الولايات المتحدة لن تكون راغبة في السلام أكثر من الطرفين المعنيين”، جملة يعرفها كل سياسي ودبلوماسي وباحث وصحافي، يتابع النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين، وهي تجسد تصور أمريكا الذي انهار في 7 تشرين الأول. كلما تعثرت “المسيرة السياسية” يقول كبار الشخصيات في الإدارة الأمريكية في واشنطن إن لدولتهم العظمى اهتمامات دولية تنشغل بها، وإن هناك أزمات إقليمية لا تقل أهمية. الإدارة مستعدة للتوسط والتمويل وحتى توجيه ضربة على يد الرافض، يشرح الدبلوماسي الأمريكي المناوب الذي أرسل إلى منطقتنا. ولكن إذا كان الفلسطينيون والإسرائيليون يفضلون الاستمرار في قتل بعضهم بعضاً فستهز الإدارة الأمريكية الكتف. ففي نهاية المطاف، هذه مشكلتهم.
حتى إن المحلل السياسي المؤثر في “نيويورك تايمز”، توماس فريدمان، كتب عقب فشل إدارة أوباما في تحريك المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين (كانون الأول 2010): “لن تكون راغباً في السلام أكثر من الأطراف نفسها، هكذا تتصرف أمريكا الآن. الأشخاص الذين يديرون إسرائيل وفلسطين، لهم أولويات أخرى. لقد حان الوقت لوقف محاولة إقناعهم وإبقائهم يعيشون مع النتائج… توقفنا عن أن نكون الجد من أمريكا”. لا يبدو لي أنه سيكرر هذه الأقوال غداة 7 تشرين الأول.
لولا كارثة غلاف غزة لكان هناك شك كبير بأن تتخلى الإدارة الأمريكية عن التصور الأحمق، التخلي عن النزاع الدموي، وتبقيه في يد إسرائيل والفلسطينيين. لو انتهى هجوم حماس بعدد يتكون من خانتين من القتلى والمصابين لما سمعنا الرئيس الأمريكي بايدن، وهو يتحدث عن حل الدولتين في كل تجمع انتخابي وفي كل مقابلة مع وسائل الإعلام. العقل يقول إنه لولا انضمام “حزب الله” والحوثيين لهذا الاحتفال لما كان وزير الخارجية الأمريكي يقضي وقته في جلسات الكابينت في تل أبيب وفي رحلات مكوكية بين لبنان وقطر.
الإدارة الأمريكية بدأت تدرك، سواء أعجبها هذا الأمر أم لا، بأن الولايات المتحدة طرف كامل في النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين. وإذا هربت الدولة العظمى الأقوى في العالم من الساحة المشتعلة، فلن تبقى هذه الساحة وحيدة. روسيا والصين في المرصاد، وإيران التي فقدت مليون جندي في حربها مع العراق متحمسة للقتال ضد دولة اليهود حتى الفلسطيني الأخير (واللبناني الأخير).
التصعيد على الحدود الشمالية وفي البحر الأحمر ذكّر الأمريكيين بأن المواجهة بين إسرائيل والفلسطينيين ليست بمثابة زكام مزمن، وكما قال روبرت غيتس، وزير الدفاع في إدارة أوباما، فإن عدم التقدم نحو السلام يساعد أعداء الولايات المتحدة. وقال الجنرال ديفيد بتراوس في حينه: “غضب العرب بخصوص القضية الفلسطينية يقيد قوة وعمق الشراكة الأمريكية مع حكومات وشعوب المنطقة، ويضعف شرعية أنظمة معتدلة في العالم العربي”. بتراوس الذي قاد الحرب ضد تنظيم القاعدة، قال إن إسرائيل تشكل عبئاً استراتيجياً للولايات المتحدة.
تفريغ مخازن الطوارئ لدى الجيش الأمريكي في إسرائيل، وقطار جوي وبحري لقنابل ثقيلة، وحاملة الطائرات التي أرسلت بسرعة إلى المنطقة لمنع حرب إقليمية، كل ذلك يثبت أقوال الجنرال. إضافة إلى ذلك، مفاجأة 7 تشرين الأول كشفت للأمريكيين عورة الاستخبارات الإسرائيلية، التي كانت طوال سنين شريكة ناجعة حول تقديرات الوضع لجهاز الأمن الأمريكي. يمكن الافتراض أن البنتاغون وسي.آي.ايه مطلوب منهم الآن الإجابة عن سؤال كيف غابت أنفاق حماس عن عيون عملائهم وعن أقمار تجسسهم.
