صيادون في ليبيا يشنّون حربا على سمك المتوسط

صيادون في ليبيا يشنّون حربا على سمك المتوسط

في غياب الرقابة الأمنية على السواحل وعدم التزام بعض الصيادين بأخلاقيات المهنة تنتشر في البحر المتوسط قبالة السواحل الليبية ظاهرة الصيد بالديناميت، والتي تسمى محليا “الجلاطينة”؛ حيث تواجه ليبيا خطر حدوث نقص حاد في الأسماك، بالإضافة إلى المخاطر المحدقة بالبيئة البحرية وحياة البشر وخاصة الصيادين أنفسهم.

طرابلس – يلجأ الصيادون في ليبيا إلى استخدام المتفجرات في عمليات الصيد البحري، ورغم الأضرار البيئية الجسيمة التي تنجم عن العمليات، إلا أنها تشهد زيادة ملحوظة ومستمرة. وعلى الرغم من المحاولات المتكررة للحد من الظاهرة، إلا أنها لا تزال مستمرة دون تحقيق نتائج إيجابية حتى الآن.

ويُطلق على المواد المتفجرة المستخدمة في عمليات الصيد في ليبيا اسم “الجلاطينة” أو الـ”تي أن تي”، وهي مواد لا تترك أي أثر للحياة البحرية في المناطق التي يتم استخدامها فيها، حيث تقوم بتدمير كل ما تصطدم به.

مخاوف متزايدة
عمليات الصيد بالمتفجرات والنفايات الصلبة، فضلًا عن مياه الصرف الصحي التي تُضخ، مُضرة بالبيئة البحرية

يجلس الصياد الخمسيني سالم حيدر مكتوف الأيدي على شاطئ مدينة الخمس الساحلية متأملاً حال البحر بعد أن شهد زملاءه الصيادين يستخدمون أصابع المتفجرات لصيد الأسماك، واضعاً أمامه شباك الصيد التي مزقتها المتفجرات منذ أسابيع ولم تعلق بها سمكة واحدة.

وتمتد السواحل الليبية على مسافة تقدر بحوالي 1770 كيلومتراً على طول البحر الأبيض المتوسط، حيث تحتوي على العديد من المدن والبلدات الساحلية بما في ذلك الخمس ومصراتة وسرت وبنغازي.

وتواجه المياه الليبية اليوم خطراً متزايداً، حيث أفقرت البحار الغنية بسبب صيد الأسماك بشكل مفرط وخاصة بوسائل غير قانونية.

ومازالت القضايا البيئية، ولاسيما البيئة البحرية، بعيدة عن أن تحتل أولوية، بحسب ما تقول عالمة أحياء ليبية فضّلت عدم ذكر اسمها.

وإضافة إلى الأضرار البيئية، يؤدي الصيد بالمتفجرات إلى مقتل وجرح العشرات سنويا، لكن السلطات لا تقدّم أي إحصائيات حول الأمر.

تعلّم سالم الصيد من والده وقضى أكثر من نصف حياته يعيش من خيرات بحر المدينة، ويقول متذكرا تلك الأيام “كانت تلك الأوقات عندما كانت مياه البحر نقية، لم تلوثها شائبة، وكانت أسماكها وفيرة بما يكفي لإطعام الجميع”.

ويتابع “قبل عقد من الزمن، كانت حصيلة الصيد تكفي لإعالتنا، ولكن في السنوات الأخيرة، تراجعت بشكل كبير بسبب الصيد الجائر الذي يحدث في كل موسم. واليوم نجد أعدادا هائلة من الأسماك تطفو هامدة فوق سطح البحر”.

وانتشرت عمليات الصيد الجائر بكثرة بين الصيادين وذلك لعدم وجود رقابة فعالة على المخالفين الذين وصفهم سالم بـ”ضعفاء النفوس”، قائلا “سابقا كانت هناك قوانين ورقابة شديدة تفرض علينا إلى درجة أننا كنا ملزمين باستخدام نوع معين من الشباك وكمية معينة من الأسماك نصطادها في كل موسم تفادياً لنقص أعداد الأسماك والمحافظة عليها، على عكس ما يحصل اليوم تماماً”.

وكل هذه العوامل تجتمع اليوم لتكون عبئا على الصيادين الذي نشأوا وتربوا على ضفاف البحر ولم يعرفوا مهنة غير الصيد، وعيونهم تبدو بائسة تطيل النظر في المياه التي لوثها المخربون.

