بعد شن إسرائيل حربها التدميرية على قطاع غزة تفجر صراع من نوع آخر في وعلى البحرين الأحمر والعربي، ومع ما يلحظ من ارتباط لهذا الصراع بالحرب، فإن ذلك ليس إلا ما يظهر من تعقيدات ملفه وطبيعة اللاعبين الإقليميين والدوليين في هذا الصراع المتشعب على تلك الشرايين الحيوية والضرورية لقلب الاقتصاد العالمي.
قبل أسابيع قال وزير الدفاع الإيراني محمد رضا أشتياني إن «البحر الأحمر يخضع للسيطرة الإيرانية، ولا أحد يستطيع اللعب فيه دون موافقة إيران» في إشارة إلى وجود ميليشيات الحوثيين المدعومة من إيران على شاطئ البحر الأحمر، والتي مكنت طهران من تحقيق اختراق استراتيجي في هذه المنطقة.
جاء ذلك على خلفية دعوة أمريكية لتشكيل تحالف دولي باسم «حارس الازدهار» لمواجهة الصواريخ والطائرات المسيرة التي يطلقها الحوثيون من اليمن على سفن تجارية في البحرين الأحمر والعربي ومضيق باب المندب.
وبالنظر لإيران فإنه ليس لها مصالح استراتيجية مباشرة في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، قدر ما هي في الخليج العربي ومضيق هرمز، ولذا تختار إيران مكان المعركة بشكل لا يؤثر على مصالحها الاستراتيجية، وفي المقابل تحاول أن تشكل ضغطاً على القوى الإقليمية والدولية للمقايضة في ملفات أخرى تسعى طهران لكسب نقاط مهمة فيها.
كما أن اختيار مكان الضغط في الممرات المائية البعيدة نسبياً عن حدود إيران يأتي لتأكيد ما تردده إيران من أنها لا تقف وراء الهجمات المنطلقة من الأراضي اليمنية ضد خطوط الملاحة في البحر الأحمر.
وإذا غضضنا الطرف عن اللاعب الحوثي المرتبط بالإيراني فإننا لا نحتاج لكثير عناء لإدراك ارتباط هذا الأخير بلاعب دولي أكبر، يزحف ببطء على المنطقة بأساليب وطرق متنوعة، حيث تقترب الصين من تخوم البحار التي تسبح فيها الحيتان الأمريكية، لكي تشغل هذه الحيتان عن التوغل أكثر في بحر الصين الجنوبي، ولترتبط التوترات في البحر الأحمر بالتوتر في بحر الصين الجنوبي، وليخرج الصراع عن نطاقه اليمني المرتبط بالحرب في اليمن، وعن أبعاده الإقليمية المرتبطة بملفات إيرانية مثل الملف النووي الإيراني إلى ملفات دولية مثل الملف الصيني التايواني، والوضع في بحر الصين الجنوبي.
لا يمكن فهم توترات البحر الأحمر بعيداً عن التنافس بين طريقين تجاريين: طريق الصين (الحزام والطريق) وطريق الهند الذي تم الاتفاق عليه في قمة العشرين الأخيرة في دلهي
وإذا كانت حرب غزة يمكن أن تفهم بأنها وجه من أوجه الحرب الغربية على الشرق فإن سواحل البحر الأحمر هي المكان الجديد للصراع الشرقي الغربي/الصيني الأمريكي، ولكلٍ هدفه، الصين تريد توريط أمريكا لإشغالها أكثر قبل الانتقال الاستراتيجي لبحر الصين، والأمريكيون يريدون سرعة التخلص من تلك التوترات، ومن صداع الشرق الأوسط، للتفرغ للملف الصيني.
لا يمكن كذلك فهم توترات البحر الأحمر بعيداً عن التنافس بين طريقين تجاريين: طريق الصين (الحزام والطريق) وطريق الهند الذي تم الاتفاق عليه في قمة العشرين الأخيرة في العاصمة الهندية دلهي، والذي يهدف لضرب مشروع «الحزام والطريق» الصيني، وهنا يأتي الصراع في البحر الأحمر كوجه من أوجه الصراع على طرق التجارة البرية والبحرية، حيث لا يمكن فصل الصراع البحري عن البري، ولا فصل الصراعات العسكرية عن محتوياتها الاقتصادية والسياسية.