صور الأطفال القتلى والنساء الحوامل الغارقة في الوحل في مخيمات اللاجئين بغزة لا تزيد شعبية مزودة القنابل لإسرائيل في الشارع العربي، لكن من هنا وحتى عرض ثمن الجمود السياسي، هذا إذا لم نتحدث عن إعادة النظر في العلاقات مع إسرائيل، فإن المسافة تبدو بعيدة جداً. عدم الفهم والعجز الأمريكيين إزاء الاحتلال الزاحف لـ “المناطق” [الضفة الغربية]، ساهم في فقدان ثقة الفلسطينيين بالحل السياسي، وساهم بدعم حماس.
على مدى السنين، اعتبرت الولايات المتحدة المستوطنات عائقاً أمام السلام، لكنها امتنعت عن الإعلان بأنها غير قانونية لتجنب فرض عقوبات دولية على إسرائيل. جورج بوش الأب كان الرئيس الأمريكي الأول الذي ربط بين المساعدات (الضمانات) والبناء في المستوطنات. ولكن جورج بوش الابن اعترف بأن المستوطنات أوجدت في أراضي الضفة “الواقع الجديد” الذي لن يسمح لإسرائيل بالعودة إلى حدود العام 1967. ومنذ ذلك الحين وإسرائيل تقوم يومياً بتغيير الواقع في الضفة عن طريق إقامة بؤر استيطانية جديدة وطرد تجمعات فلسطينية من أراضيهم، وكل ذلك بتشجيع من وزارات الحكومة وبرعاية جنود الجيش الإسرائيلي.
ما الذي فعلته الولايات المتحدة حتى الآن من أجل الدفاع عن مصلحتها التي تتمثل بمنع التصعيد في المنطقة؟ فيتو آخر في الأمم المتحدة منع إدانة سلوك إسرائيل في المناطق المحتلة. إضافة إلى ذلك، سمحت الولايات المتحدة لإسرائيل بتطوير تصور استيعاب حماس ولفظ السلطة الفلسطينية. بايدن حتى في هذه الأيام يخفق في فرض تحويل أموال الضرائب للسلطة الفلسطينية على نتنياهو، ومن ثم تعزيز ما بقي من دعم الجمهور للرئيس محمود عباس. أما نتنياهو فحول شركاءه في الائتلاف إلى درع ضد الضغط الأمريكي، الأمر الذي نجح مع أوباما، فلماذا لا ينجح مع بايدن؟
أثناء زيارته للقاهرة في حزيران 2009 توسل أوباما للرئيس حسني مبارك كي يهتم بمشاكل نتنياهو الائتلافية. الرئيس المصري في حينه أجاب بأن نتنياهو هو الذي اختار هذا الائتلاف، وأشار إلى أن على محمود عباس أن يأخذ الضغوط السياسية الداخلية في الحسبان. ألدى السياسيين الأمريكيين ضغوط داخلية. إن سنوات دعم إسرائيل من قبل المرشحين الديمقراطيين، للرئاسة والكونغرس، جذبت لهم المؤيدين والمتبرعين اليهود، وأيضاً ناخبين اعتبروا إسرائيل شريكة لهم في القيم. الانقلاب النظامي كشف لهم العمل الفاحش الذي حاول ائتلاف نتنياهو فعله للديمقراطية الإسرائيلية. المشاهد القاسية في 7 تشرين الأول أخلت المكان في وسائل الإعلام الأمريكية لصور مخيمات اللاجئين في غزة. التعاطف مع إسرائيل استبدل بانتقاد متزايد لها ولمساعديها في البيت الأبيض. هكذا، يجب على الولايات المتحدة أن ترغب في سلام بين إسرائيل والفلسطينيين أكثر من “الأطراف نفسها”.
خطة أمريكا لنقل قطاع غزة إلى يد سلطة فلسطينية “محدثة” هي خطة ملتوية قادمة في الطريق إلى مزبلة تصورات خاطئة للولايات المتحدة. منع كارثة 7 تشرين الأول والتدهور إلى حرب إقليمية، يمر عبر الاعتراف بدولة فلسطينية على أساس مبادرة السلام العربية، المبادرة التي تنتظر الطرف الأمريكي منذ كارثة 11 أيلول.