حرصت على استخدام الأسماء القومية بدلاً من التعبيرات القانونية في الإشارة إلى الأمم الثلاث، وذلك لإبراز الهويات المختلفة لأهم دولتين في الجوار العربي – باستثناء إسرائيل بالطبع لما عليها من مآخذ لا تسقط بالتقادم وجرائم لن تغيب عن ذهن البشرية – مع علمنا الكامل وإدراكنا الواضح أن إسرائيل دخيلة من حيث المنشأ والسياسة والتعامل مع أصحاب الأرض من أبناء الشعب الفلسطيني الباسل.
فإسرائيل لا أتوقع منها تغييراً، مهما كانت المظاهر، ومهما بلغت الغطرسة، ومهما فعلت بدعم من الحلفاء الغربيين في تحدٍ صارخ للرأي العام العالمي، ولذلك فإنني أركز هنا على الدولتين الأخريين إيران وتركيا، والفارق بينهما واضح، فالأولى دولة لها أجندة سياسية مغلفة بإطار ديني، أما الأخيرة فهي دولة ذات تاريخ مشترك مع العرب حافل بالصعود والهبوط فلقد جثمت على صدر دول الأمة لأكثر من سبعة قرون تميزت بالقهر والتخلف والاستنزاف والتسلط ومقايضة الغرب الأوروبي دائماً بسيطرتها في البلقان والشرق الأوسط حتى امتد نفوذها إلى بعض دول المغرب العربي في أفريقيا إلى أن برز حاكم في مصر هو الوالي محمد علي الذي سعى إلى تحجيم نفوذها وتقييد سطوتها، فاجتمعت عليه الدول الأوروبية باتفاقية لندن عام 1840 لتحجم دولته بالحدود المصرية التاريخية دون التوسع الذي كان يسعى إليه جيش إبراهيم باشا ابن والي مصر، والذي دكت سنابك خيله هضبة الأناضول في تهديد مباشر للخلافة العثمانية.
أما إيران، وهي التي أصبحت دولة إسلامية شيعية منذ عصر الشاه إسماعيل الصفوي بما يؤكد أن التشيع العربي أسبق من نظيره الإيراني بقرون عدة، فالتشيع العربي يرجع إلى ما بعد واقعة التحكيم بين علي ومعاوية في القرن الأول الهجري، بينما الأمر في إيران أكثر حداثة وأقصر عمراً من سابقه العربي.
منذ قيام الثورة الإسلامية في طهران ووصول الملالي إلى الحكم ونحن نشهد تدخلاً إيرانياً واضحاً في السياسة الإقليمية باعتبارهم ورثة حكم الشاه الذي كان يعد شرطي الخليج لعقود عدة، فتوهم الملالي أن الدور الإيراني لكي يستمر ويمتد فإن عليه أن يتبنى مبررات بديلة كما كانت عليه الأوضاع في عهد الشاه فكانت نظرية تصدير الثورة الإسلامية بمنطوق فارسي هي اللغة الجديدة التي امتدت من جنوب لبنان إلى جنوب الجزيرة العربية إلى محاولات التسلل إلى العراق على رغم الحرب الطويلة التي جرت بينهما في عصر صدام حسين، فضلاً عن التحالف القوي مع الدولة السورية بثقلها العربي ومكانتها القومية.
وها نحن نشهد الآن مسرح الأحداث بعد ما جرى في غزة من جرائم غير مسبوقة في تاريخ البشرية، إذ أثبتت العمليات العسكرية من جانب إسرائيل وعدوانها على الأطفال والنساء، أنه قد جاوز الظالمون المدى، فإذا بـ”حزب الله” يزوي في ظل عمليات محدودة، ولا بأس فهذا حقه، إلا إذا كان يدافع عن لبنان الوطن الحقيقي الذي ينتمي إليه.
وقد حرصت إيران في هذه الفترة على تكرار عدم رغبتها في التورط الكامل في الحرب الدائرة ومحاولة غسل اليدين من الأحداث المختلفة لأن لطهران أجندة خاصة هي فارسية بالدرجة الأولى، ولن تكون أبداً عربية أو فلسطينية.
