الحوار مع الأستاذ محمد حسنين هيكل يكتسب مضمونا مختلفا، ومذاقا خاصا حين يكون عن السياسة الدولية ومجلتها، وهيئة تحريرها، فهو ليس مجرد حوار إعلامي. إنه كذلك، وأكثر. فالرؤية في هذا الحوار غالبة علي الرأي، والنظر إلي المستقبل غالب علي تحليل ما هو حاصل في الواقع الراهن.
قدم الأستاذ في هذا الحوار رؤية جديدة لأوضاع العالم الآن، مقارنة بما كانت عليه قبل 50 عاما، حين رأي ضرورة إصدار مجلة “السياسة الدولية”. وحظيت السياسة الخارجية المصرية، والتحديات التي تواجه عملية إعادة بنائها وتفعيلها، بعد أربعة عقود كاملة تقريبا من التخبط والركود، باهتمام خاص.
كما شغلت أوضاع المنطقة المفتوحة علي مزيد من الاضطراب والصراع مساحة كبير في هذا الحوار، الذي كان طبيعيا أن يروي فيه الأستاذ قصة إصدار “السياسة الدولية” في لحظة لم يعرف فيها العالم العربي كله هذا النوع من المطبوعات الدورية شبه الأكاديمية. وكان ضروريا أن نسأله في هذا السياق عن مشروعه المعرفي والتنويري الذي شرع فيه منذ أن تولي رئاسة تحرير جريدة “الأهرام”، وظروف انتقاله إليها ليجعلها أكبر مؤسسة صحفية في العالم العربي.
كانت “السياسة الدولية” هي المطبوعة الأولي من نوعها في العالم العربي كله، كما كانت تلك هي المرة الأولي التي تصدر فيها مؤسسة صحفية عربية مجلة أكاديمية دورية .. فكيف فكرت في إصدارها؟
هيكل: لم يكن في العالم العربي عام 1965 مجلة دورية، ومراكز تفكير مهتمة بالعلاقات والقضايا الدولية. وكانت فكرة تأسيس مجلة “السياسة الدولية”، وكذلك مركز الدراسات، جديدة في ذلك الوقت.
وكان نموذج “فورين أفيرز” ماثلا أمامي، ورأيت وقتها أن هناك ضرورة لاستشراف ما هو أبعد عن المرئي علي الساحة الدولية. ولذلك، وبعد أن ذهبت إلي “الأهرام” مع السيد بشارة تقلا، وكان لديه مشروع بإصدار مجلة الأهرام الاقتصادي، بإشراف الدكتور بطرس غالي، وكانت فكرة مجلة لـ “السياسة الدولية” في الوقت نفسه تلح علي، واقترحت علي بشارة تقلا أن يتولي د. بطرس غالي رئاسة تحريرها. وكنت أثق به وأقدره، رغم اختلافنا في أمور كثيرة.
وكنت حريصا علي أن يقوم الأهرام بدور معرفي وتنويري، وأن تكون له مطبوعاته ومنابره التي تسهم إلي جانب الصحيفة اليومية في هذا المجال، وأن تكون هذه المطبوعات متنوعة. ولذلك، أصدرنا مجلة “الطليعة” أيضا في ذلك الوقت. وجاء إنشاء مركز الدراسات في هذا الإطار، حيث بدأ بوحدة للدراسات الفلسطينية والصهيونية. وبعدها، أنشأنا وحدة التاريخ المصري المعاصر من قسمين، الأول بدأ يؤرخ الفترة من عام 1919 بافتراض أنه كان بداية مرحلة جديدة، وكلفت حسن يوسف باشا بإدارة هذا القسم، لأنه كان ملما بالعصر الملكي. أما القسم الأخير من وحدة التاريخ المصري بالمركز، فبدأ بعام 1945، وتولي مسئوليته الدكتور محمد أنيس. وتتالت بعد ذلك الوحدات، فتم افتتاح وحدة خاصة للشئون العسكرية حتي تطور المركز، وأخذ شكله الحالي.
كيف رأيت الأعداد الأولي من “السياسة الدولية” من حيث المحتوي، خاصة أنك متابع جيد لمجلة “فورين أفيرز”؟
هيكل: كانت هناك مرحلتان، الأولي كانت بمنزلة مرحلة “تجريب”. فالفكرة كانت حديثة وقتها، والكتاب والباحثون الأكاديميون كانوا يكتبون دراسات طويلة، بينما المجلة كانت في حاجة إلي موضوعات متوسطة الحجم، وتصلح لدورية تباع للقارئ.
