بدأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في السابع من مايو/أيار الحالي ولاية رئاسية خامسة على وقع مواجهة نظامه العديد من التحديات الداخلية والخارجية، التي انبثقت عن الحكم الفردي، وأخطاء حسابات الحرب على أوكرانيا، التي جرّت على موسكو حصاراً غربياً من أجل عزلها، وتحجيم دورها. وبدأت ولاية رئاسية خامسة لبوتين بعد شهرين تقريباً على إعادة انتخابه في غياب مرشحين معارضين، في 17 مارس/آذار الماضي، لولاية جديدة حتى عام 2030 في الأقل. ومن أجل تجاوز العقبات القانونية، قام فلاديمير بوتين في عام 2020 بتعديل الدستور، من أجل البقاء في السلطة ولايتين إضافيتين كل منهما من ست سنوات، أي حتى عام 2036.
فلاديمير بوتين الذي احتفل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي بعيد ميلاده الـ71، تسلّم حكم روسيا منذ نحو ربع قرن، من دون منافس على الكرسي أو سلطة القرار، لكن هذا الصعود الذي لم يواجه صعوبات فعلية بات ثقيل الأحمال بعد بدء غزو أوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022. قبل اجتياح الدبابات الروسية حدود أوكرانيا، أقام بوتين احتفالات أظهرته قائداً ناجحاً، وعكست طموحه الكبير من أجل “روسيا قوية”، لكن هذه المظاهر أصابها الخمول، بعد أن بات في شبه عزلة على المستوى الدولي، وسط شائعات كثيرة عن علاجه من السرطان. وأفادت تقارير غربية بأنه زار أخصائي أمراض سرطانية خلال أربع سنوات 35 مرة على الأقل. وذكرت صحف غربية أنه لجأ إلى الاستحمام بدم قرون أيائل الرنة الصغيرة، وهو علاج عرّفه عليه وزير دفاعه سيرغي شويغو الذي أقاله بوتين أمس من منصبه وعينه أميناً عاماً جديداً لمجلس الأمن القومي خلفاً لنيكولاي باتروشيف، فيما اقترح بوتين تعيين الاقتصادي أندريه بيلاوسوف ليحل محل شويغو، وفقاً لقائمة الترشيحات الوزارية التي نشرها مجلس الاتحاد، الغرفة العليا في البرلمان الروسي.
أكبر صدمة تلقاها فلاديمير بوتين خلال حياته هي فشل القوات الروسية في أوكرانيا
بدا خلال احتفال التتويج، الثلاثاء الماضي، أن هناك القليل من الأبهة في الكرملين. وعلى الرغم من أن العادات والطقوس لم تتغير، إلا أنها خلت من الفرح والفخر الذي حرص فلاديمير بوتين، خلال العهود الماضية، على إضفائه على عصره، وتعبيراً عن حال الأزمة الكبير، قال إن “روسيا ستخرج أقوى من هذه المرحلة الصعبة”. هناك مظهران بارزان في صورة الحفل الذي جرى في الكرملين. الأول هو المسافة الواضحة بين الحضور والرئيس، المسكون باعتقاد أن الشعب الروسي “يجب أن يحب زعيمه، ويثق به من دون قيد أو شرط”.، وثمة من عزا ذلك إلى تداعيات الحرب على أوكرانيا، المخيمة على الأجواء، والتي خلّفت أكثر من هزة عميقة على نظامه الممسوك بعناية شديدة منذ عام 2000. ومن دون شك، فإن أكبر صدمة تلقاها الرئيس الروسي خلال حياته هي فشل القوات الروسية في أوكرانيا، وحالة الفوضى، وظهور ردود فعل غاضبة على ذلك، ومن بعدها فرار عشرات الآلاف من الروس مخافة التجنيد، ثم تمرد زعيم قوات فاغنر يفغيني بريغوجين، الذي سار في اتجاه موسكو في يونيو/حزيران 2023. وقد أوحى ذلك بأن فلاديمير بوتين غير حاسم بشكل متزايد، وغير قادر على فرض سلطته.
فلاديمير بوتين والولاية الرئاسية الخامسة
وتركت تلك الأزمة انطباعاً بأن فلاديمير بوتين مرتبك، وبات معزولاً ومنفصلاً عن الواقع، ولم يعد يثق بأحد بما في ذلك صديقه المقرب شويغو. وساد الاعتقاد أن لا أحد يعرف ما الذي سيفعله بوتين لأنه غالباً ما لا يعرف ذلك بنفسه. ونقلت وسائل إعلام غربية أن بوتين، الذي كان في السابق مستمعاً لمستشاريه، بات يتخذ الآن القرارات بمفرده تماماً، وغالباً ما فشل المسؤولون الروس في تقدير نواياه مثل بقية العالم. المظهر الثاني البارز هو غياب الحضور الغربي عن حفل التتويج، للمرة الأولى منذ وصول فلاديمير بوتين إلى أعلى الهرم في قمة السلطة في عام 2000. لخّص هذا الأمر مدى العزلة الدبلوماسية والحصار الغربي المفروض عليه، مشّكلاً خسارة كبيرة بالنسبة إلى محيط بوتين المكون من فئة من رجال الأعمال تناغمت خلال عهده، وباتت قوية وتمتلك ثروات كبيرة، وهي على صلات متينة بالولايات المتحدة وأوروبا. وكان لافتاً أن أول زيارة لبوتين في ولايته الرئاسية الخامسة كانت إلى الصين، المعزولة بدورها، لكنها سعت لمواجهتها في الآونة الأخيرة من خلال الانفتاح على الولايات المتحدة وفرنسا. غير أن جولة الرئيس الصيني الأخيرة شي جين بينغ إلى أوروبا كشفت مدى صعوبة ذلك، فلم تستقبله سوى فرنسا من بين دول أوروبا الغربية.
وبدا للمرة الأولى أن نظام فلاديمير بوتين عالق في أزمة متعددة الأطراف في الداخل والخارج، سببها الحرب على أوكرانيا، التي ظهرت آثارها بقوة على نظامه، تحديداً في ظل العجز عن الحسم العسكري أو تحقيق انتصارات كبيرة ذات طبيعة استراتيجية، كما حصل عام 2014 عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية. وتكبدت روسيا خسائر في أوكرانيا، مع تحول الحرب إلى حالة من الاستنزاف والكر والفر، وسط تهديدات باللجوء إلى الخيار النووي، وحديث بعض دول أوروبا، ومنها فرنسا، عن إمكانية إرسال قوات عسكرية للقتال إلى جانب اوكرانيا ضد الجيش الروسي. وعلى الرغم من تأكيد باريس أن تهديداتها لم تُترجم بعد، غير أن موسكو جزمت أن وحدة من الفيلق الأجنبي بقيادة شخص فرنسي أُرسلت للقتال إلى جانب القوات الأوكرانية.
وكشفت موسكو أن باريس نشرت رجالاً “لدعم اللواء الميكانيكي الأوكراني المستقل رقم 54 في سلوفيانسك”، وحددت أن الجنود تابعون إلى “فوج المشاة الثالث” في الفيلق الأجنبي. لكن المؤشر الخطر في هذه الحرب هو إعلان فلاديمير بوتين عن إجراء تدريبات نووية قرب أوكرانيا، وذلك بعد وقت قصير من اتهامات وزارة الخارجية الأميركية موسكو بأنها استخدمت “سلاحاً كيميائياً”، هو غاز الكلوروبكرين، ضد القوات الأوكرانية، في انتهاك لاتفاقية حظر استحداث وإنتاج وتخزين واستعمال الأسلحة الكيماوية التي دخلت حيز التنفيذ في عام 1997 ووقعتها روسيا وصادقت عليها. ومن المعروف أنه جرى استخدام هذه المادة بشكل واسع خلال الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918). وفي حال تأكدت الاتهامات، فإن ذلك يثير المخاوف من انتقال الحرب إلى مرحلة جديدة أكثر تدميراً.
