سلط الحادث المميت الذي تعرض له الرئيس الإيراني إبراهيم ارئيسي الضوء على الحالة المزرية لسلامة الطيران في إيران، لكن ذلك يعزى إلى سوء الإدارة الفادح والمتاجرة الفاسدة التي يمارسها النظام، وليس العقوبات الأجنبية.
في 19 أيار/مايو، كانت طائرتا هليكوبتر من طراز “بيل 212” كنديتي الصنع ومروحية روسية الصنع من طراز “ميل مي-171” متوجهتين إلى تبريز في إيران من منطقة آراس الحدودية مع أذربيجان، عندما اختفت إحدى طائرتي “بيل” فجأة. وكان من بين ركابها وأفراد طاقمها الثمانية الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان. وبعد جهود بحث حثيثة، تم أخيراً العثور على حطام المروحية بعد ثماني عشرة ساعة في منطقة جبلية تضم غابات كثيفة. ومن غير المستغرب أن تنتشر الشائعات على قدم وساق منذ ذلك الحين، مع إطلاق المعلّقين داخل إيران وخارجها تكهنات حول سبب الحادث. ووفقاً لإحدى هذه الروايات، التي يكررها المسؤولون الإيرانيون مراراً، يُعزى الحادث إلى العقوبات الأمريكية على قطاع الطيران في البلاد. ومع ذلك، فحتى إلقاء نظرة خاطفة على تفاصيل الحادث وسجل إيران السيء في مجال سلامة الطيران، نرى أن المسؤولية تقع على عاتق النظام.
رواية طهران تتجاهل السياق
منذ عام 1980، تعرض النظام الإيراني لمجموعة متنوعة من العقوبات الأمريكية والأوروبية ومن الأمم المتحدة أيضاً لأسباب متعددة، مثل الاستيلاء على السفارة الأمريكية في طهران، وارتكاب أعمال إرهابية ودعمها، وإدارة برنامج نووي سري، وانتهاك الحقوق الأساسية للمواطنين الإيرانيين. وفي كل حالة، كان الهدف تغيير سلوك طهران غير المشروع والحد من قدرتها على إنتاج المعدات العسكرية والمواد النووية أو الحصول عليها. وبالطبع، أثرت هذه العقوبات أيضاً على الطيران المدني، لسبب بسيط هو أن قطاع الطيران الإيراني الغامض التابع للجيش لعب دوراً واسع النطاق في دعم أعمال إيران المزعزعة للاستقرار في الخارج. لكن سوء إدارة النظام الفادح للأصول والموارد المتاحة والإعفاءات من العقوبات هو ما عرّض فعلياً رئيسي والمسافرين الإيرانيين العاديين عن طريق الجو للخطر، سواء بسبب الفساد، أو عدم كفاية التدريب، أو الافتقار إلى الدراية القوية بالصيانة، أو كل ذلك.
خلال إدارات أمريكية متعددة، أتيحت لإيران فرص الحصول على طائرات أكثر حداثة، وقطع غيار للإصلاحات المهمة التي تحتاج إليها البلاد، وترقيات في “شهادات النوع التكميلية” (STCs) لطائراتها التجارية. وفي الواقع، لم يكن شراء طائرات هليكوبتر من شركة “بيل تيكسترون كندا” في أوائل التسعينيات ممكناً دون هذا الضوء الأخضر الأمريكي، بما في ذلك المروحية ذاتها التي تحطمت في 19 أيار/مايو. وفي كانون الثاني/يناير 2016، رفعت “خطة العمل الشاملة المشتركة” جميع عقوبات الأمم المتحدة والعديد من العقوبات الأمريكية، مما منح إيران المزيد من الفرص لشراء مئات الطائرات الجديدة. لكن لم تتم الموافقة إلا على عدد قليل جداً من الصفقات، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن المؤسسات المالية الدولية لا تزال تعتبر إيران دولة ذات مخاطر عالية.