بدوره يقول الصياد صلاح التائب (48 عاما) إن الصيد بالديناميت انتشر بشكل كبير بين الصيادين في المنطقة إلى درجة أن القريب منها قد يظن أن حرباً بالمدفعية تدور في عرض البحر.

وتقول مريم البالغة من العمر 64 عاما وهي من سكان ساحل طرابلس “ترتجّ النوافذ من هذه الانفجارات، لا أستطيع أن أعتاد على هذه الأصوات، لكن حين يأتي أحفادي لزيارتي عليّ أن أطمئنهم أنها ليست دويّ قصف حلف شمال الأطلسي”.

في تحايل لإخفاء دوي الانفجارات، يعمد الفاعلون إلى إلقاء المتفجرات لحظة عبور الطائرات فوقهم، فيضيع الدوي مع الهدير حتى لا تكشفهم السلطات الأمنية.

والتائب هو من الذين تأثروا كثيراً من الصيد بالديناميت، حتى رأى الموت قبل سنوات حين كان يصطاد في عرض البحر.

يومئذ رمى صيادون رزمة ديناميت على مقربة منه، فغاب عن الوعي، ومكث في المستشفى ثلاثة أشهر، إذ رمى صيادون أصابع ديناميت حيث كان غاطساً بعدما ظنوا من حركته وفقاقيع الهواء المتصاعدة أن ذلك مؤشر على وجود غلة من الأسماك. والتفجير ممارسة خطرة على أصحابها أيضاً، فكم من صياد قتل أو فقد أحد أطرافه نتيجة تفجيره الديناميت.

وتهدد البيئة البحرية مخاطر لا تحصى. وتنضب ثروتها السمكية والنباتية يوماً بعد يوم نتيجة الصيد الجائر، وخاصة بالطرق غير المشروعة التي يصل بعضها إلى حد الجناية.

وعلى الرغم من جهود نقابة الصيادين في تبليغ الأجهزة الأمنية المختصة عن وجود صيادين يستخدمون المتفجرات في عمليات الصيد، يبدو أن هؤلاء يفلتون من العقوبات بشكل مستمر، مما يؤثر سلبًا على محاولات الحد من الظاهرة.

قانون الصيد البري والبحري، المعمول به في ليبيا منذ عام 1989 بشأن تنظيم استغلال الثروة البحرية، ينص على أنه ممنوع بتاتاً استعمال المواد المتفجرة للصيد

ويشعر خليل الشبل عضو نقابة الصيادين بقلق كبير بسبب التأثيرات المدمرة لصيد الأسماك بالديناميت على قاع البحر، خاصة في المناطق الممتدة من ساحل الهلال النفطي إلى مدينة الخمس الساحلية.

ويؤكد أن هذه المناطق شهدت ضرراً كبيرا في موطنها الطبيعي، الذي استمر لملايين السنين. ويشير بشكل خاص إلى فقدان حيوان الإسفنج الذي يلعب دوراً مهماً في تنظيف مياه البحر، وخسارة مساحات كبيرة مغطاة بالأعشاب البحرية.

ويقتل الديناميت جميع أنواع السمك، كبيرها وصغيرها، دون تمييز.

ويكشف الشبل أن التفجير يتم أحياناً على أبعاد تصل إلى 100 أو 150 متراً، حيث تبيض الأسماك، فتموت البذار والأسماك الصغيرة والكبيرة. والذي يؤسف له أكثر أن الصيادين لا يحصلون إلا على نحو 10 في المئة من الأسماك النافقة، فمعظمها يغرق في القاع ولا يطفو إلا القليل، فيحضرون صباحاً من أجل جمعه وبيعه للمواطنين من دون الحديث عن المخاطر الصحية الخطيرة لاستهلاك الأسماك التي تم صيدها باستخدام المتفجرات.

ويقول الشبل “بفضل الديناميت لم يعد في بحرنا سمك. معظم الأنواع اختفت، فمنذ عشرات السنين كنا نشاهد أنواعاً لم نعد نراها اليوم”.

تشير نقابة الصيادين إلى ضرورة تحديث قوانين الصيد في ليبيا التي تم تبنيها منذ الستينات لضمان فعالية العقوبات وردع المخالفين.

