يشعر المسؤولون الأمريكيون بالقلق من توسع حقل الألغام السياسي في إسرائيل ويفضلون تجنب التدخل المباشر في القضايا الحساسة محلياً، لكن التداعيات السياسية لاستقالة غانتس، ولا سيما تعزيز اليمين المتطرف، ستجعل من الصعب تجنب التدخل.
في 9 حزيران/يونيو، أعلن قادة “حزب الوحدة الوطنية” الوسطي في إسرائيل، رئيسا الأركان العسكريان السابقان بيني غانتس وغادي آيزنكوت، استقالتهما من ائتلاف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، مما أدى إلى تقليص الأغلبية الضيقة للحكومة التي كانت تتمتع بها قبل حرب غزة والتي بلغت 64 مقعداً في الكنيست المؤلف من 120 عضواً. وقال غانتس، عند شرح قراره، إن الائتلاف غير قادر على تحقيق “نصر حقيقي” وألقى اللوم مباشرةً على نتنياهو، متهماً إياه بتفضيل السياسات الشخصية على الصالح الوطني. كما دعا إلى إجراء انتخابات مبكرة لكي يتمكن الجمهور من اختيار قيادة جديدة للتعامل مع العديد من القضايا الملحة في إسرائيل. ورداً على ذلك، انتقد نتنياهو علانيةً غانتس على خلفية انسحابه من الحكومة خلال حرب متعددة الجبهات.
وتُمثل هذه الخطوة نهاية “حكومة الطوارئ” التي أعقبت 7 تشرين الأول/أكتوبر، والتي ركزت السلطة ضمن “حكومة حرب” مختارة فضلت المعتدلين مثل غانتس وآيزنكوت بينما همشت ظاهرياً شخصيتين من اليمين المتطرف، هما وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش. وفي الواقع، كان لغانتس وآيزنكوت تأثير واسع النطاق في الأشهر الأولى من الحرب من خلال ربط دخولهما في التحالف بشرط واحد واضح، وهو أن يركز الجيش جهوده على “حماس” في غزة، وليس على توسيع النزاع ليشمل “حزب الله” في لبنان، كما يريد بن غفير وسموتريتش والعديد من الشخصيات الأخرى. ولعب الجنرالان أيضاً دوراً رئيسياً في تحقيق وقف إطلاق النار القصير (مع “حماس”) في تشرين الثاني/نوفمبر والذي شهد إطلاق سراح 105 رهائن.
ومع ذلك، مع مرور الوقت، بدا أن نفوذ غانتس يتضاءل، وبدأ يعتقد أنه لا يستطيع إقناع نتنياهو بالإعلان عن استراتيجية “اليوم التالي” في غزة، ناهيك عن الاستعداد لها. ومن جانبه، أصبح نتنياهو مقتنعاً بأن غانتس وآيزنكوت سيستقيلان في مرحلة ما على أي حال، فركز بدلاً من ذلك على دعم جناحه الأيمن وإبقاء حكومته ناشطة. وبينما هدد سموتريتش وبن غفير مراراً وتكراراً بالاستقالة من الحكومة إذا توصلت إلى صفقة رهائن ثانية أو اتخذت خطوات سياسية أخرى غير مستساغة بنظرهما، حاول نتنياهو تهدئتهما، مما أدى إلى تقويض أي نفوذ معتدل متبقي.
التأثير المحتمل على الحرب
مع استقالة غانتس، فقد نتنياهو غطاءه السياسي. فلم يعد بإمكانه إلقاء اللوم على الضغوط الوسطية على خلفية اتخاذ قرارات في زمن الحرب لا تحظى بشعبية لدى قاعدته اليمينية أو شركائه في الائتلاف اليميني المتطرف. وفي المقابل، يعزز القرار موقف بن غفير وسموتريتش، اللذين سبق أن طالبا بالمزيد من النفوذ في عملية صنع القرار في زمن الحرب. وإذا نجحا في الضغط على نتنياهو لتفكيك حكومة الحرب وإعادة السلطة إلى الحكومة الأمنية الأوسع نطاقاً، حيث يتمتع كلا الوزيرين بعضوية كاملة، فسيتعاظم نفوذهما بشكل كبير.
لدى نتنياهو خيارات أخرى. فبإمكانه الإبقاء على إطار حكومة الحرب مع وزير الدفاع يوآف غالانت واثنين من المقربين منه، هما وزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر وزعيم حزب “شاس” أرييه درعي، مع إشراك وزير الخارجية يسرائيل كاتس ووزير الزراعة آفي ديختر، الرئيس السابق لجهاز الأمن العام “الشاباك”. لكن خبرة هذين الأخيرين لا تضاهي الخبرة العسكرية الرفيعة التي يتمتع بها غانتس وآيزنكوت، وبالتالي لا يمكنهما أن يحلا محلهما.