أما المرحلة الأخيرة التي يمكن أن نسميها مرحلة “الانتشار”، فقد بدأت ضعيفة في ظل الاهتمامات العامة في البلد في هذا الوقت. فتجربتي في ” الأهرام ” علمتني أن هناك ثلاثة أهداف رئيسية في المهنة (الصحافة) وهي: الإخبار، والتعليم، والترفيه، والجزء الأصعب جدا من هذه الأهداف هو التعليم الذي كانت تقوم به “السياسة الدولية” أكثر من أي مطبوعة أخري.
وأتذكر أننا منذ عام 71، كنا نفكر في التحضير للاحتفال بالعيد المئوي للأهرام في عام 1975، ونفكر أيضا فيما بعد الحرب، فأسسنا لجنة يرأسها الدكتور محمود فوزي (نائب رئيس الجمهورية، وزير الخارجية الأشهر)، ومن أعضائها بطرس غالي، وتوفيق الحكيم، وأحمد بهاء الدين، وعبدالملك عودة، وسماها فوزي “مهمة التعمير الحضاري”. وبدأنا نفكر في كتابة تاريخ مصر الذي لم يكتب بعد، علي الرغم من أن العديد من ظواهره يجري بحثه في الخارج. وكان من أحلامي آنذاك أن نقوم بإرسال بعثات من دارسي الدكتوراه إلي الأماكن التي لنا بها صلة في التاريخ الحضاري لعصر النهضة. وبالفعل، رتبنا لإرسال بعثات إلي جنوا، وفينيسيا، وفلورنسا. ففي هذا المناخ الذي كنا نفكر فيه بإعداد دراسات جادة عن التعمير والتنوير، صدرت مجلة “السياسة الدولية”.
هل تري أن “السياسة الدولية” كانت تخدم “أجندة” النظام السياسي، أم أنها كانت تتجاوز ذلك لتعكس “أجندة” المجتمع ككل؟
هيكل: لا، لم تكن “السياسة الدولية” ولا مؤسسة “الأهرام” عامة تتبع “أجندة” النظام السياسي بخلاف ما كان شائعا في هذا الوقت، ولكن ربما ظهرت هذه الفكرة بالضرورة في فترة ما بعد حرب سنة 1967 في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، حيث كانت هناك وحدة صغيرة جدا تقوم بعمل تقرير يومي عن الأولويات في ظروف الحرب، وإرسال نسخة منه كل يوم إلي الرئيس جمال عبد الناصر، يحملها إليه الأستاذ حاتم صادق، وهو زوج هدي عبدالناصر، وكان هو بدوره يناقشني فيه. لكن عندما تولي السادات رئاسة الدولة، توقفت هذه التقارير، لأنه لم يكن يحب القراءة، وكان يري أن عبد الناصر مات تحت ثقل الورق الذي كان يطلع عليه.
وأتذكر أنني كنت في القناطر ذات مرة مع الرئيس السادات علي ظهر الذهبية “ستار” الراسية إلي جوار استراحة الرئيس، وجاء سكرتيره فوزي عبد الحافظ يحمل بعض الملفات. وعندما رآه السادات، قال له: “ارجع، دول عاوزين يموتوني تحت الورق اللي مات تحته جمال”، فأوقفنا هذه التقارير.
بمناسبة الإشارة للرئيس جمال عبدالناصر، هل هو من طالبكم بإنشاء مجلة ” السياسة الدولية”؟
هيكل: هذا لم يحدث حقيقة، ولكن عبد الناصر كان مهتما بـ “الأهرام”، وكان حلمه بعد أن يترك رئاسة الجمهورية -كان يتصور ذلك- أن يعمل كرئيس تحرير “الأهرام”. وهناك ثلاث صور موجودة في مكتبي، الأولي وأنا أجلس علي مكتبي في “الأهرام”، وصورة أخري لعبدالناصر وهو يجلس مكاني علي الكرسي، والثالثة والأخيرة للسادات علي كرسي رئيس تحرير “الأهرام”. وكان عبدالناصر يهوي الكتابة، ومهتما بالصحافة. وأود أن أشير إلي أنه لم يفتتح مبني “الأهرام” الذي أقمناه عام 1968، وإنما زاره مدعوا من هيئة تحريره، بعد أن سمع عنه من زوار له، حدثوه عما رأوا، وهكذا كان هو الذي تفضل وطلب زيارة “الأهرام”، وسعدنا بزيارته. ولعلي أضيف هنا أن مشروع “الأهرام” الجديد لم يأخذ مليما من الدولة، وقد حقق ما حقق بموارده. وحتي العملة الصعبة التي احتاج إليها في ذلك الوقت، وفرتها مبيعات مطبوعاته في العالم العربي والعالم الخارجي. وكانت “الأهرام” من كبار دافعي الضرائب، لأنها كانت تحقق أرباحا ضخمة في تلك الفترة.
