في آخر صيحةٍ أطلقها، نعى الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، إلى العالم مجلس الأمن، بعدما قوّضت سلطته الولايات المتحدة، وأضعفت مصداقيّته، ووقفت عائقا أمام أدائه لدوره الموكل إليه بموجب ميثاق المنظمّة الدولية في حفظ الأمن والسلام في العالم، وقد دأبت الإدارات الأميركية المتعاقبة على استخدام حقّ النقض لحماية الكيان الصهيوني من أي عقوبات دولية، وجديد ذلك أخيرا استخدامها الحقّ المذكور في مواجهة مشروع قرار يدعو إلى وقف حرب الإبادة الوحشية التي يشنّها الكيان المذكور على غزّة، وهي المرّة الخامسة التي يفشل فيها المجلس في اتخاذ أي إجراءات عمليّة لوقف الحرب.
وكان غوتيريس بتفعيله المادّة 99 من ميثاق الأمم المتحدة قد أراد أن يدفع مجلس الأمن إلى إعلان وقف إطلاق النار بوصفه أمرا ملحّا، محذّرا من خطر انهيار النظام الإنساني في غزّة، واحتمال حدوث كارثة، لكن أميركا المشاركة في المجزرة على النحو المعروف أسقطت مشروع القرار بالضربة القاضية.
وإذا كان هذا الحال مع مجلس الأمن، فلن تكون هناك جدوى من قرارٍ قد تصوّت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة، يطالب بوقفٍ فوريٍّ لإطلاق النار، مع أنها سبق أن تبنّت قرارا يدعو الى هدنة إنسانيةٍ دائمةٍ ومستدامة، تفضي إلى وقف الأعمال العدائية. وبالطبع، لم تتم الاستجابة لدعوة كهذه، رغم استمرار المذابح ليل نهار، ما دامت أميركا والغرب في صفّ إسرائيل، وما دامت الأخيرة مصرّة على السير بمسلكها العدواني الشرير في مواجهة الفلسطينيين.
المسألة الأهم من هذا كله أن “الموت الافتراضي” لمجلس الأمن على النحو الذي شهدناه في الأيام الماضية يكشف لنا بوضوح أن خيار الاعتماد على “المجتمع الدولي” في ردع إسرائيل والضغط عليها لوقف حربها العدوانية، أو على الأقلّ إجبارها على القبول بهدنة طويلة الأمد تتيح تبادل الأسرى، ودخول المساعدات الإنسانية، وتكون بمثابة فرصة “التقاط أنفاس” لأهالي غزّة الصامدين لم يعد سالكا، كما لم تعد هناك جدوى من جولة “مجموعة الاتصال” التي انتدبها مؤتمر القمّة العربية الإسلامية، لشرح ما تريدُه دول القمّة من المجتمع الدولي بعدما طافت العواصم ولم تحقّق شيئا ذا قيمة عملية.
قواعد اللعبة الدائرة في المنطقة قد تغيّرت، وأصبحت أكثر تعقيدا من ذي قبل، وشرعت في الظهور قواعد اشتباك جديدة، غير التي اعتدناها من قبل
لا بد بعد هذا أمام العرب من مواجهة قبضة حقائق، نعتقد أنها سوف ترسم واقع ما بعد غزّة: الحقيقة الأولى، أن التطورات الجديدة التي شهدتها المنطقة، ولا تزال في حالة سيولة، أفضت إلى وضع بالغ التعقيد، وشديد الوضوح لكل ذي عينيْن، ولم تعد في المشاهد الماثلة مساحة ضبابية كي يتكئ عليها العرب في تبرير قبولهم بالإذلال والإهانة، وتجاهل القوى الفاعلة في النظام العالمي لمواقفهم من الحرب الدائرة على جزءٍ من شعبهم وعلى أرضهم.
الثانية أن قواعد اللعبة الدائرة في المنطقة قد تغيّرت، وأصبحت أكثر تعقيدا من ذي قبل، وشرعت في الظهور قواعد اشتباكٍ جديدة، غير التي اعتدناها من قبل، سواء بين إسرائيل والفلسطينيين، أو بين إسرائيل والعرب، وكذلك بين إيران والعرب. الثالثة، إذا لم يتحرّك العرب على نحو جدّي، وبسرعة، سيفلت كل شيء من بين أيديهم. وعندها، لن يعودوا قادرين على الفعل، حتى لو أرادوا ذلك. وسوف تبدأ مرحلة جديدة من التيه العربي الذي يخدم المخطّط الصهيوني في الوصول إلى أهدافه. الرابعة، لا يمكن المراهنة على عالم عربي متقدّم ومؤثر وفاعل، إذا لم يتوفّر فعل عربي حقيقي باتجاه ذلك. الخامسة، إذا ما استمرّ العرب بقبول كل هذا الوضع المهين والمذل فسيتدحرج العالم العربي كله، بحكوماته وشعوبه، إلى القاع. السادسة، ما هو ماثل أمام عيوننا اليوم هو مقدّمة لتسونامي صهيوني لا يهدف إلى محو غزّة من الوجود فحسب، إنما سيسعى إلى محو فلسطين، والعالم العربي كله. السابعة، لا بد أن يفكّر العرب، وحكّامهم على الأصح، في تفعيل الأسلحة التي في أيديهم، والتي من المؤكّد أن مجرّد التلويح بإمكانية استخدامها سيُحدث فارقاً بيّناً في موقف أميركا والغرب الممالئ للكيان الغاصب، وفي مقدّمتها سلاح النفط.
ليست هذه الحقائق من قبيل النبوءات السود، إنما هي تقييم حدث، وتقدير موقف، وبلاغ لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.