وفي غضون ذلك، لا يخفي بن غفير وسموتريتش رغبتهما في إفشال محاولة الرئيس بايدن التوصل إلى اتفاق جديد بشأن الرهائن/وقف إطلاق النار، والذي تأمل واشنطن أن يتطور إلى انسحاب (إسرائيلي) من غزة. فقد دفعا باتجاه احتلال عسكري إسرائيلي واسع النطاق وبناء مستوطنات يهودية في القطاع، واصفين الصفقة المحتملة بأنها “استسلام”، مما اضطر نتنياهو إلى التصريح علناً بأن إعادة التوطين “غير واردة على جدول الأعمال”. كما أنهما يعارضان التطبيع مع السعودية بوساطة أمريكية إذا كان ذلك يعني منح أي تنازلات حتى تجاه فكرة الدولة الفلسطينية. وقد استخدم سموتريتش منصبه لإضعاف “السلطة الفلسطينية” بصورة أكثر وزعزعة استقرار الضفة الغربية من خلال خفض تحويلات عائدات الضرائب، ودعا إلى اتخاذ إجراءات “حاسمة” ضد “السلطة الفلسطينية” بعد ساعات فقط من استقالة غانتس. ومن المرجح أن تتفاقم التوترات بين الولايات المتحدة وإسرائيل بشأن التوسع الاستيطاني وعنف المستوطنين وقضايا أخرى متعلقة بالضفة الغربية إذا استمر سموتريتش بدفع الحكومة في اتجاه متشدد.
وفي ظل هذه التحديات، يواجه نتنياهو اختباراً فورياً: هل سيقف إلى جانب الأجهزة الأمنية، التي يقال إنها مشككة للغاية في أهداف بن غفير وسموتريتش المتعلقة بالأمن القومي؟ إذا استسلم رئيس الوزراء لليمين المتطرف لضمان بقائه على الصعيد السياسي، تخشى العديد من الشخصيات أن تكون النتيجة حرباً متسرعة في لبنان، وانقسامات أعمق مع واشنطن، ونهاية لآمالهم في التوصل إلى اتفاق مع الرياض يمكن أن يعزل إيران.
استقرار الحكومة
من الناحية النظرية، يمكن أن تظل الحكومة الحالية المؤلفة من 64 مقعداً سليمة إلى حين إجراء انتخابات الكنيست المقبلة المقررة في عام 2026. ولكن من الناحية العملية، يكاد يكون من المؤكد أن عدة حقول ألغام سياسية ستقلص فترة ولايتها، أبرزها الفشل في تحقيق أهداف الحرب الإسرائيلية ضد “حماس”.
أما السؤال الرئيسي الآخر فهو ما إذا كانت استقالة غانتس وآيزنكوت ستعزز الاحتجاجات العامة المستمرة ضد الحكومة، كما توقع بعض المحللين. ما هو عدد المتظاهرين الذين يستطيع غانتس المتحفظ نسبياً حشده مقارنةً بشخصيات المعارضة متصلبة الرأي مثل يائير لابيد وأفيغدور ليبرمان؟ بالإضافة إلى ذلك، على الرغم من أن استطلاعات الرأي تظهر أن الإسرائيليين يفضلون باستمرار إجراء انتخابات مبكرة، إلّا أن أعداد مؤيدي نتنياهو ارتفعت من أدنى مستوياتها على الإطلاق مباشرةً بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر، لذا فمن السابق لأوانه استبعاده.
وربما يتمثل التحدي المحلي الأكثر حساسية الذي يواجهه هو في مشروع القانون المقترح، الذي طالب به شركاؤه المتدينون من أجل تأمين الإعفاء الدائم لناخبيهم من التجنيد العسكري. ومع ذلك، فإن الجمهور الأوسع نطاقاً يدرك بشدة الحاجة إلى المزيد من الطاقة البشرية العسكرية منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وتظهر استطلاعات الرأي عداء واسع النطاق تجاه مشروع القانون حتى لدى حزب “الليكود” الذي يتزعمه نتنياهو، فضلاً عن زيادة الدعم للمعارضين الثابتين للإعفاء (مثل ليبرمان). وتتداول المحكمة العليا حالياً بشأن الطعون المقدمة بشأن الإعفاء، ومن الواضح أن القضاة نفد صبرهم من طلبات الحكومة المتكررة لتأجيل إصدار قرار منذ شهر آذار/مارس، عندما انتهى أجل التنازل عن إخطارات التجنيد. وقد تمت الموافقة على قراءة أولية لمشروع القانون هذا الأسبوع، ولكن من غير المرجح أن يتم طرحها للتصويت النهائي في الكنيست قبل جلسة الخريف. ومن المثير للاهتمام أن غالانت كان عضو الائتلاف الوحيد الذي صوت بـ “لا” خلال القراءة الأولية.