معظم الشباب، بل أغلب المصريين لا يتذكرون ظروف انتقالك إلي “الأهرام”، والذي كان بداية تحوله من صحيفة إلي مؤسسة كبري حملت مشروعا معرفيا تنويريا؟
هيكل: بدأت مشواري المهني في جريدة الـ “إيجيبشيان جازيت”، ثم شاركت مع مراسل الجريدة مساعدا له في تغطية معركة العلمين، ومعركة تحرير فرنسا، وعملت لفترة في مجلة “آخر ساعة”، ثم انتقلت بعدها لـ “أخبار اليوم”، وكنت سعيدا بتجربتي فيها، وفيها قمت بتغطية أحداث الحرب الأهلية في إيران وكوريا، حيث كان علي أمين مديرا متميزا.
وعندما ذهبت إلي “الأهرام”، مكثت في مكتبي شهرا لدراسة الوضع، وكانت المفاجأة أنه لا أحد من أصحابها يقرأ العربية، فقد كتبت تقريري الأول باللغة الإنجليزية. ووقتها، كانت “الأهرام” توزع 68 ألف نسخة، وتخسر منذ عشر سنوات سابقة علي رئاستي لتحريرها. وقالت لي مدام تقلا -حين قابلتها في أول مرة- إن الأسرة ضاقت ذرعا بخسائر الأهرام، وإنها فكرت جديا في الهجرة إلي لبنان، وهي ستسافر، لأنها ورثت حصة عائلتها في بنك تجاري في بيروت، ولديها ثلاثة طلبات: الأول أنها لا تريد أن تخسر أموالها، فوافقت. والثاني أن تقوم “الأهرام” بدفع قيمة زياراتها للأوبرا، فقلت لها لا أستطيع، لأن هذا فيه خلط للخاص بالعام. والطلب الأخير أن زوجها كانت له شقة في باريس باسم “الأهرام” كمراسل، وهي تريد تسجيل هذه الشقة باسمها، فوافقت، وانتهي الأمر.
نريد أن نلقي نظرة مقارنة علي وضع العالم عند صدور مجلة “السياسة الدولية” عام 1965، مقارنة بالوضع الحالي، وكيف تري التغير بين هاتين الفترتين، بعد مرور نصف قرن؟، ونود أن نذكرك ببعض العناوين التي تصدرت أغلفة المجلة في عدديها الأول والثاني، والتي تعبر عن الاتجاهات السائدة في المجتمع الدولي آنذاك: فقد تناولت المجلة في عددها الأول مثلا أزمة فيتنام والسلام العالمي، ومؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية وعلاقته بعدم الانحياز، والقنبلة الذرية الصينية وآثارها الدولية، ورياح الثورة في البحر الكاريبي. وفي عددها الثاني، تناولت السياسة السوفيتية والدول الأفرو-آسيوية، والحزب الشيوعي في الصين الشعبية، والجامعة العربية، والطيران المدني، والصحراء، والاشتراكية الإفريقية.
هيكل: لابد أن نعرف أن الصحافة جزء من العالم السياسي، أو، بمعني آخر، هي مرآة للاهتمامات السياسية لبلد ما في فترة زمنية من تاريخها، لذا كانت مجلة ” السياسة الدولية ” سابقة في مجال اهتمامها في هذا الوقت، ومتماشية في هذا مع السياسة المصرية. لكن ما حدث الآن لـ “السياسة الدولية” و”الأهرام” هو أنه بمقدار ما انكمشت السياسة، انكمشت الصحافة. في أحيان كثيرة، يتصور الناس أن المؤسسات مستقلة عن السياسة، لكن الحقيقة أننا في هذه المهنة (الصحافة) أقرب مما يمكن تصوره إلي سياسة البلد، والحكم، والاتجاهات السائدة فيه. فنحن أثرنا بشكل أو بآخر. ولكن ما إن تنكمش السياسة، ينكمش كل شيء آخر.
وكانت “السياسة الدولية” في بدايتها مهتمة بالعالم الإفريقي والآسيوي، ومواكبة لعصرها، وفاعلة فيه، لأن مصر كانت فاعلة وقتها في قلب حركات التحرر، والعالم الثالث،
ومنظمة الأمم المتحدة. ولا أبالغ حين أقول إن مجموعة الدول الآسيوية والإفريقية سيطرت في ذلك الوقت علي منظومة الأمم المتحدة حتي انصرفت الدول الكبري عنها لتدبير أمورها في مكان آخر. ومجلة ” السياسة الدولية ” هنا كانت تعبيرا ومرآة عكست ذلك التحرك.
