اغتيال رئيس حركة«حماس»، إسماعيل هنية، في قلب مجمع الحرس الثوري الإيراني، فجر اليوم (الأربعاء)، واغتيال قائد أركان «حزب الله»، فؤاد شكر، قبله بساعات قليلة في قلب ضاحية بيروت الجنوبية، يجعل التعبير «ضربات محسوبة ومحدودة» موضوع تهكُّم وسخرية كبيرين؛ فهذا الاغتيال يفتح الباب أمام تصعيد في الحرب، بأقل احتمال، وتصعيد كبير جداً قد يتحول إلى حرب إقليمية شاملة، ولا يقل خطورة عن ذلك، يعني اغتيال المحتجزين الإسرائيليين لدى «حماس».
وتشير التقديرات إلى أن المجتمعين توقعوا أسوأ ردّ من الأطراف الأخرى، بما في ذلك عودة «حماس» إلى تنفيذ عمليات انتقام مسلحة داخل إسرائيل وعبر «حزب الله» الذي يهدد بالانتقام الشديد، وحتى دخول إيران بشكل مباشر، لاعتبارها اغتيال هنية إهانة عسكرية استراتيجية.
كل هذه الحسابات طُرِحت في الاجتماع الذي تقرر فيه تنفيذ اغتيال هنية، الذي ضم رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع، يوآف غالانت، ووزير الشؤون الاستراتيجية، رون ديرمر، ورئيس أركان الجيش، هيرتسي هليفي، ورئيس «الموساد»، الذي يترأَّس فريق التفاوض مع «حماس»، ديفيد برنياع، ورئيس المخابرات العامة (الشاباك)، رونين بار، الذي يشارك في هذه المفاوضات، وغيرهم من قادة الأجهزة. وقد بدأ الاجتماع في الثامنة من مساء الثلاثاء، واستمر بلا انقطاع. ودُرِست فيه كل السناريوهات ولم ينفضَّ إلا عندما «تأكدوا من إتمام العملية بنجاح»، فجر الأربعاء.
فماذا يعني ذلك؟
أولاً لافت للنظر تركيبة أصحاب القرار؛ فالاغتيال لم يكن قرار حكومة اليمين المتطرف، بل قرار الدولة العميقة في إسرائيل. فهذه المؤسسة تجري عادة حسابات واسعة وعميقة. فما الدافع لأن تتخذ قراراً مغامراً كهذا، تشترك فيه مع نتنياهو، الذي تتهمه بصراحة بالغة بأنه معنيّ بالاستمرار في الحرب لخدمة مصالحه الشخصية والحزبية؟ هل يوجد هنا التقاء مصالح مفاجئ؟
يبدو أن هذا هو السر. التقاء المصالح. وربما أكثر من ذلك؛ رضوخ المؤسسة العسكرية والدولة العميقة لإرادة نتنياهو. فما مصلحتها في هذا؟
هنا نأتي إلى بيت القصيد: الصرعات والصراعات الداخلية، التي لا تقل وزناً عن الحسابات الإقليمية والدولية. فالجيش الإسرائيلي وبقية الأجهزة الأمنية تعيش كارثة معنوية منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث وقعت في إخفاق يعتبره قادتها أكبر إخفاق في تاريخ الدولة العبرية. لقد حاولت التغلب على هذه الكارثة بحرب شعواء دمرت فيه قطاع غزة بشكل شبه كامل، فهم بوضوح على أنه ليس موجهاً ضد «حماس» لإبادتها بل ضد الشعب الفلسطيني كله. قتلوا نحو 40 ألفاً، ثلثاهم من النساء والأطفال والمسنين والعَجَزة. دمروا كل الجامعات والمستشفيات ومعظم المدارس والجوامع والكنائس. قتلوا علماء وصحافيين وأطباء ومعلمين وباحثين ومخترعين وفقهاء ورجال دين.
كان من أهداف هذه الشراسة ترك علامات تُحفَر في ذاكرة الشعب الفلسطيني كنكبة ثانية، مثلما حفرت أميركا في ذهن اليابانيين مجزرة هيروشيما، وفي ذاكرة الألمان مجزرة دريزدين. لكن هذا كله لم يحقق أياً من أهداف الحرب. وبقيت الصورة الختامية أن الجيش الإسرائيلي بعظمة قوته (ثلاثة أرباع المليون جندي ومئات الطائرات الحديثة والصواريخ الجبارة وآلاف الأطنان من المتفجرات) وبضخامة وحداثة أسلحته ودعم الولايات المتحدة وحكومات الغرب له، يدير حرباً تستغرق 10 أشهر ضد تنظيم مسلح محدود القوة (30 – 40 ألف عنصر) وفقير الأسلحة، ولم يستطع حسمها.
هذه المشكلة أثارت تساؤلات كثيرة لدى الحلفاء والأصدقاء، الذين كانوا يأتون لتعلم دروس الحرب من الجيش الإسرائيلي. ولكنها أثارت أسئلة أكثر لدى الجمهور الإسرائيلي. وبسبب الصراعات الداخلية في المجتمع الإسرائيلي، ومحاولات حكومة اليمين درء الاتهامات عنها بالمسؤولية عن الإخفاق، زاد اليمين على الوقود ناراً، فراح يحرض على قيادة الجيش ويتهمها بالفشل وبالجبن. ودلت الاستطلاعات على أن ثقة الجمهور الإسرائيل بالأجهزة الأمنية انخفضت بشكل حاد من 90 في المائة إلى 70 و60 في المائة.
وصار رئيس أركان الجيش وجنرالاته يتعرضون لإهانات حتى في جلسات الحكومة، من وزراء عديدين وليس فقط بن غفير وسموترتش. وكان نتنياهو يسمع ويسكت. ولكن ابنه لم يسكت فينشر في الشبكات الاجتماعية دعماً لحملة التحريض هذه.
ومن هنا كان الطريق قصيراً، لنرى المستوطنين يعتدون على جنود الجيش الإسرائيلي الذين يحمونهم في الضفة الغربية، وأكثر من ألفي عنصر من نشطاء الليكود والصهيونية الدينية يهاجمون ثلاث قواعد عسكرية، ويعتدون على الجنود برفقة وزراء ونواب، بحجة الدفاع عن جنود متهمين باغتصاب أسري فلسطينيين.
لقد قررت الأجهزة الأمنية استعادة هيبتها المهدورة، أياً كان الثمن، فانتهزت فرصة التراخي الأمني في الضاحية وفي طهران، ووجَّهت ضربتيها. ولديها قناعة بأن هناك مَن سيتدخل من وراء البحار لمنع توسع التوتر إلى حرب شاملة. فهل سيسعفها هذا الاستعراض للعضلات؟ أم أن الجشع لدى اليمين سيطالبها بالمزيد من هذه العضلات؟ هل سيكون الرد محسوباً ومحدوداً، ووفق أي حسابات؟