يشهد العالم حاليا حربا تكنولوجية متصاعدة بين الولايات المتحدة والصين، بينما تشارك فيها أوروبا أيضاً، لكن على استحياء، ولاسيما مع تراجع جهودها للحفاظ على التفوق التكنولوجي بسبب حالة من الركود لديها في هذا المجال. وبينما تسعى القوى الكبرى في تلك الحرب إلى حماية نفسها من التبعية التكنولوجية، فإن ذلك قد يقود إلى تهديد التقدم والرفاهية في العالم عبر تشظيه إلى عوالم تقنية متنافسة.
هبة محيي
القاهرة – طرح الكاتب الألماني فولفغانغ هيرن كتاباً في العام 2024 بعنوان “الحرب التكنولوجية بين الصين والولايات المتحدة والموقف الأوروبي تجاه المنافسة”، يناقش خلاله الدور التاريخي لتلك القوى الكبرى في دعم مسيرة التقدم التكنولوجي، وأهم المجالات التكنولوجية التي تتصارع حولها خاصة الحوسبة الكمومية، والذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا البيولوجية وغيرها، كما تطرق إلى مخاطر هذا الصراع وجدوى التعاون بين القوى في المجال التكنولوجي.
وتتبَّع الكتاب في بدايته الإسهامات المعرفية والتكنولوجية للولايات المتحدة والصين وأوروبا؛ إذ أشار إلى أن واشنطن أسست للتطور التكنولوجي العالمي الحديث عندما انطلقت منها الثورة الصناعية الثانية عبر اكتشاف الكهرباء، والثورة الصناعية الثالثة ببدء استخدام الكمبيوتر. تلت ذلك ابتكارات كالإنترنت والرقائق الإلكترونية.
جاء في تقرير نشره معهد المستقبل للدراسات والأبحاث المتقدمة أن هذا النجاح الأميركي يعود إلى توافر عناصر المعرفة (الجامعات والجهات البحثية) ورأس المال. أما الصين فقد أسهمت في التطور التكنولوجي تاريخياً خلال الفترة بين (960 – 1279 ميلادياً) من خلال اختراع الورق، وفن الطباعة، ومسحوق البارود والبوصلة المغناطيسية، ثم تلا تلك الفترة هبوط سريع لأسباب منها، حروب الأفيون، ونهاية الإمبراطورية، والحروب الأهلية، إلى أن قامت الصين بتكثيف الجهود لتحقيق تعافٍ بطيء بداية من 1978، ثم الصعود بقوة خلال العقدين الأخيرين.
وبدورها، شهدت أوروبا الثورة الصناعية الأولى منذ مئة عام، كما حققت السبق في العلوم الطبيعية والطب آنذاك، لكن هناك تراجع ملحوظ حالياً في مجالات تكنولوجية عدة عند المقارنة مع بكين وواشنطن ، وطال ذلك صناعات أوروبية رائدة، كصناعة السيارات؛ إذ تتخلف الشركات الرائدة، كفولكس فاغن في مجالي القيادة الذاتية والآلية.
وطرح الكتاب عدة مجالات تكنولوجية تظهر فيها الصراعات بين القوى الكبرى، وهي على النحو الآتي:
● الذكاء الاصطناعي: تهدف تطبيقات الذكاء الاصطناعي إلى محاكاة العقل البشري في أنماط تفكيره ومعالجته للبيانات؛ مما يجعل أداء المهام المعقدة منوطاً به. وتوفر الولايات المتحدة الدعم للشركات المعنية في هذا المجال، وكان ثمرة ذلك إطلاق “شات جي بي تي” في عام 2022 الذي يمكن استخدامه للحصول على إجابات عالية الجودة والدقة حول شتى الموضوعات. في المقابل، حظرت الصين ذلك التطبيق، وأنشأت آخر مُحاكٍ له يسمّى “إيرني بوت ” تم إطلاقه عام 2023. أما الجهود الأوروبية للاستثمار في الذكاء الاصطناعي فبدت مخيبة للآمال؛ إذ قدمت وزيرة البحث الألمانية خطة عمل تهدف إلى استثمار قرابة 1.6 مليار يورو بحلول عام 2025 في ذلك المجال.
● الرقائق الإلكترونية: تستخدم أشباه الموصلات أو الرقائق الإلكترونية في صناعة مختلف الأجهزة ذات التقنية المنخفضة والمرتفعة، بدءاً من الغسالات إلى الصواريخ، وهي تُعد اختراعاً أميركياً ظهر في خمسينات القرن العشرين، لكن هنالك شركتان تحتكران حالياً هذا المجال، هما: سامسونغ في كوريا الجنوبية و”تي أس أم سي” في تايوان، ولا يمكن لبكين وواشنطن وأوروبا منافستهما، على الأقل على المدى القريب.
