بيروت – يحتاج لبنان إلى إصلاح نظام الحماية الاجتماعية لجميع مواطنيه في المراحل المختلفة من حياتهم، ما يؤمّن الحصول على الضمان الاجتماعي والمساعدة والرعاية الاجتماعيتَين، وبرامج متعلقة بسوق العمل.
وتقول الباحثة حنين السيد في تقرير نشره ماركز كارينغي إنه ينبغي أن يضع أيضًا الأسس اللازمة لإنشاء عقد اجتماعي معزَّز يحلّ مكان العقد الضعيف الذي كان قائمًا قبل العام 2019، والذي كان دور الدولة محدودًا فيه.
وحتى أكتوبر من ذلك العام، حين انهارت الأوضاع المالية في لبنان إثر الاحتجاجات الشعبية ضد القيادة السياسية، كان نظام الحماية الاجتماعية في خدمة القلّة المحظوظة، ولاسيما موظّفي القطاع العام، مقابل تكاليف مرتفعة.
و أما معظم السكّان، وخاصة الفقراء والأكثر احتياجًا، فقد تُرِكوا من دون حماية. وكان هؤلاء السكّان المحرومون من الحماية الاجتماعية يتّكلون على المساعدات التي يقدّمها أفراد عائلاتهم المقيمون خارج لبنان، أو على الخدمات التي تؤمّنها منظمات غير حكومية وترتدي في الكثير من الأحيان طابعًا مذهبيًا، إذ تحظى بدعم زعماء سياسيين غالبًا ما يستخدمون المساعدات الاجتماعية أداةً للمحسوبيات السياسية.
ينبغي على الدولة وضع نظام تقاعد وطني يوفّر تغطية منصفة لجميع العاملين، وتوفير الحماية المناسبة في الشيخوخة
ويعاني لبنان، منذ العام 2019 وحتى الآن، أزمةً مالية واقتصادية متعدّدة الأبعاد صنّفها البنك الدولي بأنها “من ضمن أسوأ عشر أزمات، وربما حتى من ضمن أسوأ ثلاث أزمات اقتصادية” شهدها العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر.
و يواجه الاقتصاد حالة انكماش للسنة الخامسة على التوالي، في أعقاب انكماش تراكمي بلغ 37.2 في المئة على مدى أربع سنوات بين العامَين 2018 و2021، إضافةً إلى تراجع كبير في قيمة الليرة اللبنانية، وتضخّم ثلاثي الأرقام، ما تسبّب بتدهور القدرة الشرائية للطبقة الوسطى والسكان الفقراء.
ونتيجةً لذلك، ارتفعت مستويات الفقر والحاجة إلى حدٍّ كبير، وبات موظّفو القطاع العام في عداد الفقراء وكذلك، غادر مئات آلاف الشباب والعمّال المهرة البلاد، إذ بلغ صافي أعداد المهاجرين 160,000 شخص في العام 2022، وازدادت الدولة الضعيفة أساسًا ضعفًا، في ظل شحّ الموارد المتاحة وضآلة القدرة المؤسّسية على الاستجابة لهذه الأوضاع.
وهكذا، أصبحت الحاجة إلى نظام حماية اجتماعية منصف وفعّال أكثر إلحاحًا من أي وقتٍ مضى. لكن على الرغم من التحدّيات الكثيرة، تتيح الأزمة الراهنة فرصةً لإعادة النظر في نموذج الحماية الاجتماعية السابق في لبنان، وإرساء نظام شامل يُبنى على أساسه عقدٌ اجتماعي جديد وأقوى بين المواطنين والدولة.
وتُستخدَم برامج وسياسات الحماية الاجتماعية على نطاق واسع عالميًا لمساعدة الأفراد والمجتمعات على إدارة المخاطر والصدمات، وحماية الأُسر من الفقر وعدم المساواة، وتعزيز استفادة السكان من الفرص الاقتصادية.
