الركض في المكان: كيف تدير واشنطن وطهران الخلاف النووي؟

الركض في المكان: كيف تدير واشنطن وطهران الخلاف النووي؟

تحولت المواقف الأمريكية والأوروبية في مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية. فبعد أن كانت الولايات المتحدة الأمريكية حريصة على قيادة الكتلة الغربية نحو استصدار قرارات تصعيدية ضد إيران بسبب استمرارها في رفع مستوى أنشطتها النووية وكانت الدول الأوروبية تتبع سياسة أكثر مرونة في التعامل مع التصعيد الإيراني، بدأت تلك الدول في تبني مواقف أكثر حزماً تجاه إيران في حين اتجهت واشنطن نحو التهدئة مع الأخيرة.

هذا التغير في المواقف بدا واضحاً في اجتماع مجلس محافظي الوكالة خلال الفترة من 3 إلى 7 يونيو 2024. فرغم تحفظ الولايات المتحدة الأمريكية، أصرت الدول الأوروبية الثلاث: بريطانيا وفرنسا وألمانيا على تمرير مشروع قرار “إدانة” لإيران يطالبها بالتعاون مع الوكالة في الملفات الخلافية الخاصة بالإجابة على أسئلة مرتبطة بالعثور على جزيئات يورانيوم في موقعين، والسماح بدخول المفتشين الذين سبق أن سحبت التصاريح الخاصة بهم، وتركيب كاميرات المراقبة.

واشنطن في النهاية استجابت للقرار الأوروبي، وأيدته مع 19 دولة أخرى مقابل معارضة روسيا والصين وامتناع 12 دولة أخرى عن التصويت وغياب باراجواي لأسباب فنية. لكن اللافت في هذا السياق، هو أن صحيفة “نيويورك تايمز” أشارت إلى أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن طلبت إجراء تعديلات على مشروع القرار قبل طرحه للتصويت، بعد أن لاحظت أن “لهجة القرار قاسية”، وطلبت “تخفيفها”.

ربما يوحي ذلك بأن إدارة الرئيس بايدن تتبنى حالياً مقاربة تكتيكية مؤقتة في إدارة الخلافات العالقة مع طهران حول الملف النووي والتدخلات الإقليمية. هذه المقاربة ربما تلتقي في منتصف الطريق مع مقاربة إيرانية مقابلة. وتعتمد المقاربتان في النهاية على ضرورة لجم التصعيد النووي من جانب طهران والإجراءات المضادة له من قبل واشنطن وضبطهما عند مستوى معين، بحيث لا يؤثران على الحسابات التي تتبناها الدولتان سواء إزاء الخلافات العالقة أو تجاه التطورات التي تشهدها الساحة الإقليمية.

هنا، فإن ذلك يشبه، إلى حد كبير، فكرة “الركض في المكان”، التي تعتمد على إمكانية استمرار الحركة في نطاق معين دون تجاوز حدوده. وبعبارة أكثر وضوحاً، فإن المقاربتين تفسحان المجال أمام مواصلة اتخاذ خطوات مضادة لا تصل إلى نقطة اللاعودة. ويعني ذلك أن واشنطن سوف تتغاضى عن إصرار إيران على مراكمة المزيد من اليورانيوم المخصب بالنسب الحالية التي وصلت إليها إيران، ولاسيما نسبة الـ60%، بشرط أن لا تتجه إيران إلى إحداث اختراق في هذا الصدد بالوصول إلى نسبة الـ90%.

وربما يفسر ذلك أسباب تفضيل واشنطن خيار عدم التصعيد مع طهران، رغم أن التقرير الأخير الصادر عن الوكالة في 27 مايو 2024 كشف أنها زادت كميات اليورانيوم المخصب بشكل أدى إلى وصولها إلى 30 ضعف ما هو منصوص عليه في الاتفاق النووي (أكثر من 6200 كيلوجرام). صحيح أن واشنطن وافقت في النهاية على قرار مجلس المحافظين، لكن الصحيح أيضاً أنها لم تكن تسعى لاستصداره، بل إنها سعت إلى إقناع حلفائها بعدم طرحه للتصويت من الأساس.

وفي مقابل عدم وصول طهران إلى نسبة 90%، فإن واشنطن بدورها -وفقاً للمقاربتين- يمكن أن تفرض عقوبات أخرى على الأولى، بشرط أن لا تتخذ خطوات إجرائية لتطبيق بعضها، ولاسيما ما يتعلق بعرقلة محاولات طهران الالتفاف عليها، عبر مواصلة تصدير النفط إلى الخارج. وربما يفسر ذلك بدوره أسباب وصول صادرات إيران من النفط – رغم العقوبات الأمريكية – إلى نحو 1.5 مليون برميل يومياً خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام الحالي، بما يمثل نحو 60% من حجم صادراتها قبل الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي في 8 مايو 2018 وإعادة فرض العقوبات الأمريكية بداية من 7 أغسطس من العام نفسه.

اعتبارات عديدة
اتجاه واشنطن وطهران إلى تبني فكرة “الركض في المكان” لإدارة الخلافات العالقة، مرحلياً، يمكن تفسيره في ضوء دوافع عديدة يتمثل أبرزها في:

1- انشغال الدولتين بالانتخابات الرئاسية: يبدو المتغير الرئاسي حاضراً بقوة في حسابات الطرفين. إذ فوجئت إيران بحدوث فراغ رئاسي لم تكن مستعدة إليه، بعد وفاة الرئيس السابق إبراهيم رئيسي في حادث سقوط مروحية خلال عودته من زيارة لمحافظة أذربيجان الشرقية، في 19 مايو 2024، وسارعت إلى تحديد الخطوات الخاصة بإجراء الانتخابات الرئاسية المبكرة، في 28 يونيو 2024. إذ فتحت الباب أمام تقديم أوراق الترشيح، وبالفعل تقدم 80 مرشح للانتخابات، يجري مجلس صيانة الدستور حالياً عملية فحص أهليتهم للتنافس فيها.

هذا الحادث المفاجئ كان سبباً في تأجيل فتح ملف التعاون بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية، والذي تم التوافق عليه خلال زيارة المدير العام للوكالة رفاييل جروسي إلى طهران في 7 مايو 2024، والذي كان من الممكن أن يحول دون صدور القرار الأخير.

وبدورها، تستعد الولايات المتحدة الأمريكية إلى إجراء الانتخابات الرئاسية في 5 نوفمبر 2024، والتي يسعى الرئيس جو بايدن إلى تجديد ولايته عبرها لأعوام أربعة جديدة، لاسيما أنه قد يواجه منافسه السابق دونالد ترامب. وهنا، فإن انشغال الدولتين بالترتيبات السياسية الداخلية ربما دفعهما حالياً إلى “ترحيل” الخلافات وعدم التوجه نحو الوصول بالتصعيد إلى مرحلة غير مسبوقة يمكن أن تساهم في إرباك الحسابات الحالية.

2- الحفاظ على التهدئة الحالية: تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى الحفاظ على حالة الهدوء الحالية التي تترجم في عدم تعرض قواعدها العسكرية ومصالحها في كل من سوريا والعراق لتهديدات مباشرة على غرار ما حدث سابقاً، بشكل يمكن أن تضطر معه إلى التدخل عسكرياً مجدداً، وهو خيار لا تفضله حالياً مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية.

وقد كان الوصول إلى هذا المرحلة محور تفاهمات بين واشنطن وطهران خلال الفترة الماضية، بدت واضحة عندما تجنبت الأولى استهداف المصالح المباشرة للثانية خلال ردها عسكرياً على الهجوم الذي استهدف قاعدتها العسكرية في الأردن “البرج 22” في 28 يناير 2024، حيث ركزت على استهداف مواقع وقيادات مليشيات موالية لها في العراق وسوريا.

3- وقف التصعيد في البحر الأحمر: تحاول إدارة الرئيس بايدن وقف التصعيد العسكري الذي ما زال مستمراً في البحر الأحمر، منذ 19 نوفمبر 2023، عندما قامت مليشيا الحوثي باستهداف الناقلة “جلاكسي ليدر”، وبدأت في تهديد حركة التجارة في المنطقة، على نحو ساهم في دفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى توجيه ضربات عسكرية ضد مواقع المليشيا، بمساعدة بريطانيا في بعض الأحيان.

وربما كان لدى واشنطن طموح في أن تدخلها عسكرياً ضد المليشيا الحوثية يمكن أن يفرض ضغوطاً قوية على الأخيرة تدفعها إلى وقف تصعيدها العسكري. إلا أنها فوجئت، على ما يبدو، باستمرار المليشيا في هذا التصعيد، وإن كان بوتيرة أقل نتيجة الضربات التي تعرضت لها.

هنا، فإن واشنطن ربما تربط سعيها إلى التهدئة مع طهران الآن بمحاولاتها وقف التصعيد العسكري في اليمن. وقد يكون ذلك أيضاً محور تفاهمات أو اتصالات مع طهران، خاصة أن الدولتين أجرتا بالفعل مفاوضات غير مباشرة، على جولات متعددة، في سلطنة عمان، وهى أحد أكثر الأطراف المعنية بالملف اليمني.

في النهاية، يبقى القول إن الكرة الآن في ملعب إيران التي سيكون عليها أن تقرر ما إذا كانت ستواصل إدارة الخلافات مع واشنطن وفقاً للمقاربة نفسها، القائمة على فكرة “الركض في المكان”، أم ستعمد إلى تغيير قواعد الاشتباك السياسي باتجاه تصعيد غير مسبوق في ملفها النووي، على نحو سيكشف عنه رد فعلها المحتمل على القرار الأخير للوكالة.