وإذا سقطت الحكومة أو دعا نتنياهو إلى إجراء انتخابات مبكرة، فمن غير الواضح مدى احتمال أن يحل محله غانتس كرئيس وزراء. فهو يتفوق على نتنياهو في استطلاعات الرأي حول مدى ملاءمته لهذا المنصب، ويتصدر حزبه آخر استطلاعات الرأي. لكن جزءاً كبيراً من قوته يأتي من ناخبي يمين الوسط الذين ينظرون إليه كمرشح وحدة عازم على وضع البلاد في المقام الأول. وفي الحملة الانتخابية، قد يواجه منافسة شديدة من أجل هؤلاء الناخبين، بما في ذلك من رئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت ورئيس الموساد السابق يوسي كوهين.
التداعيات على السياسة الأمريكية
من ناحية السياسة الخارجية، كانت علاقات نتنياهو مع إدارة بايدن متوترة حتى مع وجود غانتس وآيزنكوت، إلا أنهما كانا يضطلعان بدور ضابط معتدل للحكومة، وكان من الممكن أن تتفاقم الخلافات السياسية إلى حد كبير بدونهما. فبين واشنطن والقدس خلافات واضحة حول قضايا متعددة، من بينها صفقة الرهائن المقترحة، والتخطيط الاستراتيجي لـ “اليوم التالي”، والتصعيد العسكري المحتمل ضد عدوان “حزب الله” المتزايد في الشمال، وإجراءات سموتريتش المستمرة ضد “السلطة الفلسطينية”. ومن المرجح أن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن قد أثار جميع هذه القضايا خلال زيارته إلى إسرائيل في 10 و11 حزيران/يونيو.
وبناءً على ذلك، سيكون من المنطقي أن تركز واشنطن على إشراك غالانت. فنظراً لاعتماد إسرائيل على الدعم الأمني الأمريكي، فإن وزراء دفاعها عادةً ما يكونون أكثر إدراكاً من المسؤولين الآخرين للضرورة الاستراتيجية للحفاظ على العلاقات الثنائية الوثيقة. ويصح ذلك بشكل خاص وسط الجدل القائم حالياً حول تزويد القوات الإسرائيلية بالقنابل الثقيلة خلال الحرب.
بالإضافة إلى ذلك، دفع غالانت من أجل زيادة المساعدات الإنسانية لغزة (مردداً موقف غانتس) والانخراط بشكل وثيق مع إدارة بايدن بشأن الحملة العسكرية في رفح. فوفقاً لمسؤولين أمريكيين، فضل غالانت إجلاء العديد من المدنيين من رفح قبل بدء العملية ثم التحرك بشكل منهجي عبر المنطقة لإتاحة المزيد من الوقت لعمليات الإجلاء. وقد نُقل فعلياً ما يقدر بمليون شخص من سكان رفح، وعلى الرغم من أن الإدارة الأمريكية تعتقد أن ظروفهم المعيشية الحالية غير ملائمة، إلا أنها لم تنتقد إسرائيل علناً على هذه الجبهة، وبدلاً من ذلك اعترفت بأن العمليات القتالية المكثفة لم تبدأ إلا بعد أن أصبح المدنيون بمنأى عن الخطر إلى حد كبير. ففي البداية، ركزت إسرائيل على فرض سيطرتها على “ممر فيلادلفيا” الحيوي على طول الحدود بين مصر وغزة وتدمير الأنفاق العابرة للحدود، مما أدى إلى تأخير دخولها إلى الأجزاء الأكثر كثافة سكانية في رفح.
وفي المرحلة القادمة، يدرك المسؤولون الأمريكيون جيداً أنهم يواجهون حالياً حقل ألغام سياسي في إسرائيل ويفضلون تجنب التدخل المباشر الذي يمكن أن ينفجر ويؤدي إلى أزمة ثنائية واسعة النطاق. لكن التداعيات السياسية المحتملة لاستقالة غانتس، – وخاصة تعزيز موقف أعضاء الائتلاف اليميني المتطرف – ستجعل من الصعب على واشنطن أن تتجنب تماماً الإعلان عن وجهات نظرها بشأن بعض القضايا الحساسة المتعلقة بالحرب، لا سيما مع اقتراب الانتخابات الأمريكية في تشرين الثاني/نوفمبر. وسيتوجب على نتنياهو أن يختار بين الوقوف إلى جانب غالانت والمؤسسة الأمنية أو الاستسلام لسموتريتش وبن غفير.
ديفيد ماكوفسكي