في واحدة من كبرى عمليات الاختلاس في السنوات الخمس الماضية نهبت أكثر من 3 مليارات دولار من أموال الإيرانيين. وهناك تكهنات تتحدث بأن مجموعة من المسؤولين والمؤسسات الحكومية متورطون في عمليات النهب التاريخي في إيران. ومع هذا تدعي حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي أنها هي من كشفت الفساد المالي المتعلق بـ”فضيحة الشاي” والتي عرفت بـ”شاي دبش”، وتعاملت مع القضية بحزم، كذلك وظفت هذه القضية المالية للنيل من الحكومة السابقة برئاسة حسن روحاني.
في واقع الأمر، أن معظم الإيرانيين الذين هم على اطلاع على بنية الحكم الفاسدة، والذين كانوا قد هتفوا في شوارع البلاد في الاحتجاجات الأخيرة، مخاطبين أحزاب النظام بالقول “الإصلاحيون… الأصوليون، قد انتهى الأمر”، يرون أن الحكومات المتعاقبة في إيران لا يختلف بعضها عن بعض، وأن هذا الاختلاس التاريخي الذي بدأ في عهد الحكومة السابقة (حسن روحاني) واستمر في عهد الحكومة الحالية (إبراهيم رئيسي) هو استمرار طبيعي لبنية النظام الفاسدة.
ويقول مسؤولون في حكومة رئيسي إنه تم تعليق عمل مجموعة “دبش للزراعة والصناعة”، وإن الرئيس التنفيذي لهذه المجموعة الآن في السجن، وتتولى النيابة العامة المتخصصة بالجرائم الاقتصادية والمحاكم العامة والثورية قضية الاختلاس الواسع النطاق في ما عرف بـ”شاي دبش”.
ووجه رئيس مكتب التفتيش التابع لرئيس الجمهورية حسن درويشيان، في الرابع من ديسمبر (كانون الأول) الجاري، أصابع الاتهام إلى حكومة حسن روحاني. واعتبر كشف قضية الفساد المالي الواسع النطاق المتعلق بقضية “شاي دبش” إنجازاً لحكومة رئيسي، مضيفاً أن “حكومة رئيسي ومن خلال دخولها في الوقت المناسب في هذه القضية منعت هذا الانتهاك المالي”.
وتحدث درويشيان قائلاً إن مكتب التفتيش الرئاسي ووزارة الاستخبارات وأمانة هيئة مكافحة الفساد الاقتصادي وهيئة التفتيش الوطنية عملت على كشف حيثيات الفساد المالي في قضية “شاي دبش”، لكنه لم يقل شيئاً عن المؤسسات الحكومية الأخرى ومنها وزارة الزراعة والبنك المركزي والجمارك التي كانت متورطة في هذا الاختلاس الضخم.
أرقام قياسية لعمليات الاختلاس
وإذا ما عملنا نظرة سريعة على أرقام عمليات الاختلاس الواسعة النطاق في إيران يتبين لنا أن المسار التاريخي لهذه الاختلاسات شهد عملية تصاعدية، وهذا يعني أن مجمل حالات الفساد الاقتصادي الجديدة تكون أكبر وأوسع بكثير من سابقاتها. ولهذا السبب وعلى رغم كثرة الاختلاسات في إيران، فإنه في كل مرة عندما يتم الكشف عن عملية اختلاس جديدة يصاب الشارع الإيراني بصدمة تمتد أياماً عدة، تماماً كما هو الآن، إذ أصبحت فضيحة “شاي دبش” حديث المواطنين في الشارع الإيراني ويتساءلون ماذا يمكن فعله بهذه الأموال إذا لم يتم نهبها؟
وباختصار، حصلت مجموعة “دبش للزراعة والصناعة” على 3 مليارات و370 مليون دولار من عام 2019 إلى 2022 لاستيراد الشاي والآلات الزراعية، إلا أنها باعت نحو ملياري دولار من المبلغ في الأسواق الحرة. وتعقيباً على هذه الفضيحة المالية قال رئيس هيئة التفتيش العامة ذبيح خداييان إن هذه الشركة استوردت الشاي الكيني منخفض الجودة بسعر دولارين للكيلوغرام الواحد، فيما كانت قد سجلت طلبية شراء الشاي الهندي عالي الجودة بقيمة 14 دولاراً للكيلوغرام الواحد.
