كيسنجر والتاريخ والفلسفة

كيسنجر والتاريخ والفلسفة

كيسنجر والتاريخ والفلسفة

حين عاد هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي ومستشار الأمن القومي الأسبق إلى جامعة هارفارد بعد انقطاع دام أربعة عقود من الزمن، وردا على سؤال لأحد الطلبة، عما يمكن أن يدرسه شخص ما يأمل الحصول على وظيفة مثل وظيفة كيسنجر، أجاب “التاريخ والفلسفة”، فهما بالنسبة له أساسان ضروريان لفهم الحاضر واستشراف المستقبل.

تماما كما كان الزعيم البريطاني ونستون تشرشل يعتقد أنه كلما “أمعنت النظر إلى الماضي، كلما أحسنت النظر إلى المستقبل”.

التاريخ والفلسفة كانا ركيزتين اعتمد عليهما كيسنجر، وهو يتقدم الصفوف في “مجمع العقول” أو ما يسمى بـ”تروست الأدمغة” العامل بخدمة القطاعين المهيمنين الصناعي والحربي. وأصبح لتروست الأدمغة الذي ضم أكاديميين بارزين شأن كبير في عهد الرئيس جون كيندي الذي قتل في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1963، حيث ارتقى فيه سلمَ الدبلوماسية والأمن القومي العديدُ من الرجال والنساء مثل كيسنجر وبريجنسكي وأولبرايت وكوندليزا رايس وغيرهم.

“التاريخ والفلسفة كانا ركيزتين اعتمد عليهما كيسنجر، وهو يتقدم الصفوف في “مجمع العقول” أو ما يسمى بـ”تروست الأدمغة” الذي ارتقى عبره سلمَ الدبلوماسية والأمن القومي العديدُ من الرجال والنساء مثل كيسنجر وبريجنسكي وأولبرايت وكوندليزا رايس وغيرهم”

يقول كيسنجر -الذي أصبح مستشارا للأمن القومي في عهد الرئيس ريشارد نيكسون من 20 يناير/كانون الثاني 1969 ولغاية 3 نوفمبر/تشرين الثاني 1975، ثم أصبح وزيرا للخارجية في عهد الرئيسين نيكسون وجيرالد فورد- عندما دخلت مكتبي، أدخلت معي كتب الفلسفة التي اعتمدت فيها على دراسة التاريخ، ويذكر نيل فيرغسون مؤلف كتاب سيرة كيسنجر ((1968-1923 نقلا عن أحد زملاء كيسجنر المدعو جون ستوسنجر، أن كيسنجر عندما كان طالبا في السنة الأولى في جامعة هارفارد، كان يؤكد على أهمية الالتزام بالتاريخ بكل قوة.

وكان كيسنجر يستشهد بالمؤرخ اليوناني القديم ثيوسيديدز الذي يقول “في حين لا يكرر الزمن الحاضر الماضي بالضبط، فإنه يجب أن يشبهه حتما، وبالتالي ينبغي أن يكون المستقبل كذلك”.

ويعتقد كيسنجر أن دراسة التاريخ تستهدف رؤية أسباب نجاح الأمم والرجال وأسباب فشلهم. لا ينظر كيسنجر إلى مقولة الفيلسوف الألماني هيغل من: أن التاريخ ماكر ومخادع، إلا من زاوية البحث في الأخطاء لعدم تكرارها، وإلا فإن التاريخ لا يعيد نفسه. وحسب ماركس، ففي المرة الأولى سيكون على شكل مأساة وفي المرة الثانية، سيكون على شكل ملهاة.

لعل كتاب سيرة كيسنجر الذي أعده فيرغستون، يمثل مناسبة للبحث في السياسة الخارجية الأميركية ودبلوماسيتها في عهد كيسنجر، وهو وقفة أخرى للتاريخ وفنونه، لاسيما في الحكم والإدارة، من خلال الممارسة والتطبيق وليس الأمور النظرية وحدها، وهو ما حاول كيسنجر مقاربته عبر قراءات تاريخية مقارنة، ليس بغرض الاستنساخ أو التقليد أو النقل الحرفي أو الآلي، وسحب ظروف الماضي على أوضاع الحاضر، بل من خلال عمل حيوي وعبر مهارات ومعارف تكونت لديه وساهمت في خلق شخصيته وتميزه، ولاسيما بدبلوماسيته التي عُرفت في الشرق الأوسط بالخطوة – خطوة Step by Step، وهو ما دعا الرئيس السادات أن يطلق على الثعلب الماكر صفة “الساحر”، لقدرته على تفكيك الأزمات وإعادة تركيبها من خلال إدارة مفاصلها والحوار بين أطرافها.

