من دول الطوق إلى ميليشيات الطوق

من دول الطوق إلى ميليشيات الطوق

كان نابليون بونابارت يضع في المواقع المهمة على الجبهة عشية المعارك الضباط الذين في سجلهم أنهم محظوظون، بحيث يضمنون النجاح ويصبحون أبطالاً في ظل هالته البطولية.لكن “البلدان التي تحتاج إلى أبطال ليست محظوظة” كما قال المسرحي الألماني الكبير برتولد بريشت، إذ دفعت فرنسا الثمن في النهاية. ولبنان واحد من هذه البلدان، فبعد الاستقلال ازدهر اقتصادياً وسياسياً وثقافياً حين لم يكن الحكام “قادة”، ولا كانت الناس تنظر إليهم وتتعامل معهم إلا كرجال مسؤولين عاديين.

ومنذ الحرب وهو في مدار الأزمات والانتكاسات، بعدما كثر الأبطال القادة في المنظمات الفلسطينية وتحت عباءة القيادة السورية وفي صفوف الميليشيات اللبنانية وما بقي من الجيش، ومن الصعب الخطأ في قراءة ما قصده الروائي الأميركي سكوت فيتزجرالد بالقول “أعطوني بطلاً وسأكتب لكم تراجيديا”.

وليس أمراً قليل الكلفة على لبنان أن يتصرف “حزب الله” كأنه “قوة إقليمية عظمى”، قوة تحارب إسرائيل بحراً وبراً وجواً كما قال حسن نصرالله، وتملك أسلحة قادرة على ضرب أي مكان في الكيان الصهيوني.

“قوة عظمى” تهدد قبرص العضو في الاتحاد الأوروبي والصديقة القريبة من لبنان وإليه، لتحذيرها من السماح للطائرات الإسرائيلية باستخدام قواعدها، وتشارك في حرب سوريا إلى جانب النظام وتقيم على أرضها قواعد ومراكز.

وتساند “حماس” في حرب غزة، وتساعد الفصائل العراقية المسلحة المرتبطة بإيران، وتقدم الكثير للحوثيين في اليمن. وتهدد بإغلاق البحر الأبيض المتوسط في وجه عبور الغرب، وسط محاولات الحوثيين إغلاق باب المندب والبحر العربي والبحر الأحمر والمحيط الهندي أمام الملاحة البحرية والتجارة العالمية.

كما تهاجم مواقف الأشقاء العرب في الخليج بما يؤذي لبنان ومصالح اللبنانيين، ويؤدي إلى انفراد إيران بالوطن الصغير، وتعمل ضمن “محور المقاومة” لطرد القوات الأميركية في غرب آسيا.

وهي قوة “مستقلة” عن السلطة الشرعية ومرتبطة بالحرس الثوري الإيراني، والسؤال هو: ما الذي يمنع القوى التي ترفع شعار تحرير فلسطين من التحرير إذا كانت إسرائيل على وشك الانهيار والسقوط، وكان “محور المقاومة” يملك الأسلحة الكافية لتدمير الكيان الصهيوني؟ لماذا خطاب التهديد إذا كان بالإمكان بدء التحرير عبر اجتياح الجليل بصرف النظر عن مزارع شبعا اللبنانية المحتلة؟

لماذا يعمد “حزب الله” بلسان أمينه العام حسن نصرالله إلى تصحيح فهم المخطئين في القراءة، وتقديم القراءة الصحيحة لهم حول قدرة المقاومة وما صارت تعرفه بالتفاصيل الدقيقة عن إسرائيل؟
المفارقة أن كل هذا وسط الحرب المفتوحة في ست جبهات، من أجل وقف الحرب في غزة بعدما قدمته “حماس” في عملية “طوفان الأقصى” ثم مواجهة حرب الإبادة الإسرائيلية. والإلحاح على وقف الحرب هو لإنقاذ “حماس” وبقائها في قطاع غزة بشكل أو بآخر، ثم للحفاظ على “حزب الله” وقوته.

يقول حسن نصرالله إن “هذه أعظم معركة تخوضها الأمة منذ عام 1948، ولها أفق واضح ومشرق، وسنغير وجه المنطقة وسنصنع مستقبلها”. في المقابل يقول وزير الدفاع الإسرائيلي يؤاف غالانت ورئيس الأركان هرتسي هاليفي من جبهة الشمال، “نحن مجبرون على تغيير الوضع في المنطقة”.

والتغيير المقصود هنا أصغر من الذي قصده نصرالله، إذ هو محدود في إطار الجنوب اللبناني والشمال الإسرائيلي. وليس تكبير الكلام سوى وسيلة لتجنب حرب شاملة يتم التهديد بها يومياً، إن لم يكن لتطمين الجمهور بعد الاطمئنان إلى أنه لا حرب شاملة لأسباب عدة.

أولها القدرة المتبادلة على الإيذاء والتدمير، وثانيها رفض الرئيس جو بايدن لحرب شاملة تتورط فيها أميركا عشية الانتخابات الرئاسية، بحيث يقال إن واشنطن تتمنى تجميد كل شيء في المنطقة والعالم خشية التأثير في الانتخابات، وثالثها حرص الجمهورية الإسلامية في إيران على الاحتفاظ بأوراقها ورأسمالها العسكري الذي تستثمره في المنطقة.

ومع ذلك فإن الانزلاق إلى حرب واسعة وارد، سواء أكان رداً على تجاوز كبير للخطوط الحمر أم نتيجة خطأ في الحسابات والتقدير، ولبنان يجد نفسه في مواجهة خطرين: حرب مدمرة ومشروع إقليمي خطر، وهما معاً حاضران حالياً وليس شيئاً في التصور، فالجبهة الجنوبية المفتوحة تشل كل شيء في لبنان وليس فقط الجنوب.

لا استثمارات ولا رئاسة ولا حكومة ولا إصلاحات ولا اتفاق مع صندوق النقد الدولي، هو محطة إجبارية على طريق التعافي المالي والاقتصادي، ولا سياحة. وما تضيفه الحرب الشاملة في بلد مفلس منهار اقتصادياً ومالياً وسياسياً هو الدمار الشامل الذي يعرف الجميع صعوبة إعادة الإعمار بعده، بالاتكال على مساعدات الأشقاء والأصدقاء المشغولين بأمور كثيرة والرافضين لهيمنة “حزب الله” على البلد.
أما المشروع الإيراني الإقليمي فإنه المشروع الجدي الذي لا مشروع مقابله أو ضده بل مجرد رفض وممانعة، وأما ما فعلته إيران في المنطقة عبر الحرس الثوري فإنه الأمر الذي لم تفعله أية قوة إقليمية أو دولية، ولعله هو أهم تطور منذ عام 1948.

فالمنطقة تنتقل من مرحلة الطوق العربي الكلاسيكي حول إسرائيل إلى مرحلة الطوق الميليشاوي بقيادة إيران، دول الطوق العربي أربع: مصر والأردن وسوريا ولبنان. مصر والأردن ذهبتا إلى سلام مع إسرائيل، وسوريا مشلولة منذ 2011، أما لبنان الذي اعتبرته القمم العربية “دولة مساندة” فصار الجبهة الأمامية الرئيسة في الحرب مع الدولة العبرية.

أما الطوق “الإيراني” فإنه من ميليشيات أيديولوجية مذهبية مسلحة من خارج الشرعيات في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، إضافة إلى “حماس” و”الجهاد” في غزة، وهي مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني. وليس تحرير فلسطين من خلال هذا الطوق سوى خطاب، أو في أفضل الأحوال محطة على طريق المشروع الإيراني، مشروع ولاية الفقيه، وما يخدم المشروع ليس الغيب فقط بل أيضاً التكنولوجيا وأحدث الأسلحة.

وليس في لبنان وحده قوة قادرة على تفشيل المشروع الأشمل من لبنان، وليس في العالم العربي مشروع معاكس تسنده قوى فاعلة. ليس في أميركا وأوروبا سوى عقوبات على إيران من دون أي مشروع جدي للمواجهة، لا بل إن طريق الصفقات مفتوح بين واشنطن وطهران عبر مفاوضات مباشرة وغير مباشرة في عُمان. وما بعد حرب غزة يصبح الطريق أعرض وأسهل، إن لم تندلع حرب شاملة تنخرط فيها أميركا وإيران، لكن المشروع الإقليمي الإيراني ليس قدراً لا يرد.