أما عن الترك فحدث ولا حرج إذ إن أردوغان لاعب ماهر يفتح الجبهات في براءة وهدوء، لقد زار أثناء الأحداث الأخيرة في غزة دولة اليونان الغريم التاريخي للترك، وزار مصر المنافس الاستراتيجي في شرق المتوسط وتحدث باهتمام عن الصومال في إشارة إلى العباءة الإسلامية الكبرى التي يرتديها مع عمامة الخلافة العثمانية بما لها وما عليها، وهو يحظى بعلاقات قوية عسكرية واقتصادية مع إسرائيل، ولكن يجاهر بعدائها ويدين تصرفاتها وتلك هي المراوحة الذكية من جانب حكومة أنقرة في هذه الظروف المعقدة في المنطقة، فإذا رأينا أن ننظر إلى المستقبل واحتمالاته فإننا نرصده في النقاط التالية:
أولاً: بعدما جرى في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023 هرع الفرس إلى غسل أيديهم مما يجري، كما أحجم “حزب الله” عن التورط الكامل في العمليات العسكرية، ووقف الترك في منتصف الطريق مكتفين بالإدانة الخطابية والتصريحات العامة، وبقيت إسرائيل موغلة في جرائمها في ظل غطرسة إرهابية لم يشهد لها التاريخ نظيراً.
ثانياً: إن دولتي الجوار العربيتين للشعب الفلسطيني مصر والأردن تمثلان ركيزة تبدو كالصخرة التي تتحطم عليها أحلام إسرائيل لتصفية القضية الفلسطينية والمضي في التهجير القسري لدفع الفلسطينيين لترك وطنهم، وبذلك تتوهم إسرائيل أنها تستطيع تصفية القضية الفلسطينية على حساب أرض عربية جديدة متوهمة أن ردود الفعل ستكون منعدمة مفترضة أن الشعوب يمكن أن تفرط في أرضها تحت منطق القوة المرحلية، وهذا أمر يختلف مع سياق التاريخ منذ بزوغ فجره.
ثالثاً: إن الولايات المتحدة الأميركية بإدارتها الحالية تبدو في أسوأ أوضاعها وأكثرها اضطراباً وتخبطاً، فهي تمد إسرائيل بكل ما تحتاج إليه، لكنها في الوقت ذاته ترى أن توسيع دائرة الحرب في الشرق الأوسط أمر يوقع ضرراً بليغاً بالمصالح الأميركية في وقت تتجه فيه إلى الانكماش العسكري في الخارج والتوقف عن الدخول في جبهات جديدة، إنها الإدارة التي ترى أن حل الصراعات من بعد سيكفيها عن التدخل المباشر، وهذا أمر لا ضمان له في كل الأحوال.
رابعاً: إن الشعب الفلسطيني أدرك متأخراً أن وحدة الكلمة والصف لكل طوائفه العقائدية والسياسية هي نقطة بداية الانطلاق نحو الغايات المطلوبة للتحرر الوطني والدولة المستقلة والعاصمة في شرق القدس، وقد أدى اجتماع موسكو أخيراً بين قادة الفصائل إلى إدراك عميق لما يعتري القضية الفلسطينية في هذه الظروف التي تبدو حاكمة أمام كل الأطراف.
خامساً: إن إسرائيل حالياً في أضعف المراحل منذ نشأتها، فلقد أدركت شعوب العالم الكذبة الكبرى التي روجت لها إسرائيل، وهي أنها دولة عصرية حديثة تواجه طوفان الغضب الإرهابي من الجانب الآخر، وقد بدا واضحاً للجميع أن الفلسطينيين أصحاب حق، ولذلك فإن ساعة الفرج مقبلة، وسيبدأ النصر من غزة وتتوهم إسرائيل أنها تحقق انتصاراً بالآلة العسكرية الحديثة التي تملكها ولا يحوز مثلها الفلسطينيون الذين تنكر لهم كثر، وزايد عليهم كثر أيضاً.
وستبقى دول الجوار، خصوصاً إيران وتركيا، دعامتين يجب أن تكونا إضافة إيجابية للوجود العربي، وليستا خصماً منه. إن مستقبل العلاقات العربية مع الفرس والترك تبدو الآن أكثر وضوحاً من أي وقت مضى، فالقضية الفلسطينية قضية عربية بالدرجة الأولى قبل أن تكون قضية إسلامية شرق أوسطية، وتتحمل الدول العربية العبء الأكبر في هذا الصراع الدامي بين أصحاب الأرض وبين المغتصبين القادمين من شتى بقاع الدنيا.