برزت أخيراً مؤشرات عدة إلى غض نظر دولي عن التطبيع مع النظام السوري في ظل التعاطي معه على المستوى العربي، إذ بدأ الاعتقاد يتوغل في نفوس مؤيدي الثورة أن المجتمع الدولي بات راضياً عن بقاء رئيس النظام بشار الأسد في منصبه، في ظل عدم تقديم المعارضة نفسها بديلاً مناسباً، بالإضافة إلى أن مسألة إسقاط، أو سقوط الأسد، قد تُغير في موازين القوى في المنطقة، وهذا أمر قد لا يرضي دولاً إقليمية فاعلة، بغض النظر عن علاقتها مع النظام.
وعرقلت الإدارة الأميركية، برئاسة جو بايدن، أخيراً تمرير قانون يناهض التطبيع مع النظام السوري ويحد من قدرة الأنظمة والدول الراغبة في إعادة العلاقات والتعاطي مع الأسد، إذ تم سحب مشروع القانون من مجموعة تشريعات عاجلة صوّت عليها مجلس الشيوخ ثم وقعها بايدن. كما برز أخيراً طعن في مذكرة التوقيف التي أصدرها القضاء الفرنسي بحق الأسد لتورطه في الهجمات الكيميائية التي وقعت في صيف العام 2013، في ما يعرف بمجزرة الغوطة الشرقية من دمشق. وجاء طلب مكتب مدعي عام مكافحة الإرهاب في فرنسا البتّ في صلاحية مذكرة الاعتقال على اعتبار أن إصدار مذكرة توقيف بحق رئيس دولة على رأس عمله “يشكل استثناء” يجب البت فيه من خلال محكمة أعلى، قبل إجراء أي محاكمة، نظراً للحصانة التي يملكها الرئيس ورئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية وهم في مناصبهم في “دولة ذات سيادة”.
مشاريع التعافي المبكر
كما بدأت مشاريع التعافي المبكر “الأممية” تأخذ مكانها في مناطق سيطرة النظام. ويقول معارضون إن النظام بات يستخدم مشاريع وأموال التعافي المبكر للقيام بعمليات إعادة إعمار بنى تحتية، هو الذي أضر بها أساساً من خلال القصف أو التخريب. وكان الغرب قد وضع “خطوطاً حمراء” أمام البدء بإعادة الإعمار قبل إقرار الحل السياسي الشامل في البلاد. وسبقت ذلك إعادة النظام إلى جامعة الدول العربية العام الماضي، دون تحرك غربي ودولي فاعل، بالإضافة إلى إعادة التطبيع مع النظام السوري التي تقوم بها عدد من الدول العربية.
محمد صبرا: خطة التعافي المبكر تتعلق بمطالبات دول المنطقة حول اللاجئين
وهناك اعتقاد بأن الأسد بدأ يتلمس التساهل معه على المستوى الدولي، لا سيما بعدما لم ينخرط في أي تصعيد عقب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، بما في ذلك عدم استخدامه أوراق الضغط المباشرة عسكرياً على الحدود. وبرأي الخبير القانوني والمسؤول السياسي السابق في المعارضة السورية محمد صبرا، فإن “الأمم تهزم عندما تصل إلى القناعة بأنها عاجزة عن الفعل، وأن دورها هو تقبل ما يُعرض عليها. وللأسف هناك محاولات من أطراف عديدة سورية وغير سورية، سواء عن حسن أو سوء نية، هدفها دفع السوريين للاقتناع بأن بشار (الأسد) قدر محتوم على السوريين، وأنهم لن يستطيعوا فعل شيء، وأن العالم أجمع على دعمه وبقائه ويسوقون لذلك مجموعة من الوقائع لدعم رأيهم”.وأشار صبرا، في حديث لـ”العربي الجديد”، إلى أن “هذه المحاولات يجب ألا تمنع السوريين من رؤية الحقيقة الأساسية، وهي أن بشار فقد شرعيته في حكم السوريين منذ إطلاق الرصاصة الأولى على المتظاهرين في درعا في العام 2011، وأن بشار لم يعد يمثل نظام حكم بالمعنى القانوني والدستوري والسياسي، فوجود مليشيات مسلحة أجنبية على الأرض السورية، يعني عملياً فقدان بشار أحد أهم المعايير الدستورية لوجود نظام الحكم، فضلاً عن الكم الهائل من الجرائم التي ارتكبها بشار وقواته ونظامه”.
لا يمكن التطبيع مع النظام السوري
ولفت صبرا إلى أنه لا يمكن التطبيع مع النظام السوري و”تعويم بشار الأسد وإعادة تأهيله، وكل الأمثلة التي يتم ذكرها في هذا المجال مجرد وقائع لها ظروفها الخاصة بعيداً عن فكرة تعويم بشار أو عدمه”. وأوضح أن “المدعي العام الفرنسي طلب إعادة النظر بقضية مذكرة التوقيف ليس لتعلقها ببشار، ولكن لأن هذا موضوع قانون فرنسي ويجب على محكمة الاستئناف أن تنظر فيه. الأمر يتعلق بتفاصيل القانون الفرنسي، ولا يتعلق بشخص بشار، وأظن أنه لو كانت مذكرة التوقيف قد صدرت بحق شخص آخر، مثلا (الرئيس الروسي) فلاديمير بوتين أو (الرئيس الإيراني الراحل) إبراهيم رئيسي أو غيرهما، لكان المدعي العام الفرنسي أحذ الموقف ذاته”.
أما في ما يتعلق بقانون مناهضة التطبيع مع النظام السوري فإن هذا الأمر، بحسب صبرا، “يعود لترتيبات تقوم بها إدارة بايدن مع دول المنطقة في سياق مختلف عن موضوع الأسد، وهذه الترتيبات الإقليمية الشاملة تتعلق بالمنطقة كلها، ومن ضمنها سورية بالطبع، لذلك لا يتمحور هذا الموضوع حول بشار الأسد ونظامه، كما يراد تصوير الأمر من قبل البعض”. أما بالنسبة لخطة التعافي المبكر، فأشار صبرا إلى أن “الخطة التي بدأتها الأمم المتحدة منذ العام 2021 والمحاولات لتحويلها إلى صندوق للتعافي، تتعلق بمطالبات دول المنطقة، ولا سيما تركيا ولبنان والأردن حول اللاجئين السوريين في هذه الدول، وتحول قضية اللجوء السوري في هذه الدول إلى قضية سياسية داخلية، لذلك تضغط هذه الدول من أجل إعادة تنشيط البنية الخدمية من خلال صندوق التعافي المبكر لإعادة اللاجئين إلى داخل سورية”. وأضاف صبرا: “يبقى بالنسبة لنا كسوريين، أن نتذكر أن قصة إعادة تعويم بشار الأسد بدأت منذ سقوط حلب في 2016، عندها تحدث البعض عن اتجاه لتعويمه، والآن وبعد مرور ثماني سنوات ما زال هذا البعض يتحدث عن الأمر نفسه”.
وحول موضوع التعافي المبكر، الذي يتم الحديث عن إنشاء صندوق خاص له بمبالغ ضخمة، فقد كشف منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في سورية آدم عبد المولى، في مقابلة مع صحيفة “الوطن” المقربة من النظام، في مارس/ آذار الماضي، أن الأمم المتحدة ستطلق قبل حلول الصيف المقبل برنامجاً للتعافي المبكر في سورية يمتد إلى خمس سنوات، ويتضمن إقامة مشاريع في عدد من القطاعات، بينها الكهرباء. وأكد عبد المولى وقتها أن تمويل مشاريع هذا البرنامج سيتم من خلال إنشاء صندوق خاص يوفر لبعض “المانحين غير التقليديين”، كدول الخليج، التي عادة تفضل أن تقدم المساعدات مباشرة إلى الحكومة ولا تستطيع أن تعمل ذلك الآن بسبب نظام العقوبات، آلية آمنة وشرعية تحت مظلة دولية بأن تقدم مساعدات للشعب السوري.
