لا حاجة إلى استخدام صواريخ ومسيّرات لإخراج القوات الأميركية من العراق، وليس ما تقوم به الفصائل المرتبطة بإيران من قصف للقواعد العراقية التي تضم قوات أميركية سوى عمليات عبثية لا تخفف الضغط الإسرائيلي عن “حماس”، وإن كان عنوانها نصرة غزة.
ويكفي أن تقرر الحكومة العراقية أنها لم تعد تحتاج إلى مهمات استشارية وتدريبية وجوية أميركية لكي تنتهي اللعبة كما انتهت “المهمات القتالية” بعد معركة الموصل، لكن الحكومات العراقية وآخرها حكومة محمد شياع السوداني متمسكة باتفاق “الإطار الاستراتيجي” الذي جرى توقيعه مع أميركا عام 2008 أيام حكومة نوري المالكي.
بل إن حكومة حيدر العبادي استنجدت بواشنطن لمساعدتها عسكرياً في الحرب على “داعش” الذي احتل نصف العراق وثلث سوريا وأقام دولته، وحتى القرار الذي صوّت عليه المجلس النيابي بأكثرية ساحقة طالباً إخراج القوات الأميركية بقي حبراً على ورق، ذلك أن طرد القوات الأميركية من غرب آسيا وضمنه العراق وسوريا، هو جزء من استراتيجية إيرانية ثابتة قبل حرب غزة بأعوام.
ولا يبدل في الأمر تقاطع المصالح بين أميركا وإيران في العراق أكثر من مرة، وبينها الغزو وإسقاط النظام والمشاركة في حرب “داعش”، فالفصائل التي تقصف حالياً القوات الأميركية هي التي شاركت في معارك الموصل والأنبار تحت الغطاء الجوي الأميركي، وهي بالطبع لم تكن لديها ولا لدى القوى الأساس في المكون الشيعي فرصة للبروز والإمساك بالسلطة لولا الغزو الأميركي، وما أكثر الكوارث التي قاد إليها في العراق والمنطقة.
وخلال الغزو الأميركي الذي قرره الرئيس جورج بوش الابن بدفع من المحافظين الجدد، قال الدبلوماسي الرؤيوي جورج كينان الذي كان وراء استراتيجية “الاحتواء” للاتحاد السوفياتي، “إن تاريخ العلاقات الخارجية أظهر أنه على رغم أنك تبدأ حرباً وفي ذهنك أشياء محددة، فستجد نفسك تقاتل من أجل أشياء لم تفكر فيها من قبل”، فما مارسه المحافظون الجدد الذين تحدثوا عن “دمقرطة” الشرق الأوسط و”الفوضى الخلاقة” هو قول المؤرخ الأميركي والتر لاكوير، “قليل من العنف يقود إلى نتيجة عكسية، لكن كثيراً منه قد ينجح”، وما توهموه كان “فانتازيا” من اللامعقول بقول ريتشارد بيرل، وهو واحد من كبارهم، “إن سقوط صدام حسين يحفز الإيرانيين على التخلص من ديكتاتورية الملالي”.
والنتيجة العملية كانت كسر ما سماها صدام “البوابة الشرقية للأمة العربية”، بحيث اندفع طوفان النفوذ الإيراني المسلح إلى العراق وسوريا ولبنان وغزة واليمن، ولم يكن فريد زكريا المفكر الأميركي الوحيد الذي اختصر تجربة الغزو الأميركي بالقول “أعطينا العراقيين حرباً أهلية لا جمهورية، وبناء الأمم صار إفلاس الأمم”.
والمحرج قبل أميركا هو العراق، وحكومة السوداني مثل سابقاتها ملتزمة بحماية البعثات الدبلوماسية ورافضة لقصف القوات الأميركية، غير أنها عاجزة عن التأثير في الفصائل المرتبطة بإيران ضمن “الحشد الشعبي” الذي هو نظرياً خاضع للقائد الأعلى للقوات المسلحة، أي رئيس الوزراء، وعاجزة عن منعها من القصف، ومضطرة إلى توصيف الرد الأميركي على مراكز الفصائل بأنه “اعتداء على السيادة العراقية”.
وأميركا التي اكتفت في البداية بالرد على مواقع إيرانية في سوريا وجهت في النهاية ضربات إلى الفصائل داخل العراق، لكن الضربات المحدودة التي سمح بها البيت الأبيض لم تردع الفصائل، بحيث ضغطت الـ “بنتاغون” لتوجيه ضربات أقوى على طريقة والتر لاكوير، وحتى طهران بدت محرجة ومضطرة إلى تفاهم من تحت الطاولة مع واشنطن.
والمفارقة أن القوى المرتبطة بإيران ترفع شعار العمل العسكري لإخراج أميركا من العراق، والقوى المتحالفة مع أميركا ترفع شعار العمل السياسي لإخراج النفوذ الإيراني من العراق، وهذه نظرة أحادية وجزئية إلى الوطنية العراقية، أما النظرة الكاملة والصحيحة إلى الوطنية فإنها الشعار الذي رفعه الشباب الثائر في بغداد ومحافظات الجنوب خلال ثورة أكتوبر (تشرين الأول) 2019 “لا للاحتلالين الأميركي والإيراني”.