كما أن الأمر اللافت في تقرير رئيس هيئة التفتيش العامة أنه يكشف عن أن ما يقارب من 80 في المئة من واردات إيران من الشاي تحتكرها مجموعة “دبش للزراعة والصناعة”. ومن ناحية أخرى، عندما استوردت هذه المجموعة الشاي الكيني المنخفض الجودة، وافقت عليه منظمة الغذاء والدواء التابعة لوزارة الصحة بوضع خاتم الموافقة، وأصدرت الجمارك أيضاً إذناً بتخليصه ووضعه في “المسار الأخضر” ودخوله البلاد، في حين أن تخليص هذه السلعة كان يتطلب استعلاماً عن الجودة من الجهات المعنية. ووفقاً للوائح الجمارك كان ينبغي أن يكون قد دخل إلى إيران عبر المسار الأصفر أو الأحمر.
وفي جزئية استيراد الآلات الزراعية، وجد دور مهم لوزارتي الزراعة والصناعة والتعدين والتجارة “صمت” والبنك المركزي في تمكين مجموعة “دبش”، وتبين أن هذه المجموعة سجلت طلبات استيراد أكثر من حاجات البلاد، واللافت في القضية أن البنك المركزي وافق على الفور بتخصيص المبالغ المالية من العملة الصعبة وبموافقة وزارتي الصناعة والتعدين والتجارة “صمت” والزراعة، بينما، ووفقاً لما قاله رئيس هيئة التفتيش العامة في إيران، فإنه بالنسبة إلى الشركات المتقدمة الأخرى، يجب أن تستوفي الشروط اللازمة مثل وجود سجل استيراد سابق لحصولها على الموافقة وتخصيص العملة الصعبة.
وقد زعم المسؤولون الحكوميون ووسائل الإعلام التابعة للحكومة الحالية، أن هذا الفساد المالي نتيجة لأداء الحكومة السابقة (حكومة حسن روحاني)، لكن تقرير صحيفة “اعتماد” وهيئة التفتيش العامة يظهر بوضوح أن ما لا يقل عن 80 في المئة من حيثيات هذه المنحة التي قدمت لـ”شاي دبش” حصلت في الأعوام الثلاثة الماضية.
لا حدود للفساد والتواطؤ بين المسؤولين
وأخذ الفساد المالي الوسيع في قضية “شاي دبش” صدى واسعاً بين الناس والناشطين الاقتصاديين ومستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي وتفاعل معه كثر. وكانت الجزئية المشتركة بين ردود الفعل هي التركيز على “الفساد المالي المنظم وتورط كبار المسؤولين” في عمليات الاختلاس الضخم هذا.
وفي هذا السياق، فقد شكك المدير التنفيذي لنقابة مصنعي الشاي في شمال إيران محمد صادق حسيني، في حوار مع وكالة “إيلنا”، في ادعاء المسؤولين الحكوميين بأنهم لا يعلمون شيئاً عن حيثيات هذه القضية، قائلاً إنه بصفتي مسؤولاً عن نقابة مصنعي الشاي في شمال البلاد أدركت أن هناك مشكلة، فكيف لكيان مثل وزارة الزراعة لم يستطع معرفة حيثيات هذه المشكلة؟
كما قال العضو السابق في غرفة التجارة الإيرانية بدرام سلطاني إن “من المستحيل أن يتم تخصيص مثل هذا المبلغ الضخم من دون تعاون وتنسيق واسع النطاق وكذلك تصاريح خاصة وموافقة من مسؤولين رفيعي المستوى، كما أنه من غير الممكن بيع ملياري دولار من هذا المبلغ في السوق السوداء من دون أن تكون هناك شبكة واسعة”. وأضاف هذا الناشط الاقتصادي “لم تتغير حدود الفساد المالي وحسب، بل حدود التواطؤ أيضاً تغيرت في إيران”.