ولم تخلُ وسائل كيسنجر في إدارة الحكم والدبلوماسية من الخيال والسعي لتحويله إلى واقع لرسم خطط وخرائط، منها ما يتعلق بالعلاقات الصينية الأميركية، حين تمكن من كسر الجليد بين بكين وواشنطن، وكأنه يعبر سور الصين العظيم الذي هو من عجائب الدنيا السبع، حيث يبلغ طوله 2400 كم، والهدف من ذلك هو الضغط على الاتحاد السوفييتي، وفي الوقت نفسه تصعيد سباق التسلح مقابل إجباره على التخلي عن بعض أنواعه، والتوقيع على اتفاقيات خاصة بذلك (سالت1 وسالت2)، وصولا إلى حرب النجوم في العام 1983التي خصصت لها الولايات المتحدة تريليوني دولار، الأمر الذي لم يكن بإمكان موسكو مجاراتها في ذلك.

“لم تخلُ وسائل كيسنجر في إدارة الحكم والدبلوماسية من الخيال والسعي لتحويله إلى واقع لرسم خطط وخرائط، منها ما يتعلق بالعلاقات الصينية الأميركية، حين تمكن من كسر الجليد بين بكين وواشنطن، وكأنه يعبر سور الصين العظيم للضغط على الاتحاد السوفييتي”

وكان الهدف هو ممارسة سياسة أسماها كيسنجر “بناء الجسور”، وهي نظرية قال عنها الرئيس جونسون: إنها جسور ستعبرها البضائع والسلع والسياح والأفكار لتحطيم الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية من داخلها، برفع درجة الأزمة الاقتصادية التي وصلت حد الاختناق مع شح الحريات، وهذا ما قاد إلى انهيار جدار برلين وإسقاط النظام الاشتراكي العالمي وتفكك الاتحاد السوفييتي لاحقا.

وبخصوص دول المنطقة، عمل كيسنجر على إحداث نوع من التصدع في العلاقات بين دولها، تمهيدا لما وصفه “خلق إمارة وراء كل بئر نفط”، ومنع سوريا من اللقاء مع العراق، وإطاحة اليمن الجنوبية ونظامها المتأثر بالماركسية، وذلك بعد تجويف التجربة الناصرية وتسويفها وإطفاء شعلتها التحررية على المستوى العربي، خصوصا بعد سياسة الانفتاح الساداتية التي وضعت 99% من أوراق الحل بيد الولايات المتحدة، وهو ما دعا الرئيس السادات مخاطبة كيسنجر “بالصديق العزيز”.

كثيرا ما يعود كيسنجر للتاريخ، لكن التاريخ بالنسبة إليه “ليس كتاب طبخ” لإعداد أنواع من الطعام يقدمها كوصفات سابقة ليتم تذوقها، بل ينظر إليه كيسنجر ليستفيد منه بالقياس، والعبرة ليست بالأقوال المنثورة، بل بالدروس والتجارب وخلاصاتها، تلك التي يمكن الإضاءة عليها، لدراسة حالات مماثلة، وعلى كل جيل أن يكتشف بنفسه أي الحالات التي يمكن مقارنتها.

ووفقا لذلك يدرس كيسنجر: لماذا استدار الرئيس شارل ديغول نحو أوروبا بعيدا عن أميركا، ليقول إنه حاول استلهام النموذج البسماركي الألماني الذي حاول استعادة مكانة بروسيا بهدف الحفاظ على التوازن، وهو ما سعى إليه ليصل إلى نتيجة مفادها أن ديغول على المستوى العالمي سبق واشنطن للاعتراف بالصين الشيوعية العام 1964، وهو الأمر الذي أخذه كيسنجر بعين الاعتبار عند دراسة التاريخ المعاصر.