● التحول الرقمي: يهدف التحول الرقمي إلى تضمين التقنيات التكنولوجية في العمليات والتفاعلات التجارية والاجتماعية. وتهيمن واشنطن وبكين على هذا المجال، فالأولى هي المؤسس الرئيسي لعمالقة الإنترنت الأربعة غوغل وأبل وفيسبوك وأمازون، بينما أسهمت الثانية بثلاثة عمالقة منافسين، هم: بايدو، وعلي بابا، وتنسنت، في ما تتذيل أوروبا قائمة الشركات الرائدة مثل: زالاندو وأوتو.
● الحوسبة الكمومية ونظرية الكم: يستند مجال الحوسبة الكمومية إلى الجمع بين تخصصات، كعلوم الكمبيوتر والفيزياء والرياضيات باستخدام نظرية الكم للوصول إلى معالجة تحليلية متطورة للبيانات لا تقدر أجهزة الحاسوب العادية على معالجتها بنفس السرعة والدقة. ويسهم ذلك في إحداث طفرات في مجالات عديدة، كالطب، من خلال إتاحته لتشخيص وعلاج أمراض عدة بثمن بخس كالزهايمر والصرع والباركنسون. كما يغير أيضاً إستراتيجيات الحرب عن طريق صنع رادار قائم على التقنيات الكمية يمكنه تتبع وتحديد مواقع الخصم. وتتصدر الصين قائمة المستثمرين في هذه التكنولوجيا الجديدة. فوفقاً لشركة استشارات ماكنزي الأميركية، بلغت الاستثمارات الصينية 15.3 مليار دولار في عام 2022. تبعتها دول أوروبا بـ 7.2 مليار دولار، والولايات المتحدة بـ 3.7 مليار دولار.
● توليد الطاقة: تسعى الدول لاستغلال التكنولوجيا في توفير طرق واعدة آمنة لتوليد الطاقة منها، الاندماج النووي (إنتاج شمس اصطناعية) الذي تستند فكرته على دمج نواتين ذريتين خفيفتين من نظائر الهيدروجين كالديوتيريوم والتريتيوم لإنتاج نواة ذرية واحدة أثقل لعنصر جديد هو الهيليوم، كما يحدث على سطح الشمس. ويصاحب هذا الاندماج انبعاث كميات طاقة تبلغ 4 أضعاف نظيرتها التي تنتج عن تفاعلات الانشطار النووي. إلا أن هنالك معوقات تحول دون التنفيذ الفعلي لتلك التقنية، كالحاجة إلى توفير درجات حرارة عالية تصل إلى 100 مليون درجة مئوية لضمان عدم إنتاج غازات دفيئة أو نفايات مشعة طويلة الأمد.
وعلى الرغم من صعوبة استخدام الاندماج في توليد الطاقة في المستقبل القريب حتى عام 2050، فإن الدول لا تدخر جهداً لتطوير هذه التقنية؛ إذ قامت الصين بتطوير عدة مفاعلات للاندماج النووي آخرها “توكاماك” التجريبي المتقدم والمصمم لتوفير درجات حرارة تصل إلى 120 مليون درجة مئوية عام 2022. وتهتم الولايات المتحدة أيضاً بدعم الأبحاث المرتبطة بذلك المجال، وعقد الشراكات كما جرى مع اليابان في العام الحالي لتسريع جهود تطوير الاندماج النووي. وتبذل أوروبا جهوداً ملموسة أيضاً في هذا المجال من خلال المشروع الأوروبي الياباني المشترك “جيه تي – 60 أس إيه” عام 2022.
● التكنولوجيا الحيوية والطب: وهي تطبيقات تكنولوجية تختص بالرعاية الصحية الرقمية والأطعمة الجينية والمقص الجيني (كريس بي أر)، وهو يشير إلى تقنية تستخدم لقص وتعديل الحمض النووي بشكل مستهدف؛ إذ يمكن إدخال الجينات، أو إزالتها، أو تعطيلها، سواء في النباتات أو الحيوانات أو البشر؛ مما يجعل استخدامه عرضة للمساءلة الأخلاقية، خاصة إذا ما تم تطبيقه على البشر.
ولا توجد حتى الآن قوانين مقيدة لاستخدام تلك التقنية في الولايات المتحدة والصين؛ إذ تستخدمها الصين في مجال الزراعة لضمان إنتاج الأطعمة الجينية وتوفير الغذاء المطلوب لشعبها، بينما أجازت الولايات المتحدة استخدام أول علاج ناتج عن تلك التقنية لمرض فقر الدم المنجلي أواخر العام الماضي، بينما يواجه استخدام تلك التقنية في أوروبا قواعد قانونية صارمة وفقاً لحكم محكمة العدل الأوروبية في 2018.
● السفر إلى الفضاء: أولت الولايات المتحدة والصين وروسيا اهتماماً خاصاً بالفضاء عبر إرسال بعثات ورحلات فضائية إلى القمر والمريخ. إلا أن المنافسة انحسرت الآن بين واشنطن وبكين نظرا إلى تعرّض موسكو لأزمات مالية. ويدعم الدافع التكنولوجي لواشنطن وبكين الدافع الاقتصادي في هذا المجال؛ إذ الحاجة إلى تعدين الفضاء والكشف عن موارده التي يمكن استخدامها، وبالنسبة إلى أوروبا فليس لديها حتى الآن سياسة طموحة وعملية لغزو الفضاء.
● براءات الاختراع والعنصر البشري: تأتي الولايات المتحدة على رأس القائمة في هذا المجال، بما لديها من جامعات ومراكز بحثية ورأس مال، بينما قدمت الصين قرابة 3 ملايين براءة اختراع في عام 2023، لم يتم قبول سوى 10 في المئة منها. وتُعد ألمانيا قوة أوروبية في مجال براءات الاختراع، إلا أنها تشهد تراجعاً في الآونة الأخيرة وفقاً لتقرير الحكومة الألمانية عن إستراتيجية المستقبل للبحث والابتكار.
لأن العنصر البشري الحلقة الأهم في تطوير التكنولوجيا وتسجيل براءات الاختراع، تسلك القوى الكبرى سبلاً عدة لإعداد العنصر البشري، خاصة في مجالات الرياضيات وعلوم الحاسوب والعلوم الطبيعية والتكنولوجيا، لكنها تعاني فجوة هائلة بين العرض والطلب. إلا أن الصين لديها ميزتان تنافسيتان، هما تخرّج أعداد هائلة كل عام من الجامعات، وانتهاج سياسة نشطة في إرسال الطلاب والعلماء إلى الخارج للدراسة والتدريب ثم استدعاؤهم مرة أخرى عند الحاجة إليهم.
ووفقاً للكتاب، لا يمكن حصر الصراع التكنولوجي بين القوى الكبرى في المجالات السابقة فقط؛ إذ هنالك مجالات أخرى واعدة. ففي المجال العسكري يمكن تصنيع طائرات قتالية مُحاربة من دون طيار والروبوتات العسكرية ذاتية التشغيل التي تتخذ القرار في ساحة الحرب ذاتياً دون الحاجة إلى تدخل الإنسان. أما على الصعيد الحضري، فيمكن إنشاء مدن ذكية تعتمد على إنترنت الأشياء للقيام بوظائفها بسرعة ودرجة عالية من الدقة، كتسهيل حركة المرور في تلك المدن وترشيد الطاقة المستخدمة والرصد البيئي لأيّ مخاطر بيئية محتملة.
كما يشدد الكاتب على الأهمية الحتمية للتعاون التكنولوجي بين الصين والولايات المتحدة وأوروبا خاصة في الظروف التي يعانيها الكوكب الآن من تغير المناخ وأزمات الطاقة والهجرة، ولاسيما أن استمرار الحرب التكنولوجية سيؤدي إلى ارتفاع عالمي في الأسعار وانخفاض في معدلات الرفاهية وتراجع الإنتاج الإجمالي العالمي بنسبة 7 في المئة وفقاً لحسابات الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي.
فمن المتوقع أن تؤدي الحرب التكنولوجية الراهنة بين بكين وواشنطن إلى التشظي التقني، إذ قد ينشأ عالمان تكنولوجيان مختلفان، أحدهما أميركي والآخر صيني، كما حدث ذلك بالفعل مع الإنترنت، وهو ما سينتج عنه ازدياد التكلفة للمستهلكين والمنتجين وتباطؤ التطور المرجوّ لمنع التبادل المعرفي والتقني بين العالمين.
وبينما يتفهم الكاتب حاجة الدول إلى حماية اقتصادها وتقدمها التكنولوجي من السقوط في فخ التبعية، فإنه يرى أن الحل هو اتباع نهج يهدف إلى تقليل تلك المخاطر بتنويع العلاقات مع العديد من الفاعلين الدوليين وتكوين التحالفات وليس قطع العلاقات التجارية والتقنية، كما حدث بين الولايات المتحدة والصين في الحرب التجارية التي شنها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
العرب