وعبّر عبد المولى عن أمله بأن “تقدم دول الخليج أقصى ما تستطيع، لأن للأزمة السورية تداعياتها التي قد تؤثر على استقرار المنطقة، بل على استقرار العالم إذا استمرت من دون معالجة”، مشيراً إلى أنه “لتلبية الاحتياجات نحتاج إلى ما يربو على عشرة مليارات دولار، وهذه الأموال ينبغي أن نحصل عليها من المانحين التقليديين وغير التقليديين، ونقصد بهم دول الخليج بشكل خاص”. ويكشف أن حجم المساعدات “حتى الآن أقل بكثير مما كنا نتوخاه”. وفي حين روج النظام السوري لأن يكون مركز صندوق التعاون في دمشق، فإن عبد المولى عاد ليشير، في حديث صحافي في إبريل/ نيسان الماضي، إلى أن أمانة الصندوق يجب أن تكون خارج سورية حماية له من أي تسييس.
سامر ضيعي: يحاول النظام السوري توجيه مشاريع التعافي المبكر نحو إعادة الإعمار
وحول التطبيع مع النظام السوري وموضوع التعافي المبكر، أشار الحقوقي سامر ضيعي، وهو المدير التنفيذي لرابطة المحامين السوريين الأحرار، إلى أنه “من الناحية القانونية، تختلف هذه المشاريع (التعافي المبكر) عن إعادة الإعمار في الأهداف والنطاق، إذ تهدف مشاريع التعافي المبكر إلى استعادة الخدمات الأساسية والبنية التحتية بسرعة لتلبية الاحتياجات الإنسانية العاجلة وتحقيق الاستقرار في المجتمعات المتضررة. في المقابل، تتطلب إعادة الإعمار جهوداً شاملة وطويلة الأمد لإعادة بناء البنية التحتية والمؤسسات بشكل كامل بعد انتهاء الصراع”.
ولفت ضيعي، في حديث لـ”العربي الجديد”، إلى أنه “مع ذلك، يحترف النظام السوري التحايل على كل شيء، ومنها هذه المشاريع، بهدف توجيهها نحو إعادة الإعمار، وهي العملية التي تعزز سيطرته وقبوله السياسي ودعم مؤسساته، وقد يتم ذلك من خلال تخصيص الموارد للمناطق التي تهم النظام سياسياً أو تنفيذ مشاريع تخدم مصالحه بشكل مباشر. كما يمكن للنظام تقليص شفافية التنفيذ، ما يجعل من الصعب على المنظمات الدولية مراقبة استخدام الأموال والتأكد من وصولها إلى مستحقيها”.
وفي ما يخص دور الأمم المتحدة، رأى ضيعي أنها “تواجه تحديات كبيرة في مراقبة وتقييم هذه المشاريع بسبب الوضع الأمني المعقد وسيطرة النظام على العديد من المناطق، وتهاون مؤسسات الأمم المتحدة العاملة مع النظام بهذه المعايير بسبب التركيبة البيروقراطية والفساد الوظيفي الذي يتخلل هذه المؤسسة الدولية، وتحديداً الأقسام العاملة في مناطق سيطرة النظام السوري”. وأضاف: “قد تؤدي الضغوط الدبلوماسية والحاجة للوصول إلى المناطق المتضررة إلى التساهل في الرقابة. بالإضافة إلى ذلك، تفرض القيود اللوجستية والتمويلية تحديات إضافية، ما يعزز استغلال النظام لهذه المشاريع”. وشدد ضيعي على أنه “بينما تختلف مشاريع التعافي المبكر قانونياً عن إعادة الإعمار، فإن التحايل عليها من قبل النظام واستخدامها لتعزيز سلطته يطرحان تحديات كبيرة، ويبقى على المجتمع الدولي والأمم المتحدة مواصلة الضغوط والمراقبة لضمان وصول المساعدات إلى مستحقيها، ودعم الحلول السياسية التي تحقق العدالة والاستقرار للشعب السوري”.