كيف تري، إذن، العلاقة بين تطور الوضع السياسي في مصر وما حدث في الصحافة عموما، و”الأهرام” بصفة خاصة؟
هيكل: لم تشهد “الأهرام” منذ تأسيسها وحتي تركتها (نحو مئة عام) سوي أربعة رؤساء تحرير، وتوالي عليها بعد ذلك أكثر من عشرة رؤساء تحرير في 40 عاما. وبالتالي، فالمؤسسة تعرضت لظروف صعبة. وقد كنت أقول دائما إن “أخبار اليوم”، بعد “آل أمين”، تعاقبت عليها الدول مثل أوروبا الشرقية. وفي مرحلة من المراحل، أصبحت “الأهرام” مثلها، مما أدي إلي تراكم مشاكلها. فعندما تركت “الأهرام” عام 1979، كانت بها احتياطيات بالملايين من النقد الأجنبي والمصري. وبسبب اكتساحنا السوق في بيروت، طلبت نقابة الصحفيين هناك عدم توزيع “الأهرام” فيها قبل الساعة الخامسة صباحا، لكن المشاكل تراكمت بعد ذلك.
في الوقت الذي صدرت فيه “السياسة الدولية”، كان هناك هيكل للنظام العالمي، ومصر كان لديها اتجاه واضح في التعامل مع القوي الدولية الرئيسية، والآن هناك هيكل آخر ينطوي علي تغير في القوي الموجودة علي قمة النظام العالمي، ومصر خارج هذا كله منذ ثلاثين عاما، واليوم تحاول أن تجد مكانا لها .. كيف تري حركة مصر الخارجية لإيجاد موقع جديد لها؟
هيكل: أري أن ما نحن فيه الآن ما هو إلا محاولة من النظام الجديد لتقديم نفسه للعالم الخارجي. وحتي نكون واضحين، لا يستطيع طرف أن يجازف ويخرج للعالم الخارجي، ويكون طرفا فيه، إن لم تكن قاعدته الوطنية الداخلية مستقرة.
السياسة الدولية: إلي أن يكتمل البناء الوطني في وقت لا نستطيع تحديده، وبكيفية لا نعرفها، كيف تتعامل مصر مع هذا الوضع المضطرب دوليا وإقليميا؟
هيكل: عندما يذهب أي أحد لأي بلد، فأول سؤال يتعرض له: من أنت؟، ومن تمثل؟ ففي اللحظة الراهنة، لا أعتقد أننا طرف فاعل. فلابد أن تكون القاعدة الداخلية قادرة علي تحمل تحركات الدولة الخارجية، وبالتالي لا تقل لي إننا قادرون في هذه اللحظة علي لعب دور في السياسة الدولية. لذا، لابد من تقوية الأوضاع الداخلية، وأن تكون قاعدة علاقتنا بالعالم الخارجي هي العالم العربي. ولا تنس أن إحدي مشاكل مصر الداخلية هي أن موقعها يفرض عليها إما أن تتدخل، أو أن يتدخل الآخرون في شئونها. ولذلك، نحن مضطرون للقيام بدور. ولكن لتفعيل هذا الدور، لابد أن نستكمل بناءنا الداخلي ونقويه.
في بداية نشأة الدولة المصرية الحديثة، بعد الحملة الفرنسية، كان مجال العمل السياسي وممارسة النفوذ المصري ينطلق من المنطقة العربية وإفريقيا، لكن البناء المعرفي والثقافي المصري كان مرتبطا بمرحلة التنوير والحداثة في أوروبا، من خلال البعثات التي كان يتم إرسالها إلي الخارج. وهناك من يري أنه منذ الستينيات، تم استغلال جزء كبير جدا من الحداثة، التي راكمتها مصر، منذ القرن التاسع عشر، في علاقتها مع المشرق العربي بشكل أساسي لدرجة أننا لم نعد نستطيع أن ننتج قوة ناعمة جديدة وحقيقية .. فما رأيك؟
هيكل: أنا أختلف تماما مع هذا الرأي، لأن كل قوة مصر الناعمة نشأت بالأساس من خلال التفاعل مع المشرق، ودائما ما أضاف المشرق إلي مصر كما أخذ منها. فنحن استقدمنا الكثير جدا من المشرق في حركة التنوير الأولي، من خلال الجرائد، وحركة التنوير الثانية، من خلال العلم، وسياسيا بالمد الموجود. ومن الجدير بالذكر أن استثماراتنا كلها كانت في المشرق، وكانت أعظم استثمارات في تاريخنا.
