لا تبدو الأجواء السياسية في العراق في طريقها إلى الهدوء، بعد تصعيد الهجمات التي تشن على المصالح الأميركية في البلاد، والتي وصلت إلى حدود غير مسبوقة منذ وصول محمد شياع السوداني إلى منصب رئيس الوزراء في أكتوبر (تشرين الأول) 2020.
ويمثل القصف الأخير لسفارة واشنطن لدى بغداد تطوراً نوعياً في سياق الهجمات على المصالح الأميركية في البلاد، خصوصاً أنه الأول من نوعه منذ تسلم “الإطار التنسيقي للقوى الشيعية” مقاليد السلطة.
ويعيد ما جرى من قصف لسفارة الولايات المتحدة الأجواء مرة أخرى إلى ما كان يحدث خلال الأعوام الثلاثة التي سبقت حصول “الإطار التنسيقي” على رئاسة الوزراء، عندما كانت “جماعات الظل” تشن هجمات متكررة على السفارة والمصالح الأميركية في البلاد.
ويأتي الهجوم على السفارة الأميركية في بغداد على بعد أيام من موعد الانتخابات المحلية المزمع إجراؤها في الـ18 من ديسمبر (كانون الأول) الجاري.
ضرب الاستقرار
وتثير الأجواء الأمنية الأخيرة عديداً من التساؤلات حول إمكانية إقامة الانتخابات في ظل أجواء سياسية وأمنية مرتبكة ومشحونة، ففيما تستمر الجماعات المسلحة بقصف المصالح الأميركية يزيد رفض التيار الصدري الانتخابات من حدة الاحتقان على الساحة العراقية.
وفي تطور هو الأول من نوعه وصف رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني استهداف السفارة الأميركية بـ”العمل الإرهابي”، مشيراً إلى أن “مرتكبي تلك الاعتداءات يقترفون إساءة للعراق واستقراره وأمنه”.
ولم يتوقف توصيف الهجمات الأخيرة بـ”الإرهاب” عند حدود السوداني، إذ شدد بيان “الإطار التنسيقي” على “رفض الاعتداءات الإرهابية التي تستهدف أمن البلاد وسيادته، أياً كان نوعها والمستهدف فيها والحجة من وراء ذلك”، وهي المرة الأولى التي تصف فيها أطراف مسلحة داخل الإطار الهجمات التي تشن على السفارة الأميركية بـ”الإرهاب”.
ويرى مراقبون أن ما يجري من هجمات متبادلة بين واشنطن والميليشيات الموالية لإيران لم يكسر حتى الآن “قواعد الاشتباك السابقة” خصوصاً مع عدم وقوع أي ضحايا أميركيين.
انتخابات ساخنة
في السياق، يعتقد رئيس مركز “التفكير السياسي” إحسان الشمري أن العمليات المتبادلة بين الجماعات المسلحة والقوات الأميركية “سيكون لها أثر كبير في الانتخابات المحلية خصوصاً في حال تطور عمليات الاستهداف ونوعية الأهداف التي ستزيد من تداعي الملف الأمني في البلاد”.
وأضاف الشمري أن آلية الرد الأميركي على استهداف سفارتهم هي التي ستحدد “ما إذا كانت البلاد ستدخل في حال من الفوضى كما حدث بعد عام 2020″، مبيناً أن هذا السيناريو لا يزال مبكراً مع “محاولات حكومة بغداد ضبط مسار التصعيد الحاصل”.
وإضافة إلى تعقيد المشهد بين الفصائل المسلحة وواشنطن، تمثل احتمالات تصعيد التيار الصدري مؤثراً مباشراً على الانتخابات المحلية، إذ يقول الشمري إن “اتهام الصدر بالهجوم على السفارة الأميركية من قبل منصات مقربة من الإطار قد يحفز أنصاره على التحرك، مع حديث زعيم التيار الصدري عن أن صمته لن يدوم”.
وأشار رئيس مركز “التفكير السياسي” إلى أن التداعيات الأخيرة على الساحة العراقية ستكون انعكاساتها واضحة على نسب المشاركة في الانتخابات، لافتاً إلى أن “القلق الأمني يعزز القناعة لدى الناخبين غير المتحزبين بأن الأجواء الأمنية غير مناسبة”.
وأكد الشمري أن ما حصل من استهدافات متبادلة منها السفارة الأميركية أسهمت في “ظهور الانقسامات داخل الإطار التنسيقي بشكل واضح”، خصوصاً بعد حديث قادة فصائل رئيسة “بأن عملياتهم لن تتوقف وهو ما سينعكس بشكل مباشر على رئيس الوزراء ومستقبله السياسي وعلى المشهد السياسي بشكل عام”.
تكرار سيناريو 2020
على رغم التصعيد الواسع الذي تقوم به ميليشيات موالية لإيران، فلا تبدو إعادة سيناريو عامي 2019 و2020 في حساباتها، والتي انتهت بمقتل قائد “فيلق القدس” الإيراني قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، خصوصاً مع عدم تسبب الهجمات التي تشنها في سقوط قتلى أميركيين.
ويرى رئيس المركز “العراقي – الأسترالي” أحمد الياسري أن تأزم الأوضاع الداخلية العراقية سيكون مرهوناً بـ”مدى إمكانية أن تقدم الميليشيات الموالية لإيران على توسيع هجماتها لإسقاط قتلى أميركيين”.
وأضاف الياسري أن قادة الفصائل المسلحة وصانعي القرار في طهران “لن يجازفوا في تكرار سيناريو سليماني والمهندس مرة أخرى”، مبيناً أن ما يجري من هجمات غايته “الحفاظ على السردية السياسية التي تعمل بها تلك الجماعات للاحتفاظ بشعار المقاومة”.
ويبدو أن عوامل عدة هي التي أسهمت في دفع طهران إلى تحفيز جماعاتها المسلحة للعودة إلى “سيناريو قصف المصالح الأميركية في البلاد”، كما يعبر الياسري الذي يلفت إلى أن ما يجري يرتبط بـ”محاولات ابتزاز واشنطن والحصول على مكاسب إضافية”.
نفوذ إيراني
ومثل إيقاف الإدارة الأميركية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي حصول طهران على 6 مليارات دولار جرى تحويلها إلى بنك قطري، دافعاً لطهران في إعادة سيناريوهات الضغط على الإدارة الأميركية التي لا ترغب حالياً في توسيع مساحة الصراع في الشرق الأوسط.
وأشار الياسري إلى أن واشنطن باتت تدرك بشكل جيد أن “ضوابط الجماعات المسلحة مرهونة بالقرار الإيراني، ولذلك تحاول طهران الضغط على الولايات المتحدة للحصول على مكاسب إضافية”، مردفاً أن ما يجري في العراق هو “جزء من الضغوط الإيرانية على إدارة بايدن لإعادة قواعد الاشتباك إلى مساحة الضبط التي سبقت أحداث غزة”.
وتابع رئيس المركز “العراقي – الأسترالي” أن الرسالة الإيرانية من خلال استمرار استهداف الميليشيات الموالية لها المصالح الأميركية في العراق تتلخص بكونها “لا تعتبر وصول السوداني والإطار التنسيقي إلى السلطة منجزاً يجب التوقف عنده، بل تحاول رفع سقف نفوذها في البلاد إلى ما هو أبعد من ذلك”.
وفي شأن إمكانية إجراء الانتخابات المحلية المقبلة، أوضح الياسري أنها “لن تتأثر بالأجواء الحالية مع الرغبة الكبيرة لدى قوى الإطار التنسيقي بالاستحواذ على كل مفاصل الدولة في المرحلة الحالية”، معبراً عن اعتقاده أن تصعيد التيار الصدري “لن يتعدى حدوده الحالية، إلا إذا تطورت الإشكالات بشكل أكبر خلال الأيام القليلة المقبلة”.
انشقاقات الحلفاء
على رغم الاتهامات للميليشيات الموالية لإيران بقصف السفارة الأميركية، لم تتبن أي من الجماعات الموالية لإيران قصف السفارة الأميركية لدى بغداد على رغم الاتهامات الموجهة لميليشياتها، إلا أن اللافت هو الهجوم الذي شنته منصات عدة تابعة لها على رئيس الوزراء بعد بيان الاستنكار الذي أصدره مكتبه.
في السياق، قال زعيم ميليشيات “كتائب سيد الشهداء” أبو آلاء الولائي، وهي إحدى الجماعات المسلحة الموالية لإيران التي تشن هجمات على القواعد الأميركية منذ أكتوبر الماضي “نحترم كل الوساطات العراقية، ونرفض الحديث حول إيقاف العمليات أو تخفيفها ما دامت الجرائم الصهيونية مستمرة في غزة والاحتلال الأميركي قائماً في العراق”.
وأضاف الولائي في تدوينة على موقع “إكس” القول “نتفهم الدوافع ونؤمن بتعدد الأدوار وتباين المساحات، ولكن ثقوا بنصر الله فالاحتلال إلى زوال، أما المقاومة فهي ثقافة شعوب والشعوب لا تموت”.
وفي خضم الإشكالات بين منصات مقربة من الميليشيات الموالية لإيران ورئيس الوزراء، أعلن “الإطار التنسيقي” دعمه السوداني في حين وصف الهجوم الأخير بـ”الحادثة المشبوهة”، وهو ما يراه مراقبون دليلاً واضحاً على الانشقاقات الواسعة في أروقة حلفاء إيران.
في المقابل يستبعد متخصص العلوم السياسية، عصام الفيلي أن يؤثر ما يجري في ملف الانتخابات المحلية، لافتاً إلى أن الأثر الأكبر سيكون على مستقبل حكومة السوداني.
وأضاف الفيلي أن استهداف السفارة الأميركية الأخير يمثل “أول اختبار للسوداني سواء من قبل الولايات المتحدة أو الجماعات المسلحة في العراق لمعرفة ردود فعله على استمرار تلك العمليات”.
وأشار متخصص العلوم السياسية إلى أن تعاطي السوداني ومن خلفه قوى “الإطار التنسيقي” مع قصف السفارة كان بمثابة رسالة إلى القوى الخارجية بأن تلك الأطراف “ماضية بمحاولة بناء علاقات استراتيجية مع واشنطن”، خصوصاً أن كلا الطرفين وصف الهجمات الأخيرة بـ”الإرهاب” للمرة الأولى.