وتشمل برامج الحماية الاجتماعية الضمان الاجتماعي، مثل المعاشات التقاعدية، والتأمين ضد البطالة، والتأمين الصحي، وبرامج المساعدات الاجتماعية وشبكات الأمان، مثل التحويلات النقدية وخدمات الرعاية الاجتماعية، وبرامج العمل والإدماج الاقتصادي. وتُعتبَر الحماية الاجتماعية عنصرًا أساسيًا من العقود الاجتماعية في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وخطا لبنان خطواته الأولى نحو إرساء الأسس الضرورية لإنشاء نظام حماية اجتماعية شامل. واليوم، تحصل أكثر من 145,000 أسرة لبنانية تعيش في حالة فقر مدقع على مساعدات نقدية شهرية عبر دفعات إلكترونية مباشرة من خلال برنامج شبكة الأمان الاجتماعي الطارئة والبرنامج الوطني لدعم الأسر الأكثر فقرًا. لكن يتعيّن بذل جهود أكبر بكثير في هذا الإطار.
ومن خلال اتّخاذ عدد من التدابير الأساسية، ستصبح السلطات اللبنانية على المسار الصحيح نحو إرساء أسس عقد اجتماعي جديد للبنان.
وأولًا، لا بدّ من توسيع نطاق تغطية نظام الحماية الاجتماعية، ومنح الأولوية للأُسر الفقيرة والأكثر احتياجًا، قبل الانتقال تدريجيًا إلى فئات أخرى من المجتمع. ويتعيّن على لبنان، تبعًا للموارد المالية المتاحة، توسيع نطاق تغطية المساعدات الاجتماعية من نحو 145,000 أسرة راهنًا إلى جميع الأُسر التي تعيش في فقر مدقع على الأقل، والتي يبلغ عددها 220,000 أسرة تقريبًا. وعلاوةً على ذلك، تحتاج مجموعات سكانية أخرى إلى المساعدة أيضًا، ومن بينها الأشخاص ذوو الإعاقة وكبار السن.
وثانيًا، في ما يتعلق بتوسيع نطاق تغطية نظام الحماية الاجتماعية، لا بدّ من زيادة الإنفاق العام على المساعدات الاجتماعية، على غرار التحويلات النقدية وخدمات الرعاية الاجتماعية. ويجب إيلاء الأولوية إلى الفئات السكانية الأكثر احتياجًا قبل توسيع نطاق التغطية تدريجيًا. وتماشيًا مع المتوسط العالمي للإنفاق على المساعدة الاجتماعية، ينبغي أن يتراوح هذا الرقم بين 1.5 و2.0 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، مقارنةً مع نسبة 0.11 في المئة التي سجّلها لبنان قبل الأزمة.
ولكي تكون مثل هذه الزيادة قابلة للتطبيق، يتعيّن على السلطات تخصيص حيّز مالي في الموازنة من خلال الابتعاد عن الإعانات الشاملة والتحويلات، مثل تلك المخصّصة لشركة كهرباء لبنان الوطنية التي تتكبّد الخسائر، والتركيز بدلًا من ذلك على البرامج الموجّهة. ويتعيّن عليها أيضًا تطبيق إصلاحات ضريبية تؤدي إلى توسيع القاعدة الضريبية، وسدّ الثغرات، وتحسين الامتثال الضريبي في أوساط جميع دافعي الضرائب. ويشمل ذلك فرض ضرائب مباشرة وموجّهة وتصاعدية، وإعادة النظر في سياسات الإعفاءات التي تُفيد بشكل أساسي الأفراد الأثرياء والمؤسسات.
وثالثًا، ينبغي على الدولة وضع نظام تقاعد وطني يوفّر تغطية منصفة لجميع العاملين، ويجب تحويل برنامج الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي المتعلق بتعويض نهاية الخدمة إلى نظام مماثل عبر تشريع جديد، وذلك لتغطية العاملين في القطاع الخاص بعد التقاعد، وتوفير الحماية المناسبة في الشيخوخة. في غضون ذلك، ينبغي إصلاح نظام التقاعد الحالي في القطاع العام لضمان استدامته على الصعيد المالي، ويجب دمج نظامَي التقاعد للقطاعَين العام والخاص بشكل تدريجي في نظام وطني موحّد ومتكامل لجميع العاملين، بصرف النظر عن وضعهم الوظيفي.
الاقتصاد يواجه حالة انكماش للسنة الخامسة على التوالي، إضافةً إلى تراجع كبير في قيمة الليرة اللبنانية، وتضخّم ثلاثي الأرقام
أخيرًا، لا بدّ من إصلاح إدارة نظام التقاعد بشكل يُفضي إلى إلغاء الزبائنية والممارسات الفاسدة، بدءًا من تغيير أعضاء مجلس إدارة ومدراء الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ومرورًا بإجراء عمليات تدقيق سنوية في حسابات الصندوق المالية، ووصولًا إلى أتمتة إجراءات نظام التقاعد.
ورابعًا، على صنّاع السياسات الانطلاق من سجل “دعم” لتطبيق برامج مساعدة اجتماعية وأيضًا برامج حماية اجتماعية أخرى. والخطوة الأولى في هذا الصدد هي أن تعمد جميع برامج المساعدة الاجتماعية الحكومية (على غرار البرنامج الوطني لدعم الأسر الأكثر فقرًا، وشبكة الأمان الاجتماعي الطارئة، والمنح المقدّمة للفئات الأكثر احتياجًا، وغيرها) إلى استخدام سجل “دعم”. أما الخطوة الثانية فتشمل ربط قواعد بيانات وزارتَي الصحة، والتربية والتعليم، بسجل “دعم” من أجل تحديد المستفيدين من برامج أخرى، إضافةً إلى إجراء مراجعة وتدقيق لتجنّب ازدواجية المساعدة للمستفيد الواحد. وفي مرحلة لاحقة، يمكن أيضًا ربط قواعد بيانات كلٍّ من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ووزارتَي المالية، والعمل، بسجل “دعم”.
وهكذا، يمكن أن يحدّ لبنان من ازدواجية المساعدة، ويخفّض تكاليف برامجه الاجتماعية من خلال إرساء نظام رقمي متكامل مع سجل اجتماعي وطني، وبطاقات هوية رقمية، وأنظمة دفع. ويجب أن يتقيّد السجل الاجتماعي بالمعايير الدولية على مستويات عدة، منها الحفاظ على خصوصية البيانات، وأمنها، وتحقيق الحوكمة الرشيدة، وأن يحدّد كيفية إدارة البيانات ومن يديرها. ولا بدّ أيضًا من ضمان سلامة تخزين البيانات، وإرساء نظام تدقيق خارجي للإشراف على تطبيق المعايير الأمنية اللازمة، من جملة تدابير أخرى. وتُعدّ هذه الخطوات أساسية لحماية النظام من التدخلات السياسية.
وخامسًا، على لبنان الاستثمار في إنتاج بيانات أساسية لعملية صنع السياسات التي تستند إلى الأدلة، ولاسيما البيانات التي توفّر معلومات تمثيلية حول مستويات المعيشة، وأوجه التفاوت، ومعدّل الفقر في أوساط السكان. تُعدّ هذه البيانات التي يتم جمعها عادةً من خلال استطلاعات تمثيلية كبيرة للأُسر على الصعيد الوطني، بالغة الأهمية من أجل تصميم برامج الحماية الاجتماعية ورصدها وتقييم تأثيرها.
يُصنَّف لبنان من بين أكثر الدول التي “تفتقر إلى البيانات” في العالم، إذ أنه لا يُجري استطلاعات دورية لقياس معدّل الفقر، مع الإشارة إلى أن آخر استطلاع رسمي حول الفقر في البلاد أُجري في العام 2011.
العرب