بوادر تهدئة إقليمية وتسوية سورية

بوادر تهدئة إقليمية وتسوية سورية

670

الاقتراب من نهاية شىء أو مرحلة وبدء شىء آخر أو مرحلة أخرى غالبا ما يسبقه شعور بحاجة إلى الترقب. خلال الأيام الماضية، أيام الانتقال من عام إلى عام آخر، عشنا من جديد الشعور بهذه الحاجة، تماما كما عشنا مثيلاتها فى نفس الأيام من سنوات سابقة. عشنا نتوقع التغيير، وبمعنى أدق عاش بعضنا المتفائل عادة ينتظر التغيير، وعاش البعض الآخر المتشائم غالبا، يتوقعه. كثير من الناس قضوا الأيام القليلة الماضية فى انتظار عام جديد بأمل أن يختلف جذريا عن العام المنقضى. عام جديد مفعم بالسلام والهدوء والاستقرار وحامل لآمال الرخاء والحرية. آخرون وهم أيضا كثيرون، قضوها متوقعين عاما لا يختلف فى أشياء كثيرة عن العام المنقضى إلا ربما فى درجة التدهور الذى ألفوه وسرعته.
صحيح أنه لم يحدث تطور محورى ينبئ بكل الثقة عن طبيعة العام المقبل ودرجة التغيير ووجهاته، ولكن ظهرت بوادر كادت تأخذ شكل المؤشرات على أن العالم فى مجمله، والشرق الأوسط تحديدا، قد تمكن منه الخوف وصار يطلب بعض الهدوء، هدوء قابل لأن يتطور فيصبح سلاما طويلا أو هدنة يسكن فيها المتنازعون والمتقاتلون قليلا ويتدبرون خلالها أمر مستقبلهم قبل أن يتخذوا قرار استئناف ما كانوا يفعلون أو العدول نهائيا عنه.
***
جمعتنى وأصدقاء من مصر وجوارها العربى جلسة نقاش خصصناها لحصر أهم تطورات المرحلة الماضية ومحاولة الربط بينها واستخلاص مؤشرات من تلازمها أو تلاحقها. بدأنا بنبأ مفاجئ عن زيارة يقوم بها السيد مورى رئيس وزراء الهند إلى لاهور، حيث المقر الخاص للسيد نواز شريف رئيس وزراء باكستان، خصمان لدوران يقودان أحد أقدم النزاعات الدولية ويتبادلان رسائل العنف والتدمير ويفخران بتشددهما الدينى والعرقى ويجهران بالكراهية المتبادلة. فجأة رأينا أحدهما يقفز فوق كل حدود الكره والتوتر ليلتقى الآخر.
هنا فى مصر، رصدنا تصاعد القلق الشعبى على مصير النهر شريان حياتهم مع كل زيادة فى ارتفاع السد الذى تشيده إثيوبيا لحجز مياه فيضاناتها عن الوصول إلى مجرى النهر الرئيسى فى السودان ومصر. الزيادة فى الارتفاع مستمرة، والزيادة فى القلق الشعبى متصاعدة، لا جديد فيهما، الجديد هو فى سياسة التهدئة التى تنتهجها وتروج لها حكومتا مصر وإثيوبيا. هناك نية مؤكدة لدى السلطتين الحاكمتين بالتهدئة والترويج لحلول تفاوضية وعدم توسيع رقعة النزاع سواء بقى النزاع فى سياقه الثنائى والثلاثى أو امتد إلى سياق أفريقى.
لفت نظرنا أيضا أن أطراف الصراع فى اليمن مالت أخيرا فى اتجاه التفاوض وتغليبه على اتجاهات تصعيد الحرب، لم نتوقف كثيرا فى النقاش عند دور الوسيط الدولى والضغوط الخارجية ومستويات نصر أو هزيمة هذا الفريق أو ذاك، إنما تركز اهتمامنا على حقيقة أن أكثر من طرف فى الحرب صار يميل نحو حدة أقل ودرجة أعلى من التفاوض المباشر. لم يكن خافيا علينا أننا كمجموعة نقاش وتحليل، تأثرنا فى نقاشنا حول حرب اليمن بمعلومات تدفقت نحونا عن قرار إيرانى بالتهدئة صادر من أعلى مستوى، يشمل جميع أنشطة إيران الدولية والإقليمية. نعرف بالتأكيد أن هذه السياسة يجرى تطبيقها فى العراق بذكاء وحنكة، وفى إطار تعاونى مع أنشطة أمريكية جارية هناك. نعرف أيضا، أو نشعر، أن هذه التهدئة امتدت إلى لبنان، حيث كان يمكن أن تؤدى بعض خطوات إسرائيل الاستباقية فى سوريا أو غيرها إلى ردود فعل غاضبة من حزب الله. على العكس جاءت الردود هادئة وفاجأت عديد الناس فى لبنان وخارجها وبدورها دفعت أطرافا أخرى فى لبنان إلى الاستمرار فى سلوك طريق التهدئة فى تفاعلاتها الداخلية.
***
فجأة وبدون مقدمات أقدمت تركيا على مغامرة عسكرية فى العراق بغزو جزء من أراضيه فى الشمال، كان عملا خارج السياق وبقى مجهول الدوافع لفترة طويلة. باستثناء هذا الإجراء أقدمت تركيا على ما فسرته تحليلات خارجية بأنه يعكس سياسة تهدئة عامة فى عدد من قطاعات العمل الإقليمى والدولى لتركيا، كان التقارب مع إسرائيل دليلا قويا على ان التهدئة قرار استراتيجى لحكومة أنقرة وليس قرارا تكتيكيا. بدا لنا أيضا أنه سيكون من الصعب، على المستوى التحليلى على الأقل، فصل التطورات الأخيرة فى العلاقات التركية مع ألمانيا بخاصة والاتحاد الأوروبى عامة وتعقيدات مسألة الهجرة السورية إلى أوروبا، عن سياسات التهدئة التى بدأت تمارسها تركيا فى المنطقة.
بل أننا حين راجعنا بعض الأنباء عن غموص يكتنف موقف حكومة أردوغان من جماعة الإخوان المسلمين وجدنا ملامح تغيير ليس فقط فى أساليب التعاون ولكن أيضا فى سياسات الدعم اللا محدود. لاحظ كذلك أقران لنا اختلافا فى لغة الدبلوماسية التركية، وبدرجة أقل فى لغة الإعلام الرسمى التركى، فى التعامل مع حكومة القاهرة. هنا تبدو مهمة تصريحات سعودية صدرت فى الآونة الأخيرة تلمح إلى تقارب قريب بين القاهرة من ناحية وكل من أنقرة والدوحة من ناحية أخرى. العامل المشترك فى هذا النزاع، هو الإخوان المسلمون وموقف العاصمتين من توظيف التيارات الاسلامية المتشددة ولا شىء آخر.
***
لم يغب عن بال مجلسنا للنقاش هذا الصخب الدائر حول تغييرات هيكلية وأيديولوجية محتملة فى جماعة الإخوان المسلمين المصرية وحزب النهضة التونسى، نتيجة ما قيل عن جهود وتدخلات «إصلاحية» قوية قد تؤدى فى النهاية إلى «أجواء تهدئة» تشمل جميع توجهات الإخوان المسلمين سواء فى تنظيمهم الدولى أم فى تنظيماتهم الإقليمية. سمعنا كثيرين يرددون الرغبة فى حث الإخوان المسلمين على سلوك مسالك التهدئة. سمعنا فى دوائر السلطة الأمريكية ومن أفراد قريبين من وكالات استخباراتية ومراكز بحثية، وسمعناها تتردد فى أجهزة إعلامية وسياسية فى باريس ولندن وواشنطن وعواصم خليجية، الآن صارت دعاوى التهدئة الإخوانية وإعادة ترتيب بيوت الإخوان من الداخل سرا معلنا ومتداولا.
* * *
ليس خافيا الأمل العائد إلى نفوس عدد من القادة والزعماء الليبيين. هؤلاء يشعرون وربما للمرة الأولى منذ أربع سنوات أو أكثر بأن طاقة أمل طال انتظارها قد انفتحت، وان جهدا دوليا هادئا يسعى للتقريب بين مختلف فصائل الأزمة الليبية. الهدف معلن وصريح وهو وقف التدهور المتسارع الذى يصب فى مصلحة قوى إرهابية تستعد لتجتمع فى ليبيا. صار من المؤكد أن تركيا وحدها لن تتمكن من وقف هجرة الملايين القادمة من سوريا وما وراءها. المؤكد أيضا أن الفوضى فى ليبيا، ان استمرت، لن تفلت من شرها دولة أوروبية واحدة، فضلا عن مصر أو تونس أو أفريقيا ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟جنوب الصحراء.
* * *
التهدئة جارية ومسيرتها انطلقت حسب الشواهد غير القليلة التى جرى رصدها ولا يتسع المجال هنا لذكرها، كان كافيا لتأكيد تحليلاتنا الاستقبال البارد من جانب دول إسلامية لها مكانتها لمبادرة إقامة حلف إسلامى استبعد خطأ عضوية إيران، الدولة الإقليمية الصاعدة نفوذا دوليا وإقليميا، الأمر الذى استدعى حملة الردود السلبية، فكانت بمثابة رسالة مهمة توحى بأن غالبية الدول الإسلامية، كغيرها من دول آسيا وأفريقيا، تعبت وانهكت قواها خلال مرحلة تخيلها الكثيرون ضرورية من الناحية الجيواستراتيجية لبناء توازن قوى عالمى وتوازنات إقليمية جديدة، فإذا بهذه الجهود تنتهى سباقات طوائف ومذاهب وتهدد الشرق الأوسط بأسره، بالهلاك والخراب.
فى اعتقادنا أن الرسالة الجديدة الداعية إلى تهدئة تمهد لتسوية سياسية فى سوريا تقع اقتناعا أو تحت القسر. لا أمل بدون التسوية السياسية فى سوريا فى استقرار دولى أو إقليمى.. وفى ظننا ان مسيرة التهدئة انطلقت فعلا وحققت انجازات رغم المقاومة العنيفة من جانب القوى ذات المصلحة فى إبقاء وإذكاء نيران التشدد الدينى. وفى ظننا أيضا أن تفاهمات روسية أمريكية أثبتت فى هذا المجال كفاءة أكبر من تفاهمات سابقة أمريكية أوروبية أو أمريكية عربية.
نأمل أن تكون مصر تجاوزت مرحلة الاستغراق فى عالم المؤامرات الدولية وخرجت إلى عالم الحقيقة حيث تبذل الجهود لإنقاذ العالم من كارثة يتسبب فيها الشرق الأوسط.

اقتباس
فى اعتقادنا أن الرسالة الجديدة الداعية إلى تهدئة تمهد لتسوية سياسية فى سوريا تقع اقتناعا أو تحت القسر.

جميل مطر

صحيفة الشروق المصرية