في الوقت الذي أصبحت فيه قدرتنا علي التأثير محدودة أو غائبة، نجد أن قابليتنا للتأثر بالأخطار الموجودة في المنطقة كبيرة، وكرة اللهب تتدحرج في المنطقة من بلد لآخر، كيف تري الحروب الدائرة حاليا في المنطقة؟، وكم ستستغرق من وجهة نظرك؟
هيكل: من المهم جدا الحديث عن المستقبل، وليس الماضي، وأكثر ما أخاف منه في اللحظة الراهنة -رغم تعدد المخاوف- هو أن تكون الأمور قد خرجت من أيدي أصحابها، وأصبح اللاعبون الأساسيون في المنطقة إما قوي أجنبية، أو قوي إقليمية. والسؤال المخيف فعلا هو: إلي أي مدي ستستمر صراعاتنا في المنطقة علي هذا النحو؟ والطارئ الجديد المهم هو الانخفاض المستمر في أسعار البترول، والذي يؤثر بشكل كبير في الصراع الدائر في المنطقة، لأن الدول التي استطاعت أن تكون طرفا في الصراعات الموجودة في الشرق الأوسط لن تستطيع استكمال هذا الدور بدون البترول، ولذلك ينبغي أن نهتم ببحث هذا القطاع، والتداعيات المترتبة عليه، وبالتالي الخطر كبير، لأن جميع الجبهات أصبحت مفتوحة. وهناك أطراف خارجية تعمل فيها كما تشاء، وبعض العرب كانوا موجودين فيها كطرف أساسي بقوة تأثير المال فقط، ومصر موجودة كطرف أساسي بحكم تاريخها، وموقعها، وباقي النظم العربية غير موجودة. فالعراق وسوريا في لهب العاصفة، والجزائر مقبلة علي مشاكل. وبالتالي، فنحن أمام جراح مفتوحة، وبؤر متوترة، ووجود عربي ضعيف قد يتراجع أو يتأثر جدا في المستقبل القريب نتيجة انخفاض دخل الممولين الرئيسيين والمؤثرين في حل مشاكل المنطقة، جراء تراجع أسعار البترول، وهنا ستكون المشكلة كبيرة جدا.
ما هو المسار المحتمل خلال السنوات القادمة في ظل تقسيم فعلي غير رسمي بدأ في سوريا، والعراق، وليبيا، ويمتد لبلاد عربية أخري؟
هيكل: لا يوجد أحد لديه تصور لإنهاء الأزمة، ومن الصعب جدا حل الصراعات الموجودة، ولا يوجد طرف عربي يستطيع أن يقدم نفسه بمبادرة جديدة وفعالة. أما الوضع الراهن، فقد يطول إلي مالا نهاية، وهناك أطراف أخري تعمل علي هذا، ومواردها من النفط تساعدها علي لعب هذا الدور. فعلي سبيل المثال، استطاع “داعش” أن يخلق موارده من خلال استيلائه علي مساحات من الأراضي، وموارد البترول فيها. وبالتالي، فنحن أمام متغيرات كبيرة جدا، ولا نستطيع، بل لا نملك وسيلة بشكل أو بآخر لإدارتها، أو المشاركة في إدارتها، خصوصا عندما نفقد العنصر المالي، وأخشي أن نكون دخلنا متاهات لا نعرف حتي الآن مخارج منها.
ما يمثله “داعش” من ظاهرة لا تقتصر عليه بطبيعة الحال، فما هي آفاق مواجهته، وجدواها؟، وهل تري استراتيجية لهذه المواجهة؟
هيكل: عندما نتحدث عن استراتيجية، فلابد أن تكون هناك قوي لديها موارد، ولذلك لا نستطيع أن نتحدث عن استراتيجية. فهناك حرب لسنا طرفا فيها، لكننا بمنزلة أدوات لها، وأخاف أن يقل النصيب الذي كنا نشارك به في إدارة أزمات المنطقة.
فإذا نظرنا لمشاكل المنطقة، وأولاها الأزمة السورية، فإنني أتساءل: كيف تحل هذه الأزمة، خاصة أننا قصرنا إلي أبعد الحدود؟ لكن هناك مؤشرات يمكن استنباطها من المشهد السوري، وهي: نظام استطاع أن يصمد إلي اللحظة التي نحن بصددها، ودولة لا تزال تسيطر علي جزء كبير من أراضيها، وجيش لايزال يقاتل، رغم كل ما حدث، ومعارضة حقيقية سياسية، لكن من عسكر هذه المعارضة بعض العرب بالأساس. فعندما عقد اجتماع الجامعة العربية في عهد المجلس العسكري، حاولت السعودية الضغط علي الجامعة لتحتل المعارضة مقعد سوريا، وكانت التعليمات لرئيس الوفد المصري، حتي الصباح، ألا تترك الحكومة السورية مقعدها، لأن سوريا بالنسبة لمصر قضية مهمة جدا. ولكن ضغوط بعض الدول العربية فرضت إقصاء سوريا عن مقعدها بالجامعة العربية، ولم تعترض مصر علي ذلك، رغم أنها كانت تري إبقاء الوضع كما كان.
