المحافظون الجدد يعترضون على الديمقراطية السورية

المحافظون الجدد يعترضون على الديمقراطية السورية

ee2b3e626e25410596384951dd2cc547

أغضب الرئيس باراك أوباما المحافظين الجدد الرسميين في واشنطن بقبوله بالموقف الروسي الداعي إلى أن يختار الشعب السوري قادته المستقبليين من خلال الانتخابات، وليس عبر إصرار المحافظين الجدد على “تغيير النظام” المفروض من الخارج.
*   *   *
يشعر مجلس التحرير في صحيفة “الواشنطن بوست” بالحنق لأنه يبدو أن الرئيس أوباما قد قبل بالموقف الروسي القائل إنه يجب على الشعب السوري أن يقرر بنفسه من هم الذين يجب أن يكونوا قادته المستقبليين وحيث تفضل البوست -كما يبدو- أن يكون الاختيار من وحي المؤسسات الفكرية التابعة للمحافظين الجدد في واشنطن، أو أي جهات خارجية أخرى.
ولذلك، وفي مقال افتتاحي غاضب نشر مؤخراً، وبخت “الواشنطن بوست” وزير الخارجية الأميركية، جون كيري، لقوله -بعد اجتماعه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو- إن إدارة أوباما وروسيا تنظران إلى الحل السياسي في سورية “بالطريقة نفسها من حيث الجوهر”، وهو ما يعني أن بإمكان الرئيس بشار الأسد ترشيح نفسه للانتخابات الرئاسية في المستقبل.
وكتبت البوست: “لسوء الطالع، يبدو أن ذلك يصبح واقع الحال باطراد -وليس لأن السيد بوتين قد غير موقفه. وعلى مدى أربعة أعوام، طالب الرئيس أوباما بمغادرة السيد الأسد، الذي قتل مئات الآلاف من أبناء شعبه بالأسلحة الكيميائية، وبالبراميل المتفجرة، وبالتعذيب والأعمال البشعة الأخرى. ومع ذلك، وبسبب تحمسها للتوصل إلى تفاهمات مع السيد بوتين، تظل إدارة أوباما تتراجع ببطء عن ذلك الموقف”.
الموقف الروسي، الذي يبدو أن أوباما قد قبل به في نهاية المطاف، هو أنه يجب السماح للشعب السوري بأن يختار قادته من خلال انتخابات نزيهة ومعترف بها دولياً، بدلاً من أن تفرض قوى خارجية رؤيتها حول من يستطيع ومن لا يستطيع التنافس في عملية ديمقراطية. وكان موقف أوباما في السابق يقوم على وجوب منع الأسد من خوض الانتخابات.
لكن ذلك عنى استمرار سفك الدم السوري وما ينجم عنه من فوضى عارمة -والذي أخذ يمتد راهناً عبر أوروبا وإلى داخل العملية السياسية الأميركية- إلى أجل غير مسمى، بينما اتخذت الولايات المتحدة الموقف المثير للتساؤل بمعارضة الديمقراطية لصالح إصرار على أن “الأسد يجب أن يذهب” -المطلب المفضل لدى المحافظين الأميركيين الجدد والتدخليين الليبراليين وإسرائيل و”الحلفاء” السنيين في المنطقة.
على نحو يعكر صفو محرري البوست، خضع أوباما في النهاية للموقف الأكثر قابلية للدفاع عنه ديمقراطياً، والذي يقول إن على الشعب السوري اختيار قادته. وبعد كل شيء، وإذا كان أوباما محقاً في تقدير حجم كراهية الشعب السوري للأسد، فإن الانتخابات ستمكنهم من تنفيذ خطتهم لـ”تغيير النظام” من خلال صندوق الاقتراع. لكن هذه المحصلة غير اليقينية ليست ما يريده محررو الواشنطن بوست. إنهم يريدون نتيجة مقررة سلفاً -طرد الأسد- بغض النظر عن رغبات الشعب السوري.
فيما يتعلق بالمقال الافتتاحي، تجب أيضاً ملاحظة الإشارة إلى قتل الأسد “لشعبه بالأسلحة الكيميائية”، في إشارة واضحة إلى الادعاء غير الموثوق الآن -وإنما الذي ما يزال مقبولاً على نطاق عريض (داخل واشنطن الرسمية على الأقل) بأن الأسد كان وراء هجوم بغاز الأعصاب “السالين” المميت خارج دمشق يوم 21 آب (أغسطس) من العام 2013.
حتى هذا اليوم، لم تقدم الحكومة الأميركية (أو الواشنطن بوست، إذا كان ذلك يهم) أي دليل قابل للتحقق منه يدعم الزعم بأن الأسد فعل ذلك، لكنه أصبح بالرغم من ذلك “فكر مجموعة”، والذي يعتقد الجميع أنه صحيح استناداً إلى تكرار لا ينتهي، تماماً مثلما استنتجت واشنطن الرسمية أنها كانت لدى صدام حسين مخزونات من أسلحة الدمار الشامل، استناداً إلى الاستمرار في إعلان ذلك كحقيقة واضحة جانب الكثير من الناس المهمين، بمن فيهم كتاب المقالات الافتتاحية في “الواشنطن بوست”.
يبدو أن نظرية المعرفة لدى واشنطن تقول إنه إذا كان هناك ما يكفي من الناس المهمين الذين يقولون عن شيء ما إنه صحيح، فإن هذا الشيء يصبح عند ذلك صحيحاً، بغض النظر عن الوجهة التي تقود إليها الحجة.
غضب منافق
ثمة أجزاء أخرى من هجمات البوست المثيرة للشك بالمقدار نفسه، هي أن محرري البوست -الذين كانوا يؤيدون قصف “الصدمة والرعب” للعراق، ولم يفكروا في تقاسم اللوم عن مئات الآلاف من العراقيين الذين قتلوا نتيجة لغزو جورج دبليو بوش الذي صادقت عليه الواشنطن بوست- غاضبون الآن بسبب “قنابل البراميل المتفجرة” السورية المصنوعة محلياً، ويلومون الأسد ويحملونه مسؤولية كل الوفيات، حتى على الرغم من أن العديد من الموتى كانوا جنوداً سوريين قتلهم إسلاميون جهاديون قام بتسليحهم وتمويلهم “حلفاء” الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط.
وبالمناسبة، فإن بعض التعذيب الذي ينحى على سورية باللائمة في ارتكابه كان قد نفذ بالتنسيق مع برنامج إدارة بوش المسمى “التسليم الاستثنائي” للسجناء، كجزء من “الحرب العالمية على الإرهاب”. وعلى سبيل المثال، هناك المواطن الكندي ماهر عرار، الذي كانت الحكومة الأميركية قد ألقت القبض عليه في مطار كنيدي الدولي في نيويورك في شهر أيلول (سبتمبر) من العام 2002، بينما كان في طريق العودة إلى وطنه كندا، ثم قامت بشحنه إلى سورية كعضو مشتبه به في تنظيم القاعدة. وتم تعذيب عرار في سورية قبل أن تبرأ ساحته من جانب كل من سورية وكندا على حد سواء، وفق تحقيق كندي أجري في وقت لاحق.
ولكن، مهلاً، إنك لا تتوقع أن يعطيك محررو “الواشنطن بوست” من المحافظين الجدد أي سياق نزيه، أليس كذلك؟
الموضوع الأكثر مباشرة هو غضب “الواشنطن بوست” من احتمال السماح للشعب السوري بالاقتراع على مستقبل الأسد بدلاً من إملائه عليهم من جانب المؤسسات الفكرية التابعة للمحافظين الجدد والثوار الجهاديين الإسلاميين وداعميهم من الدول الإقليمية والإسرائيليين والمخابرات المركزية الأميركية.
كتب محررو البوست في افتتاحيتهم المذكورة: “يوم الثلاثاء في موسكو، اتخذ السيد كيري خطوة كبيرة أخرى إلى الوراء، فقال: إن الولايات المتحدة وشركاءنا لا نسعى إلى ما يدعى تغيير النظام، وأضاف أن مطلب جبهة المعارضة الواسعة بتنحي السيد الأسد فوراً يعد “موقفاً لا يشكل بداية”، لأن الولايات المتحدة وافقت أصلاً على أن بإمكان السيد الأسد البقاء -على الأقل لأول بضعة شهور من “عملية انتقالية””.
وكتب محررو البوست الغاضبون أيضاً: “يتفق كيري الآن مع السيد بوتين على أن القيادة المستقبلية للبلد يجب أن تترك للسوريين ليبتوا في أمرها”. نعم، اقرأ ذلك بشكل صحيح.
ومع أن البوست تنبأت صباح الجمعة بأن فكرة السماح للشعب السوري بأن يقرر من سيكون قادته المستقبليون هي أشبه ما تكون بـ”وصفة مرجحة للجمود”، فإن مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة صوت في وقت لاحق من يوم الجمعة بالإجماع لصالح خريطة طريق تهدف إلى وقف لإطلاق النار في سورية، وإجراء مفاوضات لتشكيل حكومة انتقالية، ولعقد انتخابات خلال 18 شهراً من بدء المحادثات.
ولا تشير تلك الاتفاقية من قريب ولا من بعيد إلى ما إذا سيكون أو لا يكون بإمكان الأسد الترشح لانتخابات تنظمها الأمم المتحدة، ما يعني كما يبدو أنه سيكون قادراً على المشاركة -وهي بالتأكيد خيبة أمل إضافية لمحرري البوست.
العديد من العوائق
من الواضح تماماً أن خطة الأمم المتحدة هذه تواجه العديد من العوائق، وخاصة الإصرار المستمر على “تغيير النظام” من جانب بعض الحكومات الإقليمية التي يقودها سنيون، والتي تزدري الأسد، العلوي، التابع للإسلام الشيعي. وما يزيد من إدانة الأسد في عيونهم أنه يسعى إلى الحفاظ على حكومة علمانية تحمي المسيحيين والعلويين والشيعة وأقليات أخرى.
وفي الأثناء، ما يزال قادة تلك الدول في المنطقة من بين الذين يدعمون الجهاديين السنة العنيفين، بما في ذلك “أحرار الشام” و”جبهة النصرة” التابعة لتنظيم القاعدة، والتي تعمل تحت مظلة خارجية الدعم تدعى “جيش الغزو”، الذي تلقى المئات من صواريخ “تاو” المطورة المصنعة في الولايات المتحدة، والتي أثبتت فعاليتها في قتل جنود الحكومة السورية. كما قدمت إسرائيل من جهتها بعض الدعم لهؤلاء الجهاديين العاملين على طول مرتفعات الجولان السورية المحتلة.
بينما تنفي تركيا؛ الدولة العضو في حلف شمال الأطلسي أنها تساعد الإرهابيين، تورطت أجهزتها الاستخبارية في مساعدة ناشطي “جبهة النصرة” في تنفيذ هجوم غاز السارين خارج دمشق يوم 21 آب (أغسطس)، بهدف تحميل الأسد المسؤولية عنه وخداع أوباما لحمله على الأمر بشن سلسلة ضربات جوية كارثية ضد قوات الحكومة السورية. (انظر موقع Consortiumnews.com “هل كانت تركيا وراء هجوم غاز السارين في سورية؟”).
كما سمحت تركيا أيضاً لمجموعة الدولة الإسلامية “داعش” المفرطة في وحشيتها بالمرور من خلال 100 كيلومتر تقريباً من الطرق المسامية على الحدود السورية التركية، بما في ذلك مرور قوافل الشاحنات الضخمة من نفط “داعش” إلى داخل تركيا لإعادة بيعها، وهي حقيقة أثارها أوباما مؤخراً مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي لطالما وعد بإقفال الحدود لكنه لم يفعل.
وفي الوطن هنا، يواجه الرئيس أوباما أيضاً صعوبات سياسية من إسرائيل ومن حلف واشنطن الرسمي الذي يضم المحافظين الجدد وأنصار التدخل الليبراليين الذين جعلوا من طرد الأسد مسألة تثير اهتمام الرأي العام، على الرغم من التجارب الكارثية التي خلفتها الإطاحة بنظامين علمانيين في العراق وفي ليبيا.
في الماضي، كان أوباما حساساً جداً للانتقاد القادم من هذه المجموعة، بما في ذلك التعليقات السخيفة على صفحة المقالات في البوست. لكن حنق البوست الأخير يشير -في هذه اللحظة على الأقل- إلى أن أوباما يضع البراغماتية (أي الحاجة لوقف القتل السوري ودعم الأمن الكوني الذي يفضي إليه) قبل الرغبات الإيديولوجية للمحافظين الجدد/ والليبراليين- الصقور.

ترجمة:عبدالرحمن الحسيني

صحيفة الغد الأردنية