهما على مجموعة كبيرة من الدول النامية، من أجل إنهاء الإعفاء من الالتزامات بخفض الانبعاثات الذي تمتعت به الدول النامية في بروتوكول كيوتو. وعلى مدار أسبوعين من المفاوضات الشاقة التي تواصلت ليل نهار في ضاحية لابورجيه الباريسية، خصوصا في أسبوعها الثاني حين انتقلت إلى مفاوضات عالية المستوى بمشاركة المستوى السياسي، كانت الدول النامية المؤتلفة في مجموعة 77+ الصين، تعمل من أجل إلغاء وإعادة صياغة وتحسين صياغة مجمل نص المسودتين الأولى والثانية من الاتفاقية. وكان يمكن للمفاوضات أن تنهار في أي لحظة في ضوء نص المسودة الأوّلي الذي قدمته السكرتاريا ورئاسة المؤتمر (سكرتارية اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ ورئاسة المؤتمر ممثلة في لوران فابيوس وزير الخارجية الفرنسي الذي تستضيف بلاده المؤتمر)، والذي اختلف بصورة مفاجئة عن المسودة التي كانت توصلت إليها أطراف التفاوض في الاجتماعات التمهيدية التي جرت في بون في شهر أكتوبر الماضي.
ولكن رئاسة المؤتمر، ممثلة خصوصاً في لوران فابيوس ومساعديه في وزارة الخارجية الفرنسية، كانوا فعلاً على مستوى المسؤولية والتحدي، حيث أظهر فابيوس مقدرة رائعة في استيعاب وتفهم مواقف كافة أطراف التفاوض. ونحن في مجموعة التفاوض العربية تحت مظلة الجامعة العربية، لم نستطع كتمان ارتياحنا لما أبداه فابيوس من تقدير وتفهم لعكس المصالح العربية في الاتفاق الجديد، حيث حرص على الالتقاء بالمجموعة العربية أكثر من مرة من أجل تضمين مطالبها بقدر الإمكان في الاتفاق.
لقد تطلب الأمر إجراء عملية التفاوض على مسارات عدة. فبخلاف المسار الرئيسي المتمثل في مجموعات التفاوض المتخصصة في كل محور رئيسي من محاور نص الاتفاقية، تم فتح مسارات فرعية مصغرة للتفاوض والتوصل إلى توافق بين الأطراف المختلفة ومن ثم إعادة النتيجة إلى مسار التفاوض الرئيسي. وبعد خمسة أيام من بدء عملية التفاوض تم التوصل إلى النسخة التوافقية الأولى من الاتفاق، ليتم فتح مسار تفاوضي جديد بمشاركة المستوى السياسي هذه المرة، أي الوزراء المعنيين. ولم يكن هذا المسار بحد ذاته كافيا لتقريب وجهات النظر بين قطبي التفاوض الرئيسيين الدول المتقدمة والدول النامية، فكان أن فتحت الرئاسة مسارا ثالثا مساعدا هو مسار اللقاءات مع رؤساء مجموعات التفاوض والعمل على تضمين مواقفها بقدر الإمكان في نص مسودة الاتفاقية.
وإضافة إلى ذلك كان هناك مسار تفاوضي مواز غير معلن هو مسار التفاوض خلف الأبواب المغلقة، والذي يعود إليه الفضل في مسابقة الوقت الضيق المتاح أمام المفاوضين للتوصل إلى النسخة الأخيرة التوافقية للاتفاق، رغم أن أطراف التفاوض اضطرت لتمديد وقت انعقاد المؤتمر ليوم واحد.
لذلك حين حان الوقت لعرض المسودة النهائية على المشاركين في الجلسة العامة مساء يوم السبت 12 ديسمبر 2015، كان الجميع مدركاً أن جميع الدول المشاركة في المؤتمر ستعطي موافقتها على الاتفاق، وإن كان حدث بعض التعطيل المفاجئ الذي أحدث بعض البلبلة داخل القاعة بسبب خلاف بين الصين والولايات المتحدة حول مفردة وردت في البند الرابع من المادة الرابعة في الاتفاقية وتتعلق بمدى إلزامية ومسؤولية الدول المتقدمة عن تقديم التمويل اللازم للدول النامية لتمكينها من المشاركة في الجهد الدولي لخفض الانبعاثات. وكما توقعنا سابقاً فلقد ألقت الولايات المتحدة بكل ثقلها في هذا المؤتمر ،حيث حضر وزير خارجيتها جون كيري إلى لابورجيه وشارك شخصياً في المفاوضات، واستخدم لغة حادة أحياناً مقابلة للغة القوية التي استخدمها الوزيران الصيني والهندي في جلسة التفاوض الأخيرة.
وحتى حين وافقت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على تعديل النص ،ليوافق توجهات الصين والهند في التعاطي مع الانبعاثات، وانتقل الجميع إلى الجلسة العامة لإعلان الاتفاق ، كان وزير الخارجية الأمريكي جون كيري يتنقل داخل القاعدة ويتحدث مع رؤساء مجموعات التفاوض للاطمئنان إلى عدم بروز تحفظات في اللحظة الأخيرة قبل إقرار الاتفاق.
الاتفاق أُنجز، ولسوف يغير مسار العلاقات الدولية على المدى المتوسط والبعيد (أقصاه 2030) بصورة كلية، خصوصاً بالنسبة لمنطقتنا العربية لاسيما للدول العربية البترولية.
محمد الصياد
صحيفة الخليج