ويأتي التحديث نتيجة انتشار السلاح وتواجد الآليات، بما في ذلك سيارات الدفع الرباعي الصحراوية، التي تمكّن الصيادين من الوصول إلى مناطق بعيدة وشاسعة للثروة الطبيعية الموجودة.

وينص قانون الصيد البري والبحري المعمول به في ليبيا منذ عام 1989 بشأن تنظيم استغلال الثروة البحرية على أنه “ممنوع بتاتاً استعمال المواد المتفجرة للصيد في المياه البحرية بواسطة المفرقعات، أو المواد السامة أو المخدرات أو المواد الضارة بالصحة العامة أو بأي وسيلة أخرى تضر بالكائنات البحرية دون تمييز، ويحدد القانون غرامة لا تذكر على المخالف”.

ولأن القانون لم يعد يتلاءم مع متطلبات العصر والواقع الحالي، تقدم الخبير البيئي إبراهيم الربيعي باقتراح قانون لحماية البيئة البحرية، كونه لم يعد مخالفة بل أصبح يعتبر جرماً جنائياً. ويقول الربيعي إن معظم الدول، وخاصة دول حوض البحر المتوسط، سنت قوانين حديثة تعاقب على هذه الجرائم، حتى أن بعضها ضاعف العقوبة، كما في مصر واليونان والأردن، بينما في ليبيا مازالت لا تتجاوز عقوبة الجنحة.

ويشير الخبير البيئي إلى أن ليبيا منذ بداية الصيف الماضي قد خسرت آلاف الأطنان من الثروة السمكية، وإضافة إلى الأضرار البيئية، يؤدي الصيد بالمتفجرات إلى مقتل وجرح العشرات سنويًا، لكن السلطات لا تقدّم أي إحصائيات حول الأمر.

ويضيف أن هناك انخفاضا حادا في عدد من أنواع الأسماك، خاصة سمك الببغاء وسمك الأرنب والأنقليس، التي تعتبر أسماكا مهمة

للنظام البيئي. وحتى الأسماك التي من المفترض أن تكون وفيرة، مثل البوري والسردين، أصبحت نادرة. وتشير الحالة إلى تهديد حرج لهذه الأنواع التي أصبح الكثير منها على حافة الانقراض.

ويضيف في حديث لـ”دويتشه فيله” من العاصمة طرابلس، أن هناك تهديدات عديدة تلوح في الأفق بالنسبة إلى البيئة البحرية، وهي ليست عمليات الصيد بالمتفجرات فحسب، بل أيضا النفايات الصلبة التي تؤثر على الحياة البحرية، فضلًا عن مياه الصرف الصحي التي تضخ مباشرة في عرض البحر في العاصمة الليبية طرابلس حتى أصبحت الشواطئ غير صالحة للسباحة.

الآثار البيئية
واحدة من أبرز آثار المتفجرات على النباتات البحرية هي أن انفجارات “الجلاطينة” ترفع ضغط الماء، مما يؤدي إلى زيادة مفاجئة في درجة حرارته، والتفاعل بين نترات وفوسفات الماء يشكل مادة سامة.

ويمتد الضرر ليشمل قتل العديد من الكائنات غير الأسماك، مما يؤثر بشكل كبير على النظام البيئي البحري. وتستمر التأثيرات في التسبب بتكسير الصخور القاعية واقتلاع النباتات البحرية وتدميرها. وقبل سنوات أصدرت السلطات الدينية فتوى بتحريم استخدام المتفجرات في الصيد لما يسببه ذلك من ضرر على البيئة والإنسان. لكن يبدو أن تلك الفتوى لم تكن ذات أثر يذكر.

ومن المرجح ألا يطرأ أي تغيير على الحالة المتردية والانتهاكات التي تحدث على الشواطئ الليبية في الوقت القريب. ويعود ذلك إلى استمرار النزاعات والحروب التي تجتاح الأراضي الليبية منذ سنوات، مما شغل السلطات عن التركيز على ما يدور في البحر، وإلى حين تبدّل الأحوال، ستستمر “الجلاطينة” في سحق الحياة البحرية بلا رقيب ولا حسيب.

ويقول نورالدين سليمان وهو صيّاد من طرابلس “لا يبدو أن أحدا يستطيع أن يوقف الصيد بالمتفجرات، ينبغي أن تقوم السلطات وقوات خفر السواحل بواجباتها قبل أن يفوت الأوان”.

العرب