لم يعد الشرق الأوسط وحده الذي تغلف السياسة فيه غلالة دينية جاء بها متعصبون إلى المنطقة، وحتى عندما حمى المؤمنون دينهم من الاغتصاب، اعتمد دفاعهم على الدين أيضًا. بشكل ما فإن أميركا الشمالية وأوروبا تحت رداء العلمانية ظنوا أنهم خارج هذه المعادلات الصعبة، فقد استقرت الدولة والحكم على الفصل ما بين علاقة الإنسان وخالقه، وعلاقته كمحكوم بالحكام والحكومة. ولكن يبدو أن العصر خلق معادلة جديدة، وهي أنه إذا لم تذهب بإرادتك إلى الدين مؤمنًا أو متعصبًا، فإنه يأتي إليك، وعليك بعد ذلك أن تختار إلى أي جانب تقف. واستنادًا إلى ذلك فإن ذهاب رأس الكنيسة الكاثوليكية البابا فرانسيس (أو فرانسيسكو أو جورج ماريو بيرجوجليو حسب اسمه الأصلي) إلى المكسيك، كان بداية رحلة أخرى إلى قلب شمال أميركا.
وسواء كان التوقيت متعمدًا أو لا، فإن الزيارة الباباوية إلى المكسيك جاءت في وقت بدأت فيه عملية الانتخابات التمهيدية لاختيار مرشحي الحزبين الرئيسيين: الجمهوري والديمقراطي. ولم تكن الانتخابات التمهيدية الحالية من النوع الكلاسيكي المعروف بترشيحات «المؤسسة»، وإنما تضمنت توجها قويا من خارجها بدأ يطرح أطروحات طالما حبسها كثير من الأميركيين في الصدور عن الهجرة والدين. «دونالد ترامب» كان من أكثر من لفت الأنظار عندما اتهم المهاجرين من المكسيك بأنهم من قطاع الطرق والمغتصبين، وطالب بترحيل هؤلاء الذين لهم وجود قانوني في الولايات المتحدة، مع إقامة سور كبير يفصل بين دولته والمكسيك. ولم يمض وقت طويل حتى أضاف إلى نبذه للمكسيكيين، المطالبة بمنع المسلمين من دخول الدولة. ولم يكن ترامب وحده في الصورة، وإنما كان هناك أيضًا «بن كارسون»، الذي أعلن أنه لن يقبل بوجود مسلم في البيت الأبيض. ورغم أنه لا يوجد احتمال لحدوث ذلك، في المستقبل القريب أو البعيد، فإن الطرح نفسه كان يعني عدم الأهلية في دولة طالما تفاخرت بالمساواة في حقوق مواطنيها. الخلاصة أن حديث ترامب لم يكن خاصًا به وحده، بل كان معبرًا عن تيار في النخبة الأميركية يصعب تجاهله، لأنه لا يعبر عن عناصر متطرفة، وإنما عن مواطنين وناخبين دفعوا بترامب إلى مقدمة الصفوف في الانتخابات التمهيدية في ولايات آيوا حينما أحرز المركز الثاني بفارق ضئيل ثم الأول في نيو هامبشير، وحتى وقت كتابة هذا المقال كان متقدمًا في استطلاعات الرأي العام فيما يخص ولاية كارولينا الجنوبية.
لم تكن زيارة البابا فرانسيس إلى المكسيك كما هي عادته مجرد زيارة من دولة الفاتيكان إلى دولة أخرى، وإنما هي نوع من التبشير بمسيحية مجددة أخذت كثيرا مما عرف بفقه «التحرير» القائم على التركيز على الفقراء، ودفع الظلم عن المظلومين. وهكذا اقترب البابا من عش الدبابير حينما زار شمال المكسيك، وأصبح على مقربة من الحدود الأميركية حيث يريد ترامب تغليفها بحائط يعزلها عن «البرابرة»؛ وهو في نفس الوقت قريب جدا في الجنوب الأميركي، حيث صدى حملته الانتخابية في كارولينا الجنوبية. وهكذا وجد البابا أقوال ترامب موجهة إليه لإبداء الرأي فيها من قبل الصحافة، فكان رده أن الذي يريد بناء الأسوار ولا يقيم الجسور «ليس بمسيحي». التعبير له عدة أوجه: وجه أراده البابا فرانسيس أن يخفف به وقع الصدمة، بأن ذلك لا يمثل حكمًا جاء به الإنجيل، ولكنه حكم لا بد أن يأتي ممن قرأ الإنجيل، واستوعب ما فيه من حب ورحمة. وجه آخر أن ذلك مثّل تدخلا في الشؤون الداخلية الأميركية أثناء ممارستها لعملية الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، ومهما قيل عن صغر دولة الفاتيكان، فإن تأثير قائدها البابا في أنصار الديانة الكاثوليكية في العالم يعوض هذا النقص. ووجه ثالث أنه لا يمكن تجنب أن تصريحات البابا قصدت دونالد ترامب شخصيًا، وهو المتصدر لاستطلاعات الرأي العام الأميركية، وتجعله المرشح الأكثر ترجيحًا للفوز بتمثيل الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية.
