على مسافة ثلاثة أشهر من اندلاع حرب غزة تجدر إعادة التفكير في ما جرى في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي من هجوم غير مسبوق شنته حركة “حماس” للمرة الأولى خارج حدود القطاع المحاصر، والرد الإسرائيلي القاتل والمدمر الذي لا يزال مستمراً بقوة حتى الآن، فهل كان هجوم الحركة نقطة بداية لمعركة “تحرير” شاملة؟ أم أن هناك خطأ في التقديرات قاد إلى جعل صورة الانتصار الأولي ذريعة تكشف عن حقيقة مواقف القوى المعنية وتتيح فرصة لانفلات الإجرام الإسرائيلي من عقاله؟
لقد استعدت “حماس” طوال الأعوام الماضية لعمليتها “طوفان الأقصى”، وبدى استعدادها جزءاً من مشروع أشمل تضع فيه قوى إقليمية على رأسها إيران ثقلها، هدفه خوض معركة مفتوحة مع إسرائيل ونسف مسارات التطبيع أو البحث عن حلول نهائية قوامها حل الدولتين كمقدمة إلزامية لسلام شامل وعادل، تحضيرات معركة “الطوفان” والأجواء التي أحاطت بها كانت تشي بذلك.
فبحسب تقرير لوكالة “تسنيم” الإيرانية المقربة من “الحرس الثوري” الذي يدير “فيلق القدس” المسؤول عن المنظمات الحليفة في المشرق العربي، نشر بعد تسعة أيام من اندلاع المعارك، فإن “حماس” وفصائل أخرى خططت للعملية منذ عام 2020، وبدأت مناورات “الركن الشديد” من خلال تشكيل غرفة عمليات مشتركة “وبدأت التدريبات تجري سنوياً”.
المناورة الأولى أجريت تحت عنوان “الركن الشديد 1” في الـ29 من ديسمبر (كانون الأول) 2020، وبعد مرور عام كانت المناورة الثانية باسم “الركن الشديد 2″، وفي الـ28 من ديسمبر 2022 بدأت مناورات “الركن الشديد 3″، وجرت المناورة الرابعة في الـ10 من سبتمبر (أيلول) الماضي قبل نحو شهر من بدء عملية “طوفان الأقصى” التي لا تزال مفاعيلها مستمرة.
في كل المناورات تدرب العناصر على عمليات تتخطى مفاهيم حرب العصابات المعروفة في مواجهة قوات الاحتلال، فقد تمت تجربة عمليات القتال البري والتسلل إلى المستوطنات واحتلال القواعد العسكرية وأسر الجنود.
كما تناولت التدريبات الاستعداد لأكثر من هجمة خاطفة يتم فيها الإمساك بعدد من الأسرى لمبادلتهم بالمعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وبدا من تفاصيل تنفيذ هجوم السابع من أكتوبر والأعداد المشاركة فيه ووسائل مشاركتها البرية والبحرية والجوية أن الهدف هو أبعد من مجرد عملية تسلل سريعة، مما يكسب السؤال حول طبيعة العملية قيمته، هل كان أصحابها ينوون إطلاق “حرب تحرير” فعلية تنهي سلسلة من عمليات القصف المتبادل بين فصائل غزة وإسرائيل، اتخذت على مدى أعوام طابع الحروب المحدودة من وراء السياج، وكانت تنتهي بهدن تتيح لـ”حماس” مزيداً من التمويل القطري عبر إسرائيل، ومزيداً من توطيد سلطتها في قطاع تحول إلى دولة فلسطينية ثانية من دولتين فلسطينيتين، تتنافسان على سلطة تحت سلطة الاحتلال.
استعدت “حماس” جيداً ومعها “الجهاد الإسلامي” للحرب الجديدة المختلفة تماماً عن سابقاتها من حروب غزة، وأعاد التقدم السريع والمفاجئ للمقاتلين في مستوطنات غلاف غزة إلى أذهان كثيرين صورة تقدم الجيوش العربية في حرب 1973، وطرح على الفور الاحتمال البديهي لعملية كبرى منسقة بدأ تنفيذها “محور المقاومة” بقيادة إيران ضد إسرائيل.
كانت كل المقدمات تبرر التفكير على هذا النحو، فمنذ أشهر توالت الاجتماعات التي تعقد في بيروت وطهران لأطراف “المحور” بمشاركة نشيطة من قائد ” فيلق القدس” إسماعيل قاآني، وعن هذه الاجتماعات صدرت نظرية “وحدة الساحات” في خدمة المعركة الفاصلة مع إسرائيل، تدعمها يومياً تصريحات القادة الإيرانيين بزوال إسرائيل المحتوم وإعلاناتهم المتتالية عن أنواع جديدة من الصواريخ القادرة على تدمير حيفا وتل أبيب.
كان طبيعياً توقع أن يكون “طوفان الأقصى” عملية منسقة تدعمها إيران وتدخل فيها إلى جانب منظمات “المحور” الأخرى في لبنان وسوريا وغيرهما، بمعنى أن يترافق هجوم غزة مع هجوم مماثل من الشمال يشنه “حزب الله” على مناطق الجليل، وهي عمليات هدد بها الحزب مراراً، وعمليات أخرى من الجولان السوري المحتل، مدعومة بالصواريخ الإيرانية من إيران نفسها أو من قواعد الحرس الثوري في سوريا والعراق.
لكن شيئاً من ذلك لم يحصل، إذ سارعت إيران إلى إنكار علاقتها بـ”طوفان الأقصى” واكتفى عناصر “وحدة الساحات” بردود منضبطة من لبنان، ولم تتحرك جبهة الجولان، فيما انصرف الحشد العراقي إلى تنفيذ عمليات تحرش بالقوات الأميركية في سوريا والعراق، وتحرك حوثيو اليمن لمنع السفن الآتية إلى إسرائيل من عبور البحر الأحمر.
منذ اليوم التالي تحددت مسارات المعركة، حضرت أميركا الغاضبة على نتنياهو لوضع ثقلها في معركة إسرائيل “دفاعاً عن وجودها” وأبلغت إيران بضرورة الانضباط وعدم التصعيد، فانضبطت وضبطت حدود إسهام أطراف “محورها” في معركة قال هذا المحور إنه يستعد لها وينتظرها على أحر من الجمر.
لم يكن ما قامت به الولايات المتحدة الأميركية من تبنٍّ مطلق لأمن إسرائيل مفاجئاً، فهي تصرفت على هذا النحو منذ قيام هذه الأخيرة، لكن المفاجأة جاءت من إيران نفسها التي دأبت منذ عقود على بناء نفوذها الإقليمي تحت شعارين أساسيين، طرد الأميركيين من غرب آسيا وإزالة إسرائيل من الوجود.
في معركة غزة انكفأت إيران وراء مناوشات محدودة للميليشيات التابعة لها، وحرصت على نفي أي علاقة لها، أو معرفة مسبقة بنوايا “حماس”، واجتهدت في مرحلة لاحقة على لسان الأمين العام لـ”حزب الله” لتأكيد فكرة أن كل طرف من أطراف “المقاومة” يتخذ قراراته بنفسه وبناء لظروفه الخاصة، فلم يكن في السلوك الإيراني ما يفاجئ إلا للذين يرغبون في التفاجؤ.
فمصالح إيران تأتي أولاً، ولذلك تولت فوراً أخذ التحذيرات الأميركية في الاعتبار، وبقاء النظام هو الأولوية الإيرانية الأولى، لكن مهما يكن النظام الذي يحكم في هذه البلاد فإن رؤيته لإيران في محيطها لا تختلف كثيراً عن رؤية السلف أو الخلف.
والمصالح الإيرانية الأساسية تحددها علاقة طهران بمحيطها المباشر، فالقوقاز مهم لها والعراق تعتبره عمقها الأمني، أما الخليج العربي فتريده بحيرة إيرانية ومن الشرق هي لا تغفل علاقة حساسة مع باكستان وأكثر حساسية مع أفغانستان حيث تحكم البلاد حركة معادية لها.
في هذا الإطار الجغرافي المحدد تقيم مصالح “القومية الإيرانية الفارسية”، أما تمددها نحو المشرق العربي بثياب مذهبية وعناوين فلسطينية، فهو تم ويتم لتدعيم عناصر الدائرة المصلحية الأولى ولا يشكل عنصراً مركزياً في رؤيتها لنفسها ولموقعها.
أكد السلوك الإيراني تجاه معركة “طوفان الأقصى” هذه الرؤية، كلام كثير وفاعلية معدومة، وهذا ليس سلوك طرف يبني أيديولوجيته ومبرر وجوده على شعارات جاهزة للتصدير قوامها “الموت لأميركا والموت لإسرائيل”.
فقدت إيران صدقيتها إزاء “صدقية” غريمها الأميركي تجاه إسرائيل، بل ذهبت على لسان المرشد الخامنئي إلى حد التنبيه من المساس المباشر بالأميركيين خوفاً من ردود فعلهم، أو احتفاظاً بخط الرجعة إلى مفاوضات كانت مستمرة ومثمرة عشية “الطوفان”.
وصل الانضباط الإيراني إلى حد ضبط ردود الأفعال على عمليات طاولت قادة ورموزاً إيرانيين وليس فقط فلسطينيين من “المحور”، بعد اغتيال المسؤول البارز في “حماس” ومهندس العلاقات بين الحرس الثوري والحركة، وسبقه اغتيال القائد في الحرس رضى موسوي وعدد من المسؤولين في الميليشيات الإيرانية في سوريا والعراق.
لم يجد “الحرس” ما يقوله في بيان رسمي سوى أن “الاغتيال هو انتهاك لسيادة لبنان”، وكأن أفعاله وتحركات المنظمات الفلسطينية العسكرية فيها احترام لتلك السيادة، و”محاولة إسرائيلية لدفع المقاومة إلى الوقوع في الخطأ”، ثم ليختم بالنظرية الإيرانية عن ضرورة “الصبر الاستراتيجي” وليصدر توجيهات بأن “حزب الله لن يخرج عن إطار العقلانية والمنطق” في رده على الاغتيال.
ما تريده إيران من “عقلانية” لـ”حزب الله” ليس مفاجئاً، فهي تلتزمه حرفياً في سلوكها تجاه الضربات التي تتعرض لها في سوريا والعراق، وتعتمد بيانات الحكومة السورية والحشد العراقي وحكومته لتختفي وراءها، فالأولوية هي الحفاظ على النظام، وموقعه في أي بحث لاحق يتصل بمستقبل الإقليم وموقع بلاد فارس فيه، وغزة أو فلسطين لن تستحقا في النهاية تضحية طهران بنفسها أو بأدواتها التي قامت أصلاً للدفاع عن سياسة إيران لا للدفاع عن قضايا أخرى مهما بلغت من سمو، واستهلكت من كلام.