أما بالنسبة للدور المصري في العراق، فقد ضاع منذ تحرير الكويت. لقد كنت من المؤيدين لضرورة تحرير الكويت، ولكن بطريقة أخري مختلفة عن التحالف الأمريكي. غير أن الدولة سارت في هذا الطريق، وقايضت الدور المصري في العراق بتسوية كبيرة قدرت بـ 30 مليار دولار، هي الديون المستحقة عليها.
وبالتالي، فإن الحديث عن الاستراتيجية لا يزال مبكرا جدا، فالمنطقة مفتوحة، وصراعاتها مفتوحة، وإسرائيل سعيدة من جهة، والولايات المتحدة تتدخل من جهة أخري، ولا يعلم أحد مطلقا كيف تنتهي هذه اللعبة، ومتي تنتهي، وبأي سيناريو، ومن قبل أي طرف، وليست لدينا وسائل، أو وجود، أو أي نوع من التأثير، أو المشاركة.
إذا تخيلنا نجاح “داعش” في تثبيت ركائزه في المناطق التي سيطر عليها أو معظمها، فهل يؤثر ذلك في إيران؟
هيكل: إيران بلد مختلف تماما، ولديه مقومات كبري، وموارد غير البترول، وبالتالي قد يدخل مرحلة من التأقلم مع انخفاض أسعار البترول. كما أن الثقافة الإيرانية لم ولن تنقطع، فإيران قبلت الإسلام، لكنها لم تقبل اللغة العربية. وهناك ما يعرف بالحضارة الفارسية، لكن ليس هناك ما يسمي بالحضارة العربية المستقلة عن الحضارة الإسلامية. كما أن بيزنطة، ومصر، وفارس، ثم الأندلس هي التي صنعت الحضارة الإسلامية. وبالتالي، فإيران طرف أصيل في المنطقة، لأن الكتلة الإيرانية ظلت متماسكة إنسانيا وحضاريا.
ما الذي يحول دون تطور العلاقات المصرية – الإيرانية؟، وما الذي يقيدها في هذا المجال؟، وتحديدا هل القيد خليجي أم داخلي أمني؟
هيكل: نحن نتحدث عن بلد حضارته لم تنكسر، وكانت مشكلة الرئيس السادات إعجابه بالملوك (الملك حسن، والملك فيصل، وشاه إيران)، وكلهم كانوا ينصحونه بإيقاف المعارك، حتي لا يجد نفسه أمام مطالب لا يستطيع مواجهتها. وعندما قابلت الخميني في باريس، سألني حول موقف الأزهر الغاضب منه، خاصة أن الشيخ عبدالحليم محمود -شيخ الأزهر آنذاك- أصدر فتوي معادية للخميني لخروجه علي طاعة ولي الأمر. ولذلك، تراكمت أسباب شخصية فوق أسباب سياسية، بالإضافة إلي الضغوط الخارجية، لتعرقل العلاقات بين مصر وإيران. وأخشي أن أقول إن العنصر الأمني دخلت فيه حسابات كثيرة، وأدخلنا في مؤامرات لا لزوم لها. فنحن لم نمد يدنا تماما لإيران، مع أنه لا يمكن إهمالها بهذه الطريقة. ولا أقول إنه لابد من تحول جذري الآن، ولكن علينا أن نتحسس الطريق.
مرت العلاقات المصرية – الأمريكية بعدد من التقلبات منذ الخمسينيات إلي الآن .. في أي مرحلة نحن في هذا الوقت من وجهة نظرك؟
هيكل: لسنا في مرحلة تشبه أيا من المراحل من السابقة، فكلها أصبحت ذكريات. لقد أدينا مهمتنا بالنسبة للسياسة الأمريكية، ولم يعد لدينا ما نعطيه في الظروف الراهنة. وعندما نستعيد قوتنا الداخلية والإقليمية، سوف تأتي لنا أمريكا.
إذا انتقلنا إلي العلاقات المصرية – الروسية، ماذا تعني روسيا أولا في السياسة الدولية الآن؟
هيكل: روسيا تعني أشياء كثيرة جدا، علي الأقل من ناحية السلاح. فقوة الدول تقاس بمقاييس معينة كالمساحة، والسكان، والموارد، وهناك عنصر آخر، هنا في الحالة الروسية، هو القدرة النووية. فروسيا بلد كبير، ولديه موارد، وإمكانيات قوة كبيرة، وقد يمر بمرحلة ضعف، لكن يغطيها التفوق العسكري والفضائي الذي لابد أن يحسن استخدامه.
وينبغي الإشارة إلي الدور المهم الذي قام به الرئيس فلاديمير بوتين للخروج من التجربة المهينة جدا عند سقوط الاتحاد السوفيتي، حيث أعطي للدولة الروسية العمود الفقري، بحيث تستطيع أن تبرز وتوظف إمكانياتها. وروسيا اليوم بمساحتها الكبيرة، وبنفوذ تاريخي، وقوة عسكرية، تغطي لحظات الضعف، وقوة علمية، لا يمكن إنكارها، تعد طرفا فاعلا جدا في النظام الدولي، خصوصا إذا ما نظرنا إلي الصين والهند.
هل يعيش النظام الدولي حاليا حالة من السيولة؟
هيكل: أظن أننا نعيش حالة من السيولة يمكن تشبيهها بأننا أمام حالة حمل لخمسة أو ستة توائم، وبالتالي فكل الاحتمالات واردة، أي هذه التوائم أقوي؟، وأيها يولد أولا؟، وأيها يعيش؟، وأيها يموت؟، وهكذا. لذا، فنحن نشهد ولادة عالم جديد مختلف في توزيع القوي.
كيف تري العلاقات المصرية – الروسية في ضوء التغير في المنطقة؟
هيكل: علينا أن نتابع حركة التدافع التاريخي في المنطقة، ولا نجازف بوضع نتائج، لأن النتائج لابد أن تكون بمنزلة تصور مفتوح، وليس مغلقا، لأنه ليس هناك أحد يملك هذا. وحتي في السياسة الدولية، لا تُغلق الصفحات هكذا. فعلي سبيل المثال، في الوقت الذي تفتح فيه روسيا لمصر حسابا جديدا، لا يزال هناك الحساب القديم الذي لم يسقط أو يغلق. والجيد أننا نحاول، لكن لا تزال أوضاعنا الداخلية تضعف إمكانية أن نصبح طرفا قويا علي المستوي الدولي في اللحظة الراهنة. والروس دائما ما يقولون لنا “أنتم تعتبروننا العاشقة البديلة”، حيث يطاردنا باستمرار عدم الثبات، وما فعلناه مع الروس لا يمكن أن ينسي، خاصة أننا ذهبنا لنطاردهم في الصومال، وأنجولا، وأفغانستان. وهنا، أود أن أقول “كن أنت ولا تكن غيرك، يثق فيك الناس”.
هل كان من الواجب أن تعرف الصين “من نحن” قبل أن نذهب إليها؟
هيكل: مبارك ذهب إلي الصين مرات عدة، وكأنه لم يذهب. فمن خلال اطلاعي علي محاضر زياراتنا إلي الصين، وجدت أننا لا نتحدث إلا من خلال كليشيهات سئمها الجانب الآخر. وينبغي تغيير هذه النظرة الصينية، حتي لا يكون النشاط الراهن في العلاقات مع بكين إعادة إنتاج لسابقه، ولكيلا تكون تداعياته إيجابية في الداخل المصري أكثر منها في السياسة الدولية.
كيف يمكن أن تكون هناك سياسة خارجية تتجاوز كل التجارب السابقة؟
هيكل: هناك مقولة لهيجل تقول: “لدي تفاؤل تاريخي وتشاؤم سياسي”. وأنا في اللحظة الراهنة غير متفائل، ولكنني سأتفاءل، عندما يستطيع الرئيس عبدالفتاح السيسي إرساء قواعد نظام حقيقي، ويبدأ البلد في تماسكه الداخلي. فإذا سارت الأمور بشكل معقول، فإننا نستطيع القول إننا نحتاج من ثلاث إلي خمس سنوات، لكي نمتلك قوة حقيقية.
ألا يساعد وجود تصور أو رؤية للسياسة الخارجية في تعويض بعض عوامل الضعف الداخلي؟
هيكل: التصور يشبه مشروعا له بدايات جنينية، ومخاض، وولادة. وأنا أشفق علي الباحثين في هذه الفترة، لأن التغيرات التي حدثت تجعل من الصعب التفكير جديا في تصور له قابلية للحياة، إلا أن يكون في مقدورك أن تري الأرض التي تذهب إليها. وعلي كل مهتم بالشأن العام، خاصة الشأن الخارجي، أن يدرك أن المهمة الأولي هي “الاكتشاف” للمحفزات والقدرات التي يمكن أن تتوافر عندك لبناء مستقبل معقول.
بما أن مرحلة البناء الداخلي هي المتغير الأساسي لتحديد مكانتنا علي الخريطة العالمية، ما هي المقومات التي تمتلكها مصر، ويمكن أن توظفها لاستعادة تماسكها الداخلي، وبناء قوتها؟
هيكل: أظن أننا بصدد تكوين رؤية، فلدينا إمكانيات كبيرة جدا، سواء علي المستوي المعنوي، أو الواقعي، وهي أكثر مما نتصور، وأكبر من أي حسابات. لكن هناك عنصرا غير مرئي، ينبغي أن تضعوه في الحسبان كباحثي علوم سياسية، وهو أن هناك عدم ثقة لدي كل الأطراف. لذا، فإن أول خطوة في البناء الداخلي هي استعادة ثقة الناس في أنفسها. فنحن دخلنا عملية هدم لكل شيء، فلم تتبق لنا قيمة إلا وتم هدمها، وأصبح كل شيء لدينا مستباحا، فلا قيمة الوطنية محترمة، ولا قيمة القومية، وهكذا. ولعل السباب الحالي علي الفضائيات أكبر دليل علي هذا.
فالبداية الحقيقية أن يستعيد الشعب الثقة بنفسه، لأن هذا مورد أساسي للقوة، ولا يزال معطلا، وينبغي العمل عليه، لكي تستطيع أن تمتلك الموارد التاريخية والحقيقية الموجودة لدي الشعب المصري، ومن هنا ننتقل إلي استعمال الموارد المادية. ولدينا كمية موارد مادية ليس لها حدود، لكنها معطلة أيضا كالمصانع. ولدينا إمكانيات سياحية مثل البحر الأحمر لما يمثله من منطقة جذب سياحي ليس لها حدود، لأنه ليس لنا منافس عليه بخلاف البحر المتوسط، وبالتالي ينبغي استغلال كل سنتيمتر منه. ففكرة التنمية السياحية تعتمد أساسا علي البحر الأحمر، وقد يكون ذلك من خلال إعادة تنظيم لمنطقته التي لها وضع خاص، وتعيين نائب رئيس وزراء للبحر الأحمر، وأنا لا أتصور ما يقال حاليا عن تقسيم البحر الأحمر بين المحافظات.
ما هي رؤيتك لمستقبل لمستقبل المراكز البحثية، ومصير الصحافة أو الإعلام المطبوع؟
هيكل: أعتقد أن المراكز البحثية مهمة جدا لكونها كشافات للمستقبل، ونحن في حاجة لهذه الكشافات، لأنها الوسيلة الوحيدة الموجودة للتفكير المنظم، حتي أصبح لا يوجد حزب محترم في العالم إلا ولديه مركز بحثي خاص به. أما بالنسبة للصحافة المطبوعة، فمن الضروري تحولها لتصبح إلكترونية، حيث أظهر تصويت -أجرته جريدة النيويورك تايمز- أن نسبة 60٪ من محرريها يرون أنه لا مستقبل للصحافة المطبوعة، لذا لابد من التحول للنسخة الإلكترونية.
وأنا أعتقد بشكل ما أن الصحافة المطبوعة ستستمر، ونتذكر أن علاقة القارئ بالصحيفة تمر بثلاث مراحل: جريدة تجذب قارئا، ثم قارئ يتعود علي الجريدة، والجريدة في النهاية تتحول إلي نوع من الإدمان. وهناك شواهد علي استمرار الصحافة المطبوعة، منها أن توزيع صحف كبري مثل “الإيكونومست”، و”الصنداي تايمز” يحقق زيادة سنوية بنسبة 1.5٪ تقريبا. لكن أكبر مشكلة تواجه الصحف المطبوعة المصرية هي تعدد قراء النسخة الواحدة بمعدل 6.8 قارئ لكل نسخة. وعندما نستطيع أن نجعل كل من يقرأ الصحيفة يشتريها، سيختلف الأمر كثيرا. والصحف المصرية الحالية في أزمة، لأنها خارج إطار المنافسة مع الوسائل الأخري، لكنها ستخرج بشكل ما من هذه الأزمة، لكن لا أعرف كيف ومتي.
وأظن أن استمرار الصحف المطبوعة مرهون بقدرتها علي الاتجاه للمستقبل، فلا يمكن أن نسبق الخبر نفسه، لكن علينا أن نستكمل الخبر، ونحلله، ونبحث عن خباياه. فالمستقبل هو أن نصل إلي حيث لا تستطيع الكاميرا أن تصل، وينبغي ألا يكون التحليل إنشائيا، بل ينبغي أن يكون إخباريا.
كيف تري مهمة “السياسة الدولية” في الفترة القادمة؟
هيكل: مهمتها الأولي هي اكتشاف الخيارات والبدائل، وطرح الاحتمالات، أي أن تكون كشافا للمستقبل.
مجلة السياسة الدولية