بالإضافة إلى ذلك، قررت طهران قبل فترة طويلة شراء طائرات وقطع غيار مستعملة باستخدام شبكة معقدة من شركات الواجهة والترتيبات المالية الغامضة في جميع أنحاء العالم. ويعود سبب تفضيلها لهذه الممارسة جزئياً إلى أنها تحقق عمولات أعلى للوسطاء الإيرانيين الذين يتفاوضون على عمليات الشراء، والذين هم في الكثير من الحالات إما يشغلون مناصب حكومية في قطاع الطيران أوأفراد من عائلات هؤلاء المسؤولين. واليوم، لم تعد الشركات المصنعة الغربية تدعم منتجاتها المتعلقة بالطيران في إيران، ولا تزال العديد من الطائرات والمروحيات في البلاد تحلق بصلاحية طيران وسجلات صيانة مشكوك بأمرها. وفي الواقع، بعد انتهاج النظام لهذا المسار، فلم يعد يستشعر قط بالحاجة للعودة إلى الطرق المشروعة والآمنة لإدارة أعمال الطيران.
واستمر هذا الموقف على الرغم من أن اللوائح الأمريكية منحت إيران منذ فترة طويلة فرصة لطلب تراخيص على أساس كل حالة على حدة لتصدير وإعادة تصدير السلع والخدمات والتكنولوجيا التي تهدف إلى تعزيز سلامة قطاع الطيران المدني وطائرات الركاب التجارية الأمريكية المنشأ لديها. وترددت طهران مراراً في تقديم هذه الطلبات، ويعود ذلك جزئياً إلى موقفها العدائي المناهض للولايات المتحدة، وأهدافها “الثورية” الصارمة، وسياستها الخارجية المتشددة، ولكن أيضاً إلى واقع كَوْن صناعة الطيران “ذات الاستخدام المزدوج” القائمة لديها تخدم مغامراتها الإقليمية أكثر من أي شيء آخر.
على سبيل المثال، في عامي 2014 و 2018، أصدرت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات ضد شركة “خطوط معراج” و”الشركة الإيرانية لدعم وتجديد طائرات الهليكوبتر”، وهي مركز الدعم الرئيسي للمروحيات في البلاد. وتشرف هاتان الشركتان على “مرآب طائرات الجمهورية الإسلامية”، وهي المنشأة المسؤولة عن المروحيات المعنية بحادث التحطم في 19 أيار/مايو. وتم إدراج هاتين الشركتين على لائحة العقوبات بسبب الدعم اللوجستي الذي تقدمانه لـ”فيلق القدس” التابع “للحرس الثوري الإيراني”، والذي يشمل الجهود طويلة المدى لنقل الأسلحة وغيرها من البضائع غير المشروعة إلى نظام الأسد في سوريا.
التحطم والأسئلة المتعلقة بالسلامة التي لم تتم الإجابة عليها
إن رواية النظام بشأن حادث تحطم المروحية التي كانت تنقل رئيسي تتجاهل بسهولة تفاصيل فنية مهمة أيضاً. فطائرة “بيل 212” تُعتبر مروحية آمنة، والطائرة التي تحطمت في 19 أيار/مايو (الرقم التسلسلي 6-9204) لم يتم تصنيعها خلال السبعينيات ولم يتم شراؤها خلال فترة الشاه، بخلاف الادعاءات الأخيرة. وكما سبقت الإشارة، تم تصنيعها في كندا وإرسالها إلى إيران في إطار عملية تسليم أكبر في التسعينيات.
ورفضت لجنة التحقيق التي عينتها “هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية”، في آخر تحديث موجز لها في 29 أيار/مايو، العطل الميكانيكي أو التخريب أو أي شكل من أشكال التدخل الخارجي كأسباب محتملة للتحطم. ومع ذلك، فإن النظر إلى الحادث عن كثب، يكشف عن مجموعة من الأخطاء التي يمكن أن تكون قد أدت مجتمعة إلى تحطم المروحية، وإطالة الوقت الذي استغرقته جهود البحث، ومنع التقييمات الدقيقة للخطأ الذي حدث، وهذه الأخطاء هي:
• تم السماح للقافلة المكونة من ثلاث طائرات هليكوبتر بالإقلاع على الرغم من سوء التوقعات الجوية وانخفاض الغطاء السحابي على طول المسار.