ولكن الوجه الرابع هو الأكثر خطورة من كل ما سبق، فلا يمكن استبعاد حقيقة أن البابا فرانسيس هو رأس الكنيسة الكاثوليكية، ويقابلها حقيقة أخرى وهو أن الأغلبية المسيحية في الولايات المتحدة تنتمي إلى المذهب البروتستانتي، الذي شكل ثورة كبيرة على الكنيسة الأم، معتبرًا إياها متعصبة، ومضادة للتقدم، وبالتأكيد للرأسمالية. هنا فإن أصداء تصريحات البابا خلقت موجات من النقد له، كان أولها بالطبع من ترامب ذاته الذي رد فورا بأنه ليس من حق البابا الحكم على «مسيحيته»، وأنه على العكس من المسحيين الأقحاح لا يمشي إلا وإنجيله على كتفه. وثانيها أن رد الفعل البروتستانتي كان مندهشا في البداية ثم بعدها بدأت ردود الفعل السلبية في التوالي، مع التركيز على فساد الأجندة الاقتصادية والاجتماعية للبابا، والتي تبدو من وجهة نظرهم تقوم على تشجيع الصراع الطبقي. وثالثها أن الإعلام بدأ في عرض تصريحات البابا باعتبارها تحيزا ضمنيا لصالح ماركو روبيو، عضو مجلس الشيوخ والمرشح في الانتخابات الجمهورية وأحد المنافسين الكبار مع تيد كروز لدونالد ترامب؛ لأنه كاثوليكي. وهكذا فإن ما بدا كما لو كان ميزة انتخابية لصالح روبيو، وهو أنه كاثوليكي مثل جون كيندي، وانتخابه يضمن سمعة حسنة للولايات المتحدة باعتبارها لا تميز بين الناس بسبب الدين أو اللون أو العقيدة؛ فإنه صار مأزقًا للمرشح الشاب في مواجهة الأغلبية من المواطنين، خاصة في الجنوب، حيث الحساسيات الكاثوليكية البروتستانتية لا تزال لها آثار.
الوجه الخامس يطرح بقوة السؤال: ما الذي جرى للعلمانية الأميركية، والفصل بين الدين والدولة، فلو كان الحال كذلك، فإن تصريحات البابا فرانسيس لم تكن لتثير أكثر من نقاشات إعلامية أو أكاديمية حول التحولات الفكرية للكنيسة الكاثوليكية، ولكن أن تضرب التصريحات هذه في صلب الانتخابات الأميركية، وتخلق انحيازات دينية بين الأميركيين علينا أن نراقبها، فإذا كانت النار تأتي من مستصغر الشرر، فإن تصريحات البابا لم تكن صغيرة، بل كانت تعاملا مباشرا مع قدس أقداس السياسة الأميركية: الانتخابات. ولكن خطورة هذا الوجه ترتبط بوجه سادس عما إذا كانت تصريحات البابا جزءا من توجه أوروبي ودولي نحو منع دونالد ترامب من الوصول إلى البيت الأبيض. لقد بدأ الانزعاج في بريطانيا منه ومن توجهاته ثم امتد إلى الأحزاب الأوروبية، والنخبة الغربية التي تصل إلى اليابان وأستراليا؛ حتى ساد تخوف، ربما عالمي، أن غرام الأميركيين بفكرة «التغيير» قد تأخذ العالم وما فيه إلى الهاوية من سياسات ضحلة يقدمها مرشح مغامر لا يعرف الفارق بين الشركة والدولة، وليس لديه أدنى احترام لطبيعة العالم المعاصر. في النهاية فإن المسألة صارت ببساطة أن انتخابات دولة ما، وخصوصا إذا كانت قوة عظمى بكل المقاييس بما فيها الآيديولوجية والفكرية، لم تعد تخص الدولة ذاتها وإنما تخص أيضًا العالم أجمع. هل يكون للموضوع أكثر من ذلك، أو أنه مع موضوعات أخرى، سوف تجرفها الرياح العاصفة للانتخابات الأميركية؟
عبدالمنعم سعيد
صحيفة الشرق الأوسط