لم يكن متوقّعاً إعلان الرئيس الأميركي جو بايدن إقامة ميناء على ساحل غزّة، لاستقبال المساعدات الغذائية والإنسانية التي يحتاجها الأهالي هناك. وهي خطوةٌ جديدة، وسيكون لها ما بعدها بشأن الحرب الدائرة في قطاع غزّة، لكنها غامضة إلى حدٍّ بعيد. بل تبدو للوهلة الأولى كما لو كانت حرفاً لمسار الأزمة والتشويش على جوهرها الذي بدأ في الانكشاف أمام العالم. ومن ثم هناك ضرورة لفهمها ومحاولة تفسير ما وراءها من أهداف ونوايا أميركية.
وفقاً لما قاله بايدن، هدف الميناء تسهيل وصول المساعدات وتسريع وتيرتها. وذلك بنقل المساعدات جواً إلى قبرص، ثم منها إلى غزّة بحرياً عبر مياه المتوسط، وهو أمرٌ يستغرق وقتاً وجهداً ويتطلب معالجة تعقيدات لوجستية واحتياطات أمنية كثيرة. بينما إدخال المساعدات عبر معبر رفح أو حتى من خلال معبر كرم أبوسالم يعني أن الوقت والجهد ومدى التعقيد يساوي ببساطة: صفر.
قد يجادل بعضُهم بأن تعنّت إسرائيل السبب الأساس في تحجيم المساعدات المارّة عبر معبر رفح. وبالتالي، لا يمكن التعويل عليه ممرّاً آمناً للمساعدات نحو القطاع. لكن هذا يثير تساؤلاً منطقياً بشأن موقف إسرائيل من فكرة نقل المساعدات عبر الميناء المزمع إنشاؤه. والحاصل أن إسرائيل وافقت بالفعل على فكرة بايدن إقامة ميناء على شاطئ غزة. فهل يعني ذلك ترحيبها بتمرير المساعدات من حيث المبدأ، أم أن القبول مقصورٌ فقط على الميناء الذي ستُنشئه واشنطن؟ لو كانت موافقة إسرائيل مبدئية، لما كانت هناك حاجة لعمليات الإسقاط الجوي للمساعدات، والتي شاركت فيها واشنطن.
وهنا يقفز إلى الذهن تطوّرٌ يتعلق بدوافع واشنطن لتبنّي تلك الفكرة، فهناك ما يمكن اعتباره تحوّلاً جزئياً أو ظاهرياً في الموقف الأميركي من مأساة غزّة، فقد كانت واشنطن دائماً تعطي تصريحاً مفتوحاً ومطلقاً لتل أبيب بالمضي في عملياتها العسكرية ضد الفلسطينيين، خصوصاً حين يتعلق الأمر بضرب غزّة أو اجتياحها. بما يعنيه ذلك من استهداف وتقويض لقوة (ونفوذ) حركة حماس وغيرها من الفصائل الفلسطينية المسلحة. وهذا أيضاً هو الموقف الأميركي الثابت في هذه الحرب الدائرة منذ خمسة أشهر. ثم جاء حدث انتحار الطيار الأميركي الذي أحرق نفسه أمام السفارة الإسرائيلية في اشنطن، ليضع إدارة بايدن في حرج داخلي، بينما هو والحزب الديمقراطي في أوج حملة انتخابات رئاسية صعبة أمام الجمهوريين ودونالد ترامب الذي يجيد استغلال تلك المواقف في خطاباته الانتخابية اللاذعة.
بالطبع، لن تغيّر واشنطن سياستها الراسخة عقوداً في دعم إسرائيل بالمطلق، فهي لم توقف دعمها تل أبيب عسكرياً واقتصادياً وسياسياً ولو يوماً واحداً منذ 7 أكتوبر. وأقصى ما وصلت إليه لتجميل موقفها المنحاز مطالبة إسرائيل بقدر من العقلانية والانتقائية في استخدام السلاح الأميركي.
لا يقدّم كل ما سبق تفسيراً واضحاً لفكرة إقامة ميناء أميركي في غزّة، بل ربما زاد الموقف غموضاً. وبالتالي، كل الاحتمالات قائمة. ولعل أرجحها أن هذا الميناء الجديد قد يكون “مسمار جحا” الذي يبرّر وجوداً عسكرياً أميركياً وربما تدخّلاً مباشراً عند اللزوم. كما سيعطي ذريعة لواشنطن وتل أبيب لفرض منع نهائي لتمرير أي مساعداتٍ عبر معبر رفح أو أي طريق آخر. ومن ثم، سيكون ذلك الميناء أداة ضغط مباشر على حركة حماس والفصائل الفلسطينية، وربما مدخلاً لوجود عسكري مباشر، أميركي أو غير أميركي، بغرض ضبط الوضع في القطاع على قياس مصالح تل أبيب وأهدافها. وليصبح الميناء ذريعة لتكريس الاحتلال الإسرائيلي وسيطرته على القطاع، وربما تعزيزه باحتلالاتٍ أخرى.