مجموعة “دبش” للزراعة والصناعة هي شركة خاصة وعائلية، وأكبر وعرفان رحيمي درآبادي ومجغان عيدي هم أعضاء مجلس إدارة المجموعة وأصحابها. أكبر رحيمي درآبادي رئيسها التنفيذي الذي يقبع في السجن حالياً، وفي شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وفي مقابلة له مع وكالة “تسنيم” للأنباء، نفى تهمة استيراد شاي منخفض الجودة من كينيا واحتج على مصادرة وضبط 30 ألف طن من الشاي الذي استوردته مجموعة “شاي دبش”.
اختلاس مجموعة “شاي دبش” يعادل 3 مليارات و370 مليون دولار أي 140 ألف مليار تومان إيراني. إنه رقم غير مسبوق في قضايا الفساد المالي في إيران، ووفقاً للجهات الرسمية فإنه يفوق جميع الاختلاسات الماضية.
بنية الحكم الفاسدة
وبعد الكشف عن الفساد المالي الضخم في مجموعة “شاي دبش” أصبح حديث العامة، وانخرط عديد من الناشطين والإعلاميين وقارنوا رقم الاختلاس هذا ببعض الميزانيات الضرورية وثروات أثرياء العالم. ولفهم حجم هذا الاختلاس نستشهد ببعض المناقشات التي أجريت:
إنه يزيد على ثلاثة في المئة من موازنة إيران، نحو 43 في المئة من إجمالي موازنة منظمة حماية البيئة، ونحو 80 في المئة من موازنة وزارة التربية والتعليم، ونحو 90 في المئة من موازنة وزارة الصحة لعام 2020. وتزيد هذه الأموال التي تم اختلاسها على إجمالي ثروة دونالد ترمب الرئيس السابق للولايات المتحدة، وتعادل نصف الأموال الإيرانية المجمدة في كوريا الجنوبية، ويمكن شراء ما لا يقل عن 10 طائرات إيرباص، و5 آلاف قاطرة للشحن، و150 سفينة بحرية، و120 قطاراً، و4 آلاف حافلة كهربائية.
ردود الأفعال لبعض مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي على حجم الفساد المالي في قضية “شاي دبش” تستحق التأمل، إذ إنهم أشاروا بوضوح إلى بنية النظام الفاسدة. وهذا الاختلاس يعود في المقام الأول لهيكلية النظام السياسي التي تسمح للأشخاص والشركات بالفساد والاختلاس والنهب باستمرار.
المسؤولون هم من يدعم الفساد المالي
واتهم وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، في يونيو (حزيران) 2019، المرشد علي خامنئي والمرجع الديني ناصر مكارم شيرازي ورئيس السلطة القضائية صادق لاريجاني ومحمد إمامي كاشاني إمام جمعة “طهران” وصادق محصولي وزير الداخلية الإيراني بـ”الفساد المالي الهائل”.
وفي العقود الأخيرة ترددت أيضاً أسماء مثل أكبر هاشمي رفسنجاني وعباس واعظ طبسي ومحمد يزدي وأبو القاسم خزعلي وعلي فلاحيان وعبدالحسن معزي ومحسن رفيق دوست وحبيب الله عسكر أولادي ويحيى رحيم صفوي وروح الله حسينيان ومحيي الدين حائري شيرازي على أنهم متورطون في الفساد المالي في البلاد.
ويدرك الرأي العام الإيراني جيداً أن كواليس الفساد المالي المستشري في البلاد، وبسبب تورط بعض المسؤولين الحكوميين وأقربائهم، لن يتم الكشف عنه أبداً، في حين أن حجم هذه الاختلاسات والأدلة المتوفرة يظهران جلياً أن مثل هذه الحالات لا تتم من دون تنسيق مسبق مع المؤسسات العليا في البلاد. ويكفي أن نشير إلى اختلاس 123 مليار تومان المتعلق ببنك “صادرات” وقضية الفساد المالي لشهرام جزائري المقرب لبيت المرشد واختلاس محمود خاوري الذي بلغ 3 آلاف مليار تومان وقضية بابك زنجاني واختلاس صندوق المعلمين الذي بلغ 8 آلاف مليار تومان، وغيرها من القضايا المالية والاختلاسات الضخمة التي لم يعرف حيثياتها المواطن الإيراني حتى هذه اللحظة.