إشارة فلاديمير بوتين إلى “حماية حقوق الإنسان” اعتراف صريح منه بتفاقم الوضع الداخلي بقوة ضده
تنامي المعارضة الروسية
أحد مظاهر الأزمة الكبرى في الداخل التي لاحظها مراقبون برزت في أنها المرة الأولى التي وردت فيها عبارة “حماية حقوق الإنسان والمواطن وحرياته” في القسم الرئاسي. وما كان فلاديمير بوتين لينطق هذه الجملة لو لم تكن هناك معارضة متنامية ضده في الداخل، بدءاً من التعامل مع المعارض الروسي أليكسي نافالني، الذي سُجن في سيبيريا، وأعلنت السلطات الروسية وفاته هناك في 16 فبراير/شباط الماضي. ولاحظت وسائل الإعلام الغربية أن إشارة بوتين إلى “حماية حقوق الإنسان والمواطن وحرياته” اعتراف صريح منه بتفاقم الوضع الداخلي بقوة ضده، مع ابتعاد الشارع عنه، بعد سنوات من تحوله إلى رمز لبناء روسيا متطورة اقتصادياً، ومنافسة بقوة للغرب. وصل الموقف إلى هذه الحالة بسبب الحصار والعقوبات الغربية، وفي احتفال فلاديمير بوتين ببدء ولاية رئاسية خامسة، تبيّن أنه ليس هناك أصدقاء وشركاء تجاريون وسياسيون لروسيا سوى الصين وإيران وتركيا. وعملت روسيا من خلال التبادل التجاري مع هذه البلدان من أجل تجاوز الحصار الغربي المفروض عليها، وقد ارتفع التبادل مع الصين الى مستويات قياسية خلال العام الماضي، وبلغ 240 مليار دولار. لكن ذلك لم يعوض الخسارة التي تعرضت لها من وقف تبادلها مع أوروبا على وجه الخصوص، الذي كان سائراً باتجاه بناء شراكة اقتصادية استراتيجية، وهي الشراكة التي عملت الولايات المتحدة ضدها، وعُدّ الأمر، إلى حد ما، أحد خلفيات تطور النزاع في أوكرانيا إلى الحرب.
أزمة أخرى برزت في روسيا، متعلقة بتراجع حضورها ودورها على المستوى الدولي، إذ لم تبدُ الدبلوماسية الروسية باهتة وفقيرة مثل ما ظهرت عليه خلال العام الماضي. وكشفت حرب إسرائيل على غزة عن تراجع دور روسيا وفقدانها حس المبادرة، والتصرف على عكس ما قامت به بصفتها دولة عظمى، من خلال التمترس وراء سياسة تخريب الحلول، لا العمل على قيادتها أو الإسهام فيها. وتجلى ذلك على نحو أوضح من خلال تورط روسيا في عدة نزاعات في سورية وليبيا والسودان وبلدان أفريقية. وبدت السياسة الروسية قادرة على تعطيل كل حل ممكن لأي أزمة من هذه الأزمات، لكن ليس في وسعها إيجاد حل على طريقتها الخاصة. كما أن هناك موقفاً لافتاً مرتبطاً بدور روسيا في سورية، وموقفها من الهجمات الإسرائيلية المتواصلة على الأراضي السورية. وعلى الرغم من احتفاظها بحضور عسكري مهم في سورية، والإدعاء أنها موجودة من أجل وحدة سورية، إلا أن روسيا عملت على محاباة إسرائيل وإيران وتركيا، بما لبّى مصالحها الخاصة، ولم يفد سورية في تجاوز وضعها الصعب.