وسع جيش الاحتلال توغله في مدينة رفح، الثلاثاء، ليصبح على بعد ثلاثة كيلومترات من شاطئ البحر، ويقترب من عزل القطاع عن الحدود المصرية، ونزح نحو مليون شخص من رفح منذ السادس من مايو/ أيار الماضي، حسب بيان لوكالة “أونروا”، بعد أن وصلت الأعداد في المدينة، في نهاية إبريل/ نيسان الماضي، إلى أكثر من مليون و400 ألف نسمة، يشكل سكان المدينة من بينهم نحو 250 ألفاً فقط، والباقون نازحون من مختلف محافظات القطاع.
وقالت “أونروا”، إن النزوح يتواصل من مدينة رفح بسبب العمليات العسكرية لجيش الاحتلال الإسرائيلي التي تشمل القصف المكثف، مؤكدةً عدم وجود مكان آمن للذهاب إليه، وأن نقص الغذاء والماء يجعل الظروف المعيشية للنازحين قاسية، كما يجعل تقديم المساعدة شبه مستحيل.
وتعد رفح أصغر محافظات قطاع غزة، وقد تحولت خلال الأشهر الأخيرة إلى أكثر محافظات القطاع ازدحاماً، قبل أن يبدأ النزوح منها باتجاه خانيونس ودير البلح.
كانت رفح خلال الأشهر الأخيرة أكثر محافظات قطاع غزة ازدحاماً
وتوجد أعداد من الفلسطينيين الذين رفضوا النزوح في المنطقة الغربية للمدينة، غالبيتهم من سكانها الأصليين، وبعضهم نازحون لم يجدوا مكاناً لإيوائهم في مناطق النزوح الجديد، مثل المواصي ومناطق وسط القطاع التي باتت مكتظة بالنازحين. ويعيش هؤلاء في ترقب دائم للقصف الإسرائيلي الذي يطاول جميع المناطق في الفترة الأخيرة، حتى باتوا في حالة من التعايش مع القصف.
من بين هؤلاء محمد الشاعر (31 سنة)، وهو ينتمي إلى إحدى عائلات رفح الكبيرة، ويرفض مغادرة مدينته مهما حصل، رغم حرصه على حياته. وهو يفسر تحذيرات المنظمات الدولية مثل وكالة أونروا ومنظمة الصحة العالمية حول استمرار عملية رفح بأن تلك المنظمات قررت عدم توفير أماكن بديلة للنزوح، في ظل وجود أكثر من 400 ألف شخص حالياً في الأحياء الغربية.فقد الشاعر العديد من أفراد عائلته خلال العدوان، من بينهم عمه وأبناؤه، وهو يواصل الهروب من القصف، ونجا مساء الاثنين الماضي من قصف طاول منطقة الإسكان الأبيض، وهو يقبع مع أسرته حالياً في منزل قريب من شاطئ البحر غربي المدينة، ويقول لـ”العربي الجديد”: “لا أريد النزوح، وأنتقل مع أفراد من أسرتي من مكان إلى مكان، وبعضٍ أفراد عائلتي بحثوا عن مكان للنزوح ولم يجدوا. جعل الاحتلال الكثير من مناطق رفح خالية، ولا تسمع فيها إلا أصوات القطط والكلاب بعد أن كانت شديدة الاكتظاظ”.
يضيف: “أنتمي إلى عائلة قدمت الكثير من الشهداء منذ الانتفاضة الأولى في عام 1987، وقدمنا شهداء في (اليوم الأسود)، في الأول من أغسطس/ آب 2014، لأننا نرفض الاستسلام، وفي هذا العدوان أيضاً لدينا العديد من الشهداء. كما خذل المجتمع الدولي سكان مدينة غزة وشمالي القطاع، فقد خذلونا أيضاً، رغم الآمال التي كانت تراودنا بأن باستطاعتهم منع الاحتلال من القيام بعملية عسكرية على رفح”.