أين تكمن إسرائيل هنا؟
إسرائيل تأتي في قلب طريق التجارة الهندي المزمع، ومن مصلحتها أن تكون ملتقى طرق «القوافل التجارية» الحديثة، وأن تكون مركزاً اقتصادياً بين آسيا وأفريقيا وأوروبا، ولذلك تعتبر إسرائيل نفسها في خطر من أحداث البحر الأحمر، ليس لأن حركة ميناء إيلات وغيره تناقصت بشكل كبير، ولكن لأن الخطط الإسرائيلية الأمريكية بتحويل إسرائيل إلى قطب اقتصادي وسيط بين مختلف القوى الدولية، كل هذه الخطط تتعرض للخطر من طرف أولئك الساعين إلى إفشال الطريق الهندي الذي تدعمه الولايات المتحدة لضرب طريق الصين، ودق «إسفين اقتصادي» بين الهند والصين يضاف إلى عدة أسافين جيوسياسية بين البلدين، تحاول واشنطن الاستفادة منها، في صراعها مع بكين في أكثر من منطقة حول العالم.
وبطبيعة الحال فإن محاولات القوة الإقليمية الصاعدة المتمثلة في إثيوبيا في الوصول إلى سواحل البحر الأحمر، بمنفذ بحري عبر توقيع اتفاق مع جمهورية «أرض الصومال» غير المعترف بها، هذه المحاولات لا يمكن أن تفهم بعيداً عن التنافس الأمريكي الصيني، إذ يبدو أن الصين تريد لأثيوبيا التي تربطها بها علاقات اقتصادية قوية أن تخرج من «حصارها الجغرافي» إلى مدى بحري أوسع، وبطبيعة الحال فإن مغزى الصين من الدفع بأثيوبيا للخروج إلى البحر تأتي ضمن سياقات الحزام والطريق الصينية، كما أن الصين تريد- بالطبع – خلق مزيد من التوترات في المنطقة تمتد من باب المندب وخليج عدن جنوباً إلى العقبة والسويس شمالاً، مع الأخذ بعين الاعتبار الخلافات المصرية الأثيوبية على خلفية سد النهضة الذي يبعث ولا يزال على المزيد من التوترات المرشحة للتصاعد حول السد والميناء. وهذه التوترات من وجهة نظر صينية مجدية في تعطيل قدرة واشنطن على التفرغ لملفات بحر الصين الجنوبي وتايوان والمواجهة الاقتصادية مع الصين.
بالعودة إلى اليمن فإن هذا الصراع البحري في ظاهره محدود بمحددات الحرب على غزة، لكن الحوثيين، وكما هو واضح، ومن ورائهم إيران، يسعون لتوظيف تلك الحرب لأجندات تخص إيران وميليشياتها في اليمن، فعلى الجانب الإيراني تجد إيران في الصراع على البحر الأحمر فرصة للتفاوض على ملفات أخرى كثيرة في مقدمتها التوسع الإقليمي والبرنامج النووي والصاروخي، كما أن الحوثيين يرغبون من وراء الضغط في هذا الاتجاه إلى تقوية موقفهم التفاوضي مع الحكومة اليمنية، وإن كان المعلن أنهم يرغبون في تقوية موقف غزة التفاوضي مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، كما يرغب الحوثيون بالاعتراف بهم حارساً للسواحل الجنوبية للبحر الأحمر، ويريدون من خلال ذلك اعتراف القوى الإقليمية والدولية بمشروعية سلطتهم المعزولة دولياً، وبما أن اللغة الوحيدة المفهومة والمتداولة هي لغة المصالح، فإن الصراعات في حقيقتها تفجرها المصالح الحقيقية لا الشعارات المعلنة، وبما أن المصالح متشابكة فإنه لا يمكن فصل الأبعاد الداخلية للصراع عن الخارجية، ولا الإقليمية عن الدولية، في عالم يربح فيه من يجيدون اللعب بالأوراق الرابحة في الوقت والمكان المناسبين.