• يبدو أن طائرة “بيل 212” التي كانت تنقل رئيسي كانت الأقل تجهيزاً من بين الطائرات الثلاث والأقل ملاءمة للطيران في الأحوال الجوية السيئة. فقد كان لدى الركاب من كبار الشخصيات خيار ركوب الطائرة الروسية الصنع الأكبر حجماً والأفضل تجهيزاً “مي-171″، إلا أنهم اختاروا طائرة “بيل” بدلاً منها.
• كانت المروحيات الأخرى المتوفرة لدى “مرآب طائرات الجمهورية الإسلامية” خيارات أكثر قدرة أيضاً، ومن بينها طائرتان من طراز “بيل 412” بمحركات أكثر قوة، ونظام دوار رباعي الشفرات، وسرعة قصوى أعلى، وسقف خدمة أعلى، وإلكترونيات طيران أكثر حداثة.
• كانت المروحيتان الأخريان في القافلة مجهزتين برادارات الطقس التي كان من المفترض أن توفر تحذيراً مسبقاً بشأن الظروف المرتقبة غير الآمنة.
• لم تكن طائرة رئيسي ولا أي من المروحيات الأخرى التابعة لـ “مرآب طائرات الجمهورية الإسلامية” على ما يبدو مجهزة بأجهزة إرسال وظيفية لتحديد المواقع في الحالات الطارئة أو أجهزة إرسال واستقبال “إي دي أس-بي”، والتي كان من الممكن أن تقود رجال الإنقاذ إلى موقع التحطم بسرعة كبيرة. وتُعتبر الحكومة الإيرانية مسؤولة عن تجهيز جميع طائراتها بهذه المعدات الخاصة بالسلامة الأساسية، ولا يمكن التذرع بالعقوبات لتبرير هذا الخطأ. وعلى الرغم من أنه من غير الواضح ما إذا كانت طهران قد تقدمت بطلب للحصول على أجهزة تحديد المواقع الأمريكية لحالات الطوارئ للمروحيات الإيرانية، إلا أنه يمكن الحصول على جميع المعدات المعنية بسهولة من المورّدين في العديد من البلدان الأخرى.
• تم تجهيز العديد من المروحيات المدنية بمسجلات صوت قمرة القيادة أو مسجلات بيانات الرحلة، ولكن من غير المعروف ما إذا كانت طائرة “بيل 212” التي كانت تنقل رئيسي، والتي تم شراؤها في الأصل بتكوين مدني، مزودة بهذه التقنيات (تجدر الإشارة إلى أن طائرة “مي-171” التي كانت ضمن موكبه كانت مزودة بها). ولو كانت الطائرة “212” مجهزة بها، لكانت الولايات المتحدة ومختلف المنظمات الدولية لسلامة الطيران قد عرضت على طهران المساعدة في تنزيل البيانات وفك تشفيرها.
ولتجنب أي اتهامات أخرى مفادها أن السياسة الأمريكية مسؤولة بشكل أو بآخر عن تحطم طائرة رئيسي، يجب على إدارة بايدن أن تُلقي باللائمة مجدداً وعلناً على طهران حيث هي المسؤولة عمّا حدث. وعلى وجه الخصوص، ينبغي أن تؤكد على أن أي آثار مرتبطة بالعقوبات على قطاع الطيران الإيراني تنبع مباشرةً من ممارسة النظام المستمرة منذ عقود والقائمة على استخدام شركات الطيران والطائرات المدنية لنقل الأسلحة والذخائر والأفراد العسكريين في جميع أنحاء المنطقة لدعم الإرهاب وغيره من الأنشطة المزعزعة للاستقرار. ويجب أن يعلم الشعب الإيراني أن قادته اختاروا عمداً الاستمرار في تشغيل الطائرات القديمة وغير الآمنة وغير المدعومة، لتحقيق مكاسب مالية خاصة بهم في أغلب الأحيان، على الرغم من منحهم سبلاً متعددة لتطوير القطاع والتخفيف من مخاطر الكوارث.