وببراغماتية كبيرة حاول كيسنجر -وإن كان عدوا لدودا للشيوعية- أن ينتقد إجراءات السيناتور الأميركي جوزيف مكارثي العام 1953 ضد الشيوعيين والمثقفين بشكل خاص في مجالات الأدب والفن والإعلام وغيرها، مقارنا ذلك بإجراءات هتلر بعد تسلمه السلطة بنحو 6 سنوات حينما شن حملة واسعة ضد الشيوعيين، بل وضد العالم أجمع بإشعاله حربا ضروسا، ولم تكن إجراءاته ضد الآخرين فحسب، بل ضد بلاده أيضا. ووفقا لهذه المقارنة، فهو يعتقد أن خطوات مكارثي هي ضد المحافظين الحقيقيين، وهي تفرض معارضته، لأنها ستحدث خللا في سياسة الولايات المتحدة.

“كثيرا ما يعود كيسنجر للتاريخ، لكن التاريخ بالنسبة إليه “ليس كتاب طبخ” لإعداد أنواع من الطعام يقدمها كوصفات سابقة ليتم تذوقها، بل ينظر إليه ليستفيد منه بالقياس، والعبرة ليست بالأقوال المنثورة، بل بالدروس والتجارب وخلاصاتها، تلك التي يمكن الإضاءة عليها لدراسة حالات مماثلة”

وبخصوص التوازن وخلال الحرب الباردة التي بدأت في العام 1947، وفي سنوات الستينات حاول كيسنجر أن يستعيد التوازنات بين المعسكرين في إطار الحرب الباردة، بالتوازن الذي ساد بعد مؤتمر فيينا العام 1815، فالسلام حسب كيسنجر هو تفادي كارثة كان يمكن أن تحصل. ولو فكرت واشنطن بمآلات أفغانستان والعراق بعد احتلالهما في العام 2001 و2003 على التوالي، فلربما لم تكن قد أقدمت على مثل تلك المغامرتين.

وكان الرئيس جورج دبليو بوش هو من صرح بأن المعلومات التي كانت لديه خاطئة ومغلوطة، ولو توفرت لديه معلومات أخرى غيرها لما أقدم على غزو العراق، وقد سبق لكيسنجر أن وصف اختيارات سياسات البيت الأبيض بالسيئة.

ومثل هذا الأمر يحتاج اليوم حسب أطروحة كيسنجر إلى التوقف عنده، والنظر بعمق إزاءه، فيما يتعلق بالموقف مما يحصل في سوريا، إضافة إلى ما يسمى الإرهاب الدولي، ولاسيما احتمال امتلاك داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) أسلحة متطورة وحتى نووية، وكذلك تنظيم القاعدة وأخواتها، إذ يقتضي الأمر تعبئة جميع الجهود لكي لا تنفلت هذه التنظيمات وتشن هجوما كاسحا مثل هجوم 11 سبتمبر/أيلول الإرهابي الإجرامي الذي حصل في الولايات المتحدة في العام 2001.

إن رؤية كيسنجر تلك تمتد إلى برلين وكوبا والصراع في فيتنام وروسيا السوفيتية، وهو وإن كان أكاديميا، لكنه براغماتي وميكافيلي بامتياز لا يتورع عن استخدام أسوأ الوسائل وأكثرها دونية لتحقيق أهدافه.

التاريخ يحتاج إليه ليس لمعرفة ما حصل فقط، بل أيضا لمعرفة ما يمكن أن يحصل مستقبلا، وبه وبالفلسفة يمكن التسلح لمواجهة الحاضر، وذلك جزء من من صلب نظرية كيسنجر التي حاول توظيفها لمصالح بلاده الإستراتيجية، صحيح أن أهداف الرجل وغاياته كانت توسعية وإمبريالية وغير إنسانية، ولكن استلهام التاريخ ودراسة الفلسفة والتعمق فيهما، يمكن أن يعطياننا أساسا لما هو راهن من سياسات ومواقف وما يمكن أن يