لقد فاق الرئيس الأمريكي جو بايدن كافة التوقعات المتعلقة بسوء إدارته للسياسة الخارجية الأمريكية. والحقيقة أن التوقعات كانت سيئة جداً بالأصل، نظراً لسجله السياسي الطويل للغاية (دخل مجلس الشيوخ الأمريكي قبل خمسين عاماً!) والحافل بالمواقف الداعمة للحروب العديدة التي خاضتها الولايات المتحدة طيلة هذه العقود، وصولاً إلى احتلال العراق الذي دعمه بايدن بحماسة. أما سجله فيما يتعلق بدعم إسرائيل، طفل أمريكا المدلل، فلا يفوّت الرجل فرصة للافتخار به، كما يعتزّ بصداقته القديمة مع رئيس وزرائها، زعيم اليمين الصهيوني، المجرم بنيامين نتنياهو.
والحقيقة أن الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، كان قد طلب من بايدن، منافسه السابق، أن ينضم إلى حملته الانتخابية بصفة نائب له بغية طمأنة جناح الصقور في الحزب الديمقراطي. ذلك أن أوباما كان محسوباً على حمائم الحزب، لاسيما إثر تميزه بمعارضة احتلال العراق. ومن المعلوم أن أوباما كان أقل حماساً في تأييد إسرائيل من سائر زعماء حزبه، وكان على الأخص ممتعضاً من نتنياهو، صديق العنصريين البيض الحميم. ومن سوء حظه أن نتنياهو تولى إدارة دفة الدولة الصهيونية في السنة 2009 ذاتها التي دشّن فيها أوباما رئاسته، وبقي الرجل رئيساً للوزراء طيلة ولايتي أوباما الرئاسيتين. فبالرغم من مواصلة هذا الأخير مدّ إسرائيل بشتى المعونات بحكم الجبن السياسي الذي ميز مواقفه بوجه عام والذي أدّى به إلى مسايرة يمين حزبه، خاض نتنياهو ضده حرباً سياسية مكشوفة بالتحالف مع حزب الجمهوريين الذي واصل انزلاقه إلى أقصى اليمين إلى أن أوصل دونالد ترامب إلى الرئاسة.
موقف بايدن وإدارته يندرج في خانتي الغباء المفرط والجريمة النكراء على حد سواء، وهو ما حدا بعض أصحاب الضمير من العاملين في الإدارة على الاستقالة
وعندما استعاد الحزب الديمقراطي الرئاسة بفوز بايدن على ترامب، جارى الرئيس الجديد سلفه الجمهوري اليميني المتطرف في السياسة الخارجية، عوضاً عن العودة إلى السياسة التي سرَت خلال ولايتي أوباما اللتين شارك هو فيهما. وقد تجلى هذا الأمر بأجلى صوره في مجالين، هما السياسة إزاء الصين وإزاء الدولة الصهيونية. فقد واصل بايدن سياسة العداء الاستفزازية إزاء الصين التي دشّنها سلفه الجمهوري بما انعكس ضرراً على العالم في أكثر من شأن، لاسيما في الحؤول دون تسوية سلمية للغزو الروسي لأوكرانيا التي دعت بيكين إليها منذ البدء ولا تزال. أما فيما يخص إسرائيل، فلم يفكك بايدن أيا من الإجراءات التي قام بها ترامب تدليلاً لصديقهما المشترك نتنياهو، ومنها نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، بل كان الشغل الشاغل لإدارته إزاء القضية الفلسطينية، شأنها في ذلك شأن الإدارة التي سبقتها، توسيع رقعة «التطبيع» العربي مع الدولة الصهيونية بدل الضغط على إسرائيل لتجميد المستوطنات ومراعاة سلطة رام الله بناء على التصور القائل إن «التطبيع» لا بد من أن يمرّ بتسوية مقبولة مع هذه الأخيرة.
لذا لم يكن مستغرباً أن يهبّ بايدن إلى التضامن غير المشروط مع صديقه نتنياهو إثر عملية «طوفان الأقصى» بحيث لاقت مواقفه ترحيباً أكبر في صفوف الجمهوريين مما في صفوف الديمقراطيين، في الكونغرس كما بين الناخبين والناخبات كما تؤكده كافة الاستطلاعات. وقد نشرت صحيفة «فايننشال تايمز» في الفاتح من الشهر الجاري تقريراً لكبير معلقيها على السياسة الأمريكية، إدوارد لوس، يروي فيه التوتر القائم بين الرئيسين الديمقراطيين السابق والحالي إزاء الموقف من إسرائيل، إذ ينقل عن أنصار أوباما الذين عملوا في إدارته تأكيدهم أنه لو كان زعيمهم لا يزال في سدة الرئاسة، لَفرض على إسرائيل شروطاً لتسليمها المساعدة العسكرية الأمريكية ولَدعم المعارضة لنتنياهو بدل معانقة هذا الأخير كما فعل بايدن والإدارة الحالية.
هذا وقد ظنّ بايدن أنه يستطيع توظيف مغالاته في دعم إسرائيل غير المشروط، الذي أرضى الجمهوريين، في جرّ هؤلاء إلى منحه الضوء الأخضر للمساعدة العسكرية لأوكرانيا التي هم أقل حماساً لها بكثير، بل يعارضها جناحهم اليميني الأقصى. فقد ربط بايدن مليارات الدولارات الأربعة عشر التي قرر تقديمها لدعم المجهود الحربي الصهيوني بالمساعدة العسكرية لأوكرانيا في حزمة شاملة فاقت مئة مليار دولار. وقد تعثر الأمر حتى الآن، إذ ارتدت خطة بايدن ضده حيث انتهز الجمهوريون للفرصة كي يفرضوا شروطاً خاصة بهم، لاسيما في مجال سياسة الحد من الهجرة.
أما غباء بايدن الأكبر، فهو ظنّه أنه بدعمه الكامل لإسرائيل سوف يتمكن من التأثير على حكومتها أكثر مما لو اتبع سياسة كالتي مارسها أوباما. والحال أنه وجد نفسه أعجز من أن يستطيع فرض أي شيء على «صديقه» نتنياهو، لاسيما أن الأخير يستقوي بالجمهوريين الذين لهم الغلبة في الكونغرس، بل ويراهن على فوز ترامب المجدد بالرئاسة في انتخابات العام القادم. فقد تبيّن منذ بداية العدوان الإسرائيلي الراهن أن ثمة خلافا بين الإدارة الأمريكية وحكومة نتنياهو بشأن مصير قطاع غزة إثر الانتهاء من «تصفية حماس» وهي الغاية التي دعمتها واشنطن بلا شروط، ذلك أن الحكومة الصهيونية تريد احتلال القطاع احتلالاً مستديماً بينما تريد واشنطن أن تنسحب القوات الإسرائيلية منه وتسلمه لسلطة رام الله. بيد أن إدارة بايدن أعجز من أن تستطيع فرض مشيئتها على حليفها المدلّل ولا حتى تستطيع وقف دعمه خشية من هجوم الجمهوريين عليها.
هكذا فإن «معانقة الدبّ» كما تُسمى في أمريكا سياسة الدعم من أجل التأثير والتسيير، فشلت في مرماها المعلَن، ولم يبق منها سوى «المعانقة» بمعنى الدعم الكامل الذي بلغ للمرة الأولى مستوى المشاركة الأمريكية المباشرة في حرب تخوضها إسرائيل على المدنيين، بل وحرب إبادة، مع مدّ الدولة الصهيونية بلا شروط بما تبغيه من مخزون الأسلحة الأمريكي، بما في ذلك تسليمها قنابل الألفي باوند (900 كلغ) التي تتحاشى القوات الأمريكية نفسها استخدامها في المناطق المبنية نظراً لما يترتب بالضرورة على استخدامها في مثل هذه الظروف من حصيلة عالية جداً بأرواح المدنيين. وهكذا يتبيّن أن الإجابة عن السؤال الوارد في عنوان هذا المقال هي: الاثنان معاً، أي أن موقف بايدن وإدارته يندرج في خانتي الغباء المفرط والجريمة النكراء على حد سواء، وهو ما حدا بعض أصحاب الضمير من العاملين في الإدارة على الاستقالة.