وتحولت المنطقة الشرقية من المدينة إلى منطقة خالية بعدما توغلت فيها آليات الاحتلال وصولاً إلى المناطق التي كانت تضم الكثير من النازحين داخل المنازل ومدارس الإيواء، ورصد كثيرون اقتحام قوات الاحتلال بالمركبات العسكرية والدبابات، صباح الثلاثاء، وسط مدينة رفح، وصولاً إلى الشريط الحدودي مع مصر من الناحية الجنوبية للمدينة، مع التمركز في المنطقة المعروفة بـ”تل زعرب”.في الأثناء، نزحت عائلة محمد زعرب، التي كانت تعيش في المنطقة، إلى أقصى غرب حي تل السلطان، في ظل عدم وجود طريق آمن للنزوح من الحي السعودي الواقع في غرب رفح، أو من الاتجاه الشرقي أو الجنوبي القريب من الحدود المصرية. حالياً لا يوجد أمامهم سوى التكدس في المنازل القريبة من شاطئ البحر، والعديد من العائلات ترغب في مغادرة المدينة لكن لا تتوفر لها أماكن بديلة، ما يجبرها على البقاء.
يقول زعرب لـ”العربي الجديد”: “نعيش في حالة تخبط، ونراقب السماء لمتابعة قنابل الضوء التي يطلقها الاحتلال على بعض المناطق، فإذا اقتربت منا، نعلم حينها أن الاقتحام الإسرائيلي يقترب، ونستعد فوراً للنزوح. حالياً قنابل الضوء تظهر في الناحية الشرقية من المدينة، رغم أنهم وصلوا حتى وسط رفح. لا أريد النزوح، وأرغب في البقاء في رفح، وإن غادرت فسأكون مجبراً. نعيش في منطقة عاشت فيها عائلتي لعشرات السنين، وما زلنا نفتخر بأننا من رفح، والنزوح باتجاه المواصي أو دير البلح يمكن أن يؤدي إلى قتلنا، لكننا جاهزون للموت في أي وقت، ونطمع فقط في حماية الله”.
ويوجد عدد من الشبان في منازل غربي مدينة رفح بعد نزوح النساء والأطفال إلى الخيام في منطقة المواصي، من بينهم محمد الشريف، الذي يصر على البقاء داخل منزله، ويشير إلى أنهم موجودون في حي تل السلطان لأنهم لم يتلقوا أوامر إخلاء، ولا تزال المنطقة تصنف باعتبارها آمنة، وهو متمسك بأمل عدم اجتياح الاحتلال للمنطقة.
يقول الشريف لـ”العربي الجديد”: “أنا ممن قرروا التعايش مع القصف. أهرب عندما يحصل، ثم أعود إلى المنزل مجدداً، حتى لو لم تعد وكالة أونروا موجودة لإطعامنا، وسأبقى في رفح مهما كانت الظروف، فإذا نزحت قد أموت، وإذا بقيت قد أموت، لذا أفضل البقاء والعيش على قطعة خبز وقليل من الماء. أصبحت أحلم بانتهاء الحرب وعودة أهلي إلى المنزل واستقبالهم بفرحة، رغم استشهاد العديد من أفراد العائلة والأصدقاء خلال الحرب”.في بداية الاجتياح الإسرائيلي، أفرغت المناطق الشرقية من مدينة رفح، مثل أحياء الجنينة والسلام والبرازيل وقرية الشوكة، وفي اليومين الأخيرين، أفرغت منطقة وسط مدينة رفح التي تضم البلد والمخيم الكبير ومخيم يبنا ومخيم الشابورة، وأيضاً حي الزعاربة ومنطقة تل زعرب، وبقيت أحياء الغرب، مثل البراهمة وتل السلطان والحي السعودي وحي كندا وحي الإسكان الأبيض.
ولا تزيد مساحة مدينة رفح عن 55 كيلومتراً مربعاً، وفق سجلات سلطة الأراضي الفلسطينية، لكنها تعتبر من المدن التاريخية الفلسطينية، ويطلق عليها لقب “قلعة الجنوب”، إذ ترتبط بالعديد من الحضارات القديمة، مثل الآشورية والفرعونية، وعُثر فيها على نقوش قديمة تعود إلى نحو خمسة آلاف عام، من بينها نقوش فرعونية وجدت في “تل زعرب”، الذي تقف فيه دبابات إسرائيلية حالياً.
وكانت مدينة رفح أول المدن الفلسطينية التي شهدت تأسيس مطار عقب إنشاء السلطة الفلسطينية في عام 1994، وهو مطار غزة الدولي في شرقي المدينة، والذي دمره الاحتلال في ديسمبر/ كانون الأول 2001، كما كانت تشهد انتعاشاً تجارياً نتيجة لوجود معبر رفح البري ومعبر كرم أبو سالم التجاري رغم القيود الإسرائيلية.