تتبع السياسة الإيرانية قواعد ثابتة ومتغيرة حسب الأوضاع والأحداث التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط وتنظر إليها ليس من باب الثوابت والتوجهات المعلنة وإنما تمارس ( البراغماتية) في معظم تعاملاتها بما يحقق لها حضورًا ميدانيًا وتأثيرًا واقعيًا في مجمل السياسات الدولية والإقليمية، وهذا ما متعارف عليه في السلوك السياسي الإيراني الذي يهدف في الأساس إلى تطويع الأحداث لتكون في سياق تنفيذ مشروعه في التمدد والنفوذ ضمن إطار نشر أفكاره ومبادئه القائمة على أساس ومرتكزات الفكرة السياسية للنظام الإيراني، وهو بذلك يسعى لإيجاد قواعد ومساحات من التحرك وتبادل المنافع والمصالح تساعده على تنفيذ أهدافه وغاياته في المنطقة.
اتبعت إيران في الأشهر الماضية وتحديدًا بعد الأحداث التي وقعت في الأراضي الفلسطينية وقطاع غزة وسعيها لتوظيف أي فرص سياسية تخدم مشروعها، توجهًا سياسيًا يتماشى والمعطيات التي بدأت تأخذ حيزًا كبيرًا من التفاعلات السياسية وتلقى بظلالها على المشهد العام في المنطقة العربية وعملت على إعادة تكوين علاقتها الإقليمية والعربية وفق سياسة تصفير المشاكل واتباع خطوات من التهدئة وعدم التصعيد والتي سبق لها وأن ابتدأتها مع أقطار الخليج العربي بتوقيعها اتفاقًا سياسيًا مع المملكة العربية السعودية في آذار 2023 وبرعاية صينية، وأخذت بالإتجاه نحو الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين، وفي الآونة الأخيرة امتدت سياستها لإعادة علاقتها مع جمهورية مصر العربية بعد انقطاع دام (45) سنة والتي مرت بتطورات كثيرة، فالنظام الإيراني انتهج سياسة العداء ضد القاهرة بعدما استقبلت شاه إيران السابق محمد رضا بهلوي سنة 1980 ثم الخطوة التي اقدمت عليها إيران بإطلاق اسم ( خالد الإسلامبولي) الذي قام اغتيال الرئيس محمد انور السادات في السادس من تشرين الأول 1981 على إحدى شوارع طهران الرئيسية، مما أدى إلى مزيد من التوتر في العلاقة بين البلدين.
ولكن العلاقات استمرت قائمة بين إيران ومصر على مستوى رعاية المصالح وتجري حاليًا مفاوضات لرفع مستوى العلاقات إلى مستوى تبادل السفراء ومن ثم الوصول إلى إعادة العلاقات والتعاون في المجالات الاقتصادية والتجارية، وهو الهدف الرئيسي الأول للبلدين، وتسعى إيران لتطوير العلاقة في المجالين الأمني والعسكري للموقع والثقل الميداني الذي تمثله مصر في منطقة الشرق الأوسط والانفتاح نحو بلدان شمال أفريقيا وتوسيع دائرة النفوذ السياسي الإيراني والاستفادة من إعادة العلاقة بالتنسيق السياسي في المنظمات الإقليمية والدولية.
إلا أن الحكومة المصرية لديها مؤشرات وحقائق وخشية من التوجهات الثقافية والأيديولوجية لإيران التي تنظر إليها بعين الريبة وترى فيها تهديد للأمن القومي المصري.
ولكن بعد التحرك الصيني الروسي تجاه إيران ودورهما في انضمامها لمنظمة ( بريكس) وهي تكتل إقتصادي عالمي من أهدافه كسر هيمنة الغرب وانهاء نظام القطب الواحد الذي تتزعمه أميركا، وذلك من خلال التركيز على تحسين الوضع الإقتصادي العالمي وإصلاح المؤسسات المالية، وكذلك مناقشة الكيفية التي يمكن بها للبلدان المنضوية فيها من التعاون فيما بينها على نحو أفضل في المستقبل، وتزامن دخول إيران مع انضمام مصر إلى المنظمة أيضًا وكان عاملًا اضافيًا في تحقيق التقارب المصري الإيراني.
ثم توالي الأحداث التي أدت إلى قيام الحوثيين في بداية تشرين ثاني 2023 بسلسة من الهجمات على السفن التجارية المتجهة إلى موانئ إسرائيل بدافع نصرة أهالي غزة وهذا ما أدى إلى استخدام طريق رأس الرجاء الصالح، بعد أن كانت قناة السويس تمثل 12٪ من حركة التجارة العالمية و30٪ من شحن الحاويات عالميًا وتدر لمصر عوائد مالية قدرت خلال سنة(2022-2023) ب(9) مليار دولار، ونتيجة لاستمرار عمليات الحوثيين فقد تأثرت المصالح الوطنية المصرية بانخفاض حصولها على العملة الصعبة بنسبة 50٪،
وبدلاً من أن تلحق هذه العمليات أضرارًا باقتصاد إسرائيل أو تشكل تهديداً ضدها فإنها سببت أذى لمصر.
هذه الاضطرابات دفعت مصر وإيران للتقارب أكثر بسبب الأزمات الاقتصادية والسياسية في العديد في الدول التي يشترك بها البلدان بمتابعة مصالحهما ومواقفها وخاصة في ( سوريا وليبيا والسودان)، ورغبة القاهرة بشراء
النفط الإيراني بأسعار منخفضة.
وتوجد بعض الجوانب الدينية المذهبية التي تعمل إيران على توظيفها بشكل فعال والحكومة المصرية على دراية بها ولكنها تشكل عاملًا مضافًا لأي عودة للعلاقات، منها أن تكون زيارة مزار الإمام علي الرضا ( على بن موسى بن جعفر) وشقيقته السيدة ( فاطمة) في مدينة قم من المناطق التي يرغب نحو مليونين من الشيعة في مصر بزيارتها.
ساهمت هذه التطورات في تعزيز الدور الدبلوماسي بين البلدين فكان اللقاء الذي جمع بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ووزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان في مؤتمر بغداد الثاني الذي عقد في العاصمة الأردنية ( عمان) بتاريخ 20 كانون الأول 2022، وتوالي اللقاءات مع وزيري خارجية البلدين في العديد من المؤتمرات الدولية والإقليمية أثرًا بالغًا في توسيع دائرة التفاهمات بين البلدين، وكان أخر لقاء جمع بين الرئيس المصري والإيراني في القمة العربية الإسلامية الاستثنائية بمدينة الرياض تشرين ثاني 2023.
وسبق وأن شهدت العلاقات تحسنًا ملحوظًا في عهد الرئيس السابق محمد مرسي، الذي كان أول رئيس مصري يزور طهران منذ عقود، لكنها كانت بغرض المشاركة في قمة مجلس التعاون الإسلامي، كما زار الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد القاهرة في نيسان 2013 وقوبل بحفاوة رسمية.
هناك ضغوط سياسية كبيرة مستمرة تتعرض لها القاهرة من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل لعدم اتخاذ اي خطوات نحو إعادة العلاقات مع إيران، وهي ليست وليدة الوضع الإقليمي الحالي بعد اندلاع المواجهة العسكرية في قطاع غزة والأراضي الفلسطينية، ونشرت صحيفة (يديعوت أحرونوت) الإسرائيلية في كانون الثاني 2024 تقريرًا تحت عنوان (تحذير… مصر وإيران تقتربان تحت ستار الحرب في غزة) محذرة تل أبيب من (التقارب المصري – الإيراني الذي بلغ مراحل متقدمة).
وهناك مصلحة مشتركة جمعت إيران ومصر في المشهد السياسي السوري
وخلال احتجاجات الشعب السوري ضد النظام ورغم أن جميع الأقطار العربية قطعت علاقاتها مع الحكومة السورية وأغلقت سفاراتها في دمشق لكن مصر لم تغلق سفارتها، وكانت مصر من القلائل التي دعمت نظام الأسد مثلما فعل النظام الإيراني.
وأخيرًا ما قاله وزير الخارجية الإيراني في تدوينة له على منصة التواصل الإجتماعي (إكس) عقب افتتاح الدورة الثالثة للحوار العربي الإيراني في طهران بتاريخ 15آيار 2024 (إنه في إطار إتفاق بين رئيسي إيران ومصر، تجرى مفاوضات استشرافية مع وزير الخارجية المصري سامح شكري حول طريق تحسين العلاقات بين القاهرة وطهران) .
وحدة الدراسات الإيرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية