يقاس تقدّم الشعوب ونهوضها وتنميتها بقدرتها على الفعل الحضاري الشّامل، وبقدرتها على تغيير واقع الإنسان وتنميته، فضلاً عن مراكمة الثروات التي تعدّ وسيلة ضروريّة لتنفيذ المشاريع التّنموية، وإظهار المنجزات على أرض الواقع. وفي التجربة الإماراتيّة الحديثة، يمكن الحديث عن تغيير حضاري جوهري، يقوم على أسس نظريّة وعمليّة عدّة. إنّ التّجربة الإماراتية يمكن وصفها بالحالة الاستثنائية في الوطن العربي، لأنّ هناك دلائل كثيرة تثبت أن التّغيير الحضاري ليس مجرّد أفكار ترفع ولا شعارات، يقع التغني بها هنا وهناك، بل هي في جوهرها تغيير الإنسان، الذي هو الرأس مال الرمزي لأي مشروع حضاري كبير. هنا يمكن قراءة المثال الإماراتي، ضمن التوجهات الكبرى للشعوب التي تريد فعلاً أن تنسج طريقاً خاصاً بها، وأن تفرض نفسها بين المجتمعات الحيّة.
ترتكز التجربة التنموية التي تعيشها دولة الإمارات العربية المتحدة على مجموعة من الأسس التي تعطي لهذه التجربة سماتها الخاصة، فمنذ تأسيس الدولة على يد المغفور له بإذن الله تعالى، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، عمدت الإمارات إلى إكساب تجربتها التنموية صفة الشمول، حيث لم يتم التركيز على تطوير جوانب معيّنة دون أخرى، وهو ما حفظ لعملية التنمية توازنها. والسؤال الذي يطرح في هذا السياق، كيف بدأت قصة النجاح الإماراتي؟
كانت دولة الإمارات العربية المتحدة منطقة صحراوية حارة ذات كثافة سكانية قليلة..ولم تكن تملك سوى القليل من مصادر الثروة الطبيعية أهمها الخيران الشاطئية والتي جذبت على استحياء القليل من التجمعات السكنية وضمت تلك المساكن الطينية القديمة عددا قليلا من أبناء الإمارات الطيبين ذوي ذكاء وطموح.. فكان لهم باع طويل في التجارة وأهلهم صبرهم وسط البيئة القاسية للامساك بزمام مهنة الغوص وتجارة اللؤلؤ في منطقة الخليج .
لم تكن دولة الإمارات تمتلك في ذلك الوقت أية قاعدة اقتصادية تذكر.. ولم تتوفر فيها سوى مستويات بدائية من الرعاية الصحية والتعليم ..وعلى هذا المنوال سارت الإمارات قديما.. وظل وضع الأكواخ الطينية القديمة المطلة على الخيران كما هو دون تغيير حتى اكتشاف النفط في بدايات النصف الثاني من القرن الماضي وحتى بعد ظهور النفط ..فقد تم استخراجه بكميات قليلة لا تضاهي تلك الموجودة في دول الجوار ..ومع ذلك كانت دولة الإمارات تزدهر لأن الله حباها بالنفط وبمؤسس وقائد وطني هو المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان “طيب الله ثراه”.. وفي عهده لم يكن الازدهار الذي شهدته الإمارات على المستوى المحلي فحسب ..إنما غدت لاعبا أساسيا في المنطقة والمحافل الدولية ..كما أصبحت مركزا اقتصاديا لعمليات إعادة التصدير في الشرق الأوسط وشبه القارة الهندية.. فتحولت الخيران الضحلة الساكنة إلى ورش تجارية كبيرة تعج بالحركة والنشاط ليل نهار ..وتطورت تلك الخيران من برك بسيطة لصيد الأسماك حتى أصبحت اليوم من أكبر الموانئ العالمية بلا منافس مثل ميناء خليفة في ابوظبي وميناء جبل علي في دبي ..كما أصبحت ثالث أكبر مشغل للموانئ في العالم إثر فوز “دبي العالمية” بعدد من صفقات تشغيل أكبر الموانئ في العالم..هذا وتتمتع الإمارات بسوق أسهم نشط وآخر عقاري واعد.. فعلى سبيل المثال فإن شركة الدار العقارية وشركة التطوير والاستثمار السياحي ومنازل ومبادلة وريم للتطوير وإعمار تعد حسب التقارير الأخيرة من أكبر مطوري العقارات على مستوى العالم.
أما المشاريع الإنشائية العملاقة التي شهدتها الدولة وظهرت معالمها اليوم في العاصمة “أبوظبي” بشكل واضح كمنطقة جزيرة الريم وجزيرة الماريا ومنطقة شاطئ الراحة ومنطقة جزيرة ياس ومنطقة جزيرة السعديات وفي مدينة دبي كجزيرة النخلة وبرج العرب وبرج خليفة ..فقد غدت نموذجا يحتذى به ويلفت الأبصار ويشد الانتباه إلى ما يحدث في هذه البقعة من العالم التي تشهد تحولات جذرية في الجغرافيا وطبيعة المكان التي كانت غالبيتها عبارة عن رمال متحركة حسب اتجاه الرياح ..وتحولت اليوم لواحدة من أفضل المدن العالمية .
البداية كانت بملحمة قائدها الشيخ زايد الذي سخر كل الإمكانات المتاحة لتحقيق نهضة البلاد وتقدمها ..وليس غريبا عليه أن يوفر هذه الإمكانيات فهو صاحب المقولة الشهيرة : “إن العلم هو الطريق الوحيد للنهضة والتقدم ومواجهة تحديات العصر وخدمة التنمية في الدول النامية ..ودولة الإمارات حريصة على المشاركة قولا وعملا في دعم استراتيجية التنمية ونقل التكنولوجيا إلى دول العالم الثالث.”.
في الماضي القريب أمر الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان-رحمه الله- باستقبال الخبراء من دول العالم كافة للمشاركة في تخطيط وبناء الدولة الحديثة ..واليوم تعلم أبناء الإمارات الدرس سريعا وبدأوا يخوضون تجارب ميدانية يشاهدهم العالم بانبهار وهم يقفون في مواقع الإنشاءات الضخمة وعلى مشاريع التنمية العملاقة في الدول الشقيقة والصديقة يخططون ويوجهون أبناء تلك الدول فعكسوا صورة الأمس القريب ولا تتوانى قيادة الإمارات عن المشاركة والمساهمة في تخطيط وتنمية الدول الفقيرة والنامية.
وقد ورث سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبو ظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، والشيخ محمد بن راشد آل مكتوم،نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، النجاح الذي تحقق في عهد الشيخ زايد بن سلطان-رحمه الله- وعملا على تعزيزه في كافة المجالات. إذ تفرد الإمارات وتميزها ينبع من توجيهاتهما التي تمتاز بالرؤية الثاقبة في مجال الأعمال والمحرك الأساسي لها.
فبتوجيهاتهما حققت دولة الإمارات العربية المتحدة قفزات تنموية بفضل الاستقرار السياسي والأمني والاجتماعي والبنية الأساسية المتطورة التي أنجزتها والاستراتيجيات الاقتصادية والمالية التي انتهجتها والتي ترتكز على الحرية الاقتصادية وتشجيع الاستثمارات وتنويع مصادر الدخل القومي في تحقيق التطور الاقتصادي في مختلف القطاعات الإنتاجية.
حيث ارتفع الناتج المحلي الإماراتي بنحو 236 ضعفاً من 6.5 مليارات درهم فقط عند قيام الاتحاد في عام 1971 ليصل 1.54 تريليون درهم عام 2014، وتوقع صندوق النقد الدولي أن يرتفع الناتج المحلي في عام 2018 إلى 1.7 تريليون درهم، ويعود هذا التطور الهائل في ارتفاع مستويات الناتج المحلي إلى عدة عوامل من أهمها النمو المضطرد لمجمل الأنشطة الاقتصادية للقطاعات غير النفطية في إطار سياسة دولة الإمارات لتنويع مصادر الاقتصاد الوطني وعدم الاعتماد على النفط كمصدر وحيد للدخل.
وعلى مستوى التجارة الخارجية حققت دولة الإمارات العربية المتحدة تطورات لافتة نتيجة جملة من التشريعات الإيجابية في مختلف القطاعات الاقتصادية منها سياسة الانفتاح في تجارتها مع مناطق جديدة وصل عددها إلى نحو 200 سوق حول العالم والتطور في البنية التحتية للمطارات الأمر الذي عزز من الموقع الاستراتيجي للإمارات على خريطة التجارة العالمية. وبلغت التجارة الخارجية خلال النصف الأول من عام 2014 قيمتها الإجمالية ما مقداره 524.8 مليار درهم مقابل 557.9 مليار درهم خلال الفترة نفسها من عام 2013 بانخفاض قدره 33.1 مليار درهم وبنسبة وصلت إلى 6 بالمئة.
وكان للتبادل التجاري مع دول مجلس التعاون الخليجي أهميته، حيث جاءت المملكة العربية السعودية في المركز الأول من مجموع ترتيب قيم التجارة السلعية غير النفطية الكلية وبقيمة إجمالية مقدارها 17.4 مليار درهم خلال النصف الأول من عام 2014 مقابل 19.7 مليار درهم خلال نفس الفترة من عام 2013 وبنسبة انخفاض مقدارها 11.7 في المئة تليها في المرتبة الثانية سلطنة عمان حيث بلغت قيمة التبادل التجاري ما مقداره 13.2 مليار درهم خلال النصف الأول من عام 2014 مقابل 13.8 مليار درهم خلال نفس الفترة من عام 2013 وبنسبة انخفاض مقدارها 4.3 في المئة تلتهما حسب الترتيب كل من الكويت وقطر والبحرين وبقيمة 7.2 مليارات درهم و6.4 ثم 4.3 مليارات درهم على التوالي خلال النصف الأول من عام 2014. وبلغ إجمالي التجارة غير النفطية المباشرة بدولة الإمارات العربية المتحدة 524.7 مليار درهم بينما إجمالي تجارة المناطق الحرة في دولة الإمارات 269.6 مليار درهم خلال النصف الأول من عام 2014م.
أما عن الاستثمارات الأجنبية تتصدر دولة الإمارات العربية المتحدة منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الاستثمارات الأجنبية المباشرة الموجهة إلى الخارج خلال الفترة من 2006 وحتى نهاية 2013 التي بلغت نحو 223 مليار درهم. واستقطبت حتى نهاية عام 2013 استثمارات أجنبية مباشرة بقيمة 105.5 مليارات دولار لتتبوأ بذلك المرتبة الثانية عربياً بين الدول الأكثر جذباً لرأس المال الأجنبي في تقرير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية “اونكتاد” للاستثمار العالمي، كما صنف التقرير الإمارات ضمن أفضل 30 موقعاً عالمياً جذباً للاستثمار الأجنبي المباشر. وتمكنت دولة الإمارات من تحقيق مراكز متقدمة في تقرير التجارة العالمي 2015 والصادر عن منظمة التجارة العالمية حيث أعلنت المنظمة عن النتائج الدولية خلال مؤتمر صحفي عقده مدير عام المنظمة روبرتو أزيفيدو في مدينة جنيف لإطلاق تقرير المنظمة حول اتجاهات التجارة العالمية 2015. وحافظت الإمارات على مكانتها المتقدمة على خارطة التجارة العالمية وحلت في المركز ال16 لقائمة الدول المصدرة للسلع وبقيت محافظة على مكانتها كأهم سوق للصادرات السلعية على مستوى دول الشرق الأوسط وإفريقيا.
وفي المجال السياحي شهد قطاع السياحة والسفر في عهد سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبو ظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، والشيخ محمد بن راشد آل مكتوم،نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، تطورات كبيرة عززت مكانتها على خارطة السياحة العالمية وحلت بالمركز الأول عالمياً في تنافسية قطاع السياحة والسفر ضمن ستة مؤشرات شملها تقرير منتدى الاقتصاد العالمي للعام 2013 أبرزها استدامة التنمية في قطاع السياحة والسفر وفعالية الترويج السياحي والأمن والاستقرار وتطور البنية التحتية وخاصة المطارات الدولية والنقل الجوي وشركات الطيران الوطنية والخدمات المساندة حيث جاءت في المرتبة الثامنة عالميا وفي المرتبة الأولى شرق أوسطيا على قائمة الدول الأكثر تطورا في قطاع السياحة والطيران وفقا لتقرير التنافسية العالمي للسفر والسياحة للعام 2013.
وجاءت الإمارات في المرتبة التاسعة في حجم الاستثمار السياحي على مؤشر مجلس السياحة والسفر العالمي الذي يصنف 181 دولة في العالم، وبين التقرير أن حجم استثمارات دولة الإمارات في هذا القطاع قد بلغ نحو 92.9 مليار درهم في عام 2013 مقارنة مع 84.3 مليار درهم في عام 2012 وبنسبة نمو تبلغ نحو 10 في المئة، وتوقع التقرير أن ترتفع نسبة النمو إلى 7.2 في المئة لتزيد حجم الاستثمارات إلى 104.4 مليار درهم بحلول العام 2014 وتصل 137.9 مليار درهم في عام 2022. وأوضح التقرير أن هذه الاستثمارات تتركز في إنشاء المرافق الترفيهية العالمية والمنشآت الفندقية الفاخرة وغيرها من الخدمات السياحية المساندة والجاذبة. وفي السياق ذاته أكد مجلس السياحة والسفر العالمي في تقريره أن دولة الإمارات تستحوذ على النسبة الأعلى من الاستثمارات في التطوير السياحي على صعيد منطقة الشرق الأوسط التي بلغ حجم الاستثمارات الكلي فيها 149,1 مليار درهم في العام 2012. فقد بلغ عدد السياح الذين زاروا الإمارات في العام 2012 كوجهة سياحية مفضلة 11,2 مليون سائح ومن المتوقع أن ينمو هذا العدد باضطراد ليصل إلى 18.8 مليون سائح في العام 2022، وقد بلغ إجمالي إنفاق السياح داخل الإمارات 111 مليار درهم، ويتوقع أن يصل إلى 113.8 مليار درهم بحلول عام 2022.
وتجدر الإشارة إلى أن المساهمة الإجمالية لقطاع الطيران والسياحة بالقطاع الوطني بدولة الأمارات العربية المتحدة يبلغ 150 مليار درهم أي ما يعادل 15 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وجاءت الإمارات في المرتبة الرابعة عالميا في البنية التحتية السياحية والأولى في بنية الطيران وقطاع النقل الجوي وتربعت على عرش السياحة في المنطقة واستقطبت فنادق الدولة في العام الماضي نحو 15 مليون سائح ونزيل من الدول الخليجية والعربية ومختلف دول العالم.
وتشكل صناعة النفط والغاز في الإمارات عصب الاقتصاد وتقوم سياستها في هذا المجال على الاستغلال الأمثل المستدام للنفط والغاز بما يحفظ للأجيال المتعاقبة نصيبها في هذه السلعة الناضبة. وخصصت مجموعة شركة بترول أبوظبي الوطنية نحو 260 مليار درهم للاستثمار في قطاعات النفط والغاز والبتروكيماويات خلال الأعوام العشرة المقبلة لتنفيذ مجموعة من المشاريع التطويرية لزيادة إنتاج النفط إلى 3.5 ملايين برميل يوميا بحلول العام 2017 من 2.5 مليون برميل حاليا، كما يتوقع أن يرتفع إنتاجها من الغاز إلى 7.5 مليارات قدم مكعب من ستة مليارات حاليا، وتحتل دولة الإمارات المركز الثالث في احتياطي النفط في العالم ويصل إلى 98 مليار برميل فيما تعتبر خامس دولة في إنتاج الغاز الطبيعي ويبلغ احتياطيها منه نحو ستة تريليونات قدم مكعب.
وتواصل دولة الإمارات جهودها في تنفيذ المزيد من مشاريع البنية الأساسية المتطورة وخاصة في قطاعات الطاقة والنقل والمطارات والموانئ الدولية وشركات الطيران الوطنية ومشاريع السكك الحديدية والمترو والمواصلات والطرق الخارجية والداخلية والجسور والأنفاق وغيرها من مشاريع البنية الأساسية المتكاملة.
ولا تقتصر قصة النجاح عند هذا المستوى بل انتقلت إلى مستوى آخر وهي صناعة المعارض والمؤتمرات والفعاليات الأخرى التي تميزت بها الإمارات في جعلها مركز جذب سياحي وتجاري عالمي، حيث انضمت لعضوية منظمة السياحة العالمية، وأودعت رسميا في 2 مايو 2013 وثيقة انضمامها لدى الإدارة التقنية للمنظمات الدولية في وزارة الخارجية الإسبانية كونها الجهة المودعة للنظام الأساسي للمنظمة حيث تم بذلك التصديق على الإيداع وقبوله ودخوله حيز التنفيذ.
في سياق التنمية الإماراتية ذات الأبعاد المتنوعة وتعميق الأبعاد الثقافية لتجربة التنمية الشاملة، استضافت العاصمة أبوظبي، خلال الأيام القليلة الماضية، أحداثاً مهمّة، جاء في مقدّمتها “مهرجان المفكرين والمبدعين العالمي الثاني”، الذي عقد تحت رعاية الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلّحة، ونظّمته “كليّات التقنية العليا”، بمشاركة نحو 150 عالماً ومفكراً بينهم ما يقرب من 20 من حملة جوائز “نوبل” في مختلف التخصّصات العلمية. وفي أكبر مشروع للترجمة في العالم العربي، أعلنت أبوظبي، مؤخراً، عن مشروع “كلمة”، والذي يعدّ أضخم مشروع ثقافي في الدول العربية قاطبة للترجمة، وسيكون متخصّصاً في ترجمة الكتب والمؤلفات الأجنبية إلى اللغة العربية. ومشروع “كلمة” هو مبادرة ثقافية أطلقها في الأصل الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلّحة، خلال زيارته “معرض أبوظبي الدولي للكتاب” في دورته الأخيرة، حيث وجّه سموه حينها بتفعيل حركة الترجمة للغة العربية لمختلف العلوم والمعارف الإنسانية.
إن البحث في التجارب الحضارية الناجحة لشعب من الشعوب، تدفعنا إلى الوقوف على جملة من الاستنتاجات، التي يمكن سحبها على التجربة الإماراتية. فنحن نجد أن المفكرين العرب قد حاولوا اقتباس الأفكار التي تجعل مجتمعاتنا تتقدم بوتيرة تجعلها في مصاف المجتمعات المتقدّمة. لكن مضى أكثر من قرن ونصف القرن، وحلم النهضة الحقيقية والتنمية الشاملة لم يكتمل، نتيجة عوامل ذاتية وموضوعية متداخلة ومعقّدة، عطّلت الحلم العربي الشامل. لكن هذا لا يمنع من وجود تجارب استثنائية استطاعت أن تفرض نفسها في سياق النجاح الحضاري.
في المثال الإماراتي هناك ما يمكن تسميته في القراءات العلمية للمشاريع الحضارية بقوانين الثورات الكبرى. ومن هذه القوانين نجد مفاهيم التغيير في الدولة القائمة، والوحدة كمشروع مستقبلي، والعلم باعتباره الجسر الذي لا بدّ منه للعبور إلى مصاف المجتمعات المتقدّمة.
ففي ما يتعلّق بالتّغيير في الدولة القائمة، بحسب تعبير الدكتور عبدالله العروي، نجد أن من شروط نجاح المثال الإماراتي، يكمن في استثمار القدرات المتوفّرة من أجل العمل والبناء والإنتاج، وهذه الاستراتيجيات أثبتت فعاليتها في وقت وجيز، إذ خرجت الدولة من الرهان على الثروة النفطية إلى تنويع الأنشطة الاقتصادية ليصبح النفط مجرّد عنصر من عناصر الثروة الوطنية، وهناك يمكن الحديث عن أن طاقة البترول، وقع استثمارها بالشكل الصحيح، بمعنى أنها تحوّلت إلى أداة للتنمية وليست غاية حدّ ذاتها. وهذه التوجهات أنجزت بقناعات ذاتية، بأن البترول ليس هو الثروة في حد ذاتها، وإنما هو وسيلة لخلق ثروات أخرى أكثر ديمومة. ولكن هذا النجاح يعبر أيضاً عن انفتاح القيادة السياسية في هذا البلد العربي على الأفكار الناجحة في العالم، وأخذ منها ما يساهم في التقدم، فيؤثر عن الشيخ زايد، رحمه الله، قوله: «لقد أسهم الآباء في بناء هذا الوطن، وواجبنا أن نبني للأجيال القادمة، وأن نواصل مسيرة الأسلاف، وعلينا أن نستفيد من كافة الخبرات والتجارب دون خجل، نأخذ منها بقدر ما يفيدنا ونحتاج إليه وبقدر ما يتفق مع تقاليدنا ومثلنا العربية».
عنصر الوحدة مهمّ جداً في فهم تجارب التغيير الناجحة. والحقيقة أن مفهوم الوحدة، تم رفعه من قبل الأحزاب التي تحمل الأفكار القوميّة، ولكن كل التجارب انتهت إلى فشل، لأسباب تتعلق بعدم فهم للأفكار القومية المستوردة وبسبب قصور في فهم أهداف الوحدة العربيّة.
ولكن في المثال الإماراتي، كان الطريق مغايراً، فهذه الحالة الاتحادية الناجحة، جعلت من مفهوم الوحدة، عنصراً فعّالاً في مشروع تقدمي شامل، يكون في الانتماء إلى الاتحاد خياراً للمستقبل وليس مجرّد حنين إلى الماضي. والشعوب التي فهمت مصطلح الوحدة فهماً صحيحاً هي التي نجحت في تحويل «الوحدة» من حالة وجدانية إلى وضعيّة للعمل والبناء والإنجاز، والتجاوز نحو المستقبل الأفضل. حالة الاتحاد اليوم هي تعبير واضح عن أنّ الوحدة يمكن أن تكون عنصر بناء وعنصر قوّة.
الدعامة الثالثة هي العلم، والحقيقة أن الأقوال التي ذكرنا في مطلع هذا المقال تثبت الوعي العميق بأهمية العلم في بناء الإنسان العربي في الإمارات بناء مختلفاً ومغايراً. فالاستلهام من العلوم الحديثة وتنويع التجارب التعليمية مع كبرى الجامعات الدولية، لنقل المعارف وغرسها في التربة الإماراتية الخصبة، من شأنها أن تحرّر العقل والإنسان بصفة عامة من الانغلاق والتعصّب، وترتقي به إلى طلب الرّقي، وهي خطوات أساسيّة لإحداث الثورات الحقيقية الكبرى، ثورات البناء والوحدة، والتغيير. والتجربة الإماراتية استوفت هذه الشروط.
بلغة الإنجازات والأرقام فقد تحقق لدولة الإمارات الشيء الكثير منذ قيام الاتحاد في العام 1971م وتولي الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان – رحمه الله – مقاليد الحكم حتى وفاته وعلى نفس الخطى والنهج ذاته يواصل صاحب الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبو ظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، والشيخ محمد بن راشد آل مكتوم،نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، مسيرة الإمارات التنموية وعلى الأصعدة كافة جاعلين من الإنسان وتنميته ذاتيا المحور لقيام أية تنمية شهدتها وستشهدها الإمارات في قادم أيامها.
وفي الختام: يمكن القول أربعة وأربعون عاما من الريادة والتميز لدولة الإمارات العربية المتحدة التي باتت من دول العالم المتقدم نظرا لما شهدته وتشهده من نهضة عمرانية وصناعية واقتصادية وثقافية وعلمية وغيرها يحق لأشقائنا أن يفرحوا باليوم الوطني لاتحاد الإمارات ويحق لنا نحن اليمنيين أن نفرح معهم ونفتخر بقيادة وشعب هذه الدولة الشقيقة التي دأبت ومنذ عقود على مد يد العون لإخوانهم في اليمن وتقديم مساعدات تتمثل على شكل منح وإعانات وقروض تنموية في مجالات عدة كالتعليم والصحة والطرقات والكهرباء والزراعة ناهيك عن المبادرات الإنسانية في أوقات الكوارث والأزمات والتي تكاد لا تتوقف.
فبعد مرور أربعة عقود على تأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة أصبحت واحة للسلام والرخاء والتقدم في منطقة حافلة بالاضطرابات وبات اقتصادها الثاني عربيا والأكثر تنوعا بين اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي ونجحت في بناء أفضل بنية تحتية في العالم العربي وأصبحت تستقطب أفضل وألمع الكفاءات من المنطقة والعالم وتتمتع بعلاقات خارجية ممتازة وباتت محط إعجاب وتقدير جميع دول المنطقة والعالم أجمع ينظر إليها كونها أهم أمثلة العصر الحديث على نهضة الدول العربية وسط جيرانها في الشرق الأوسط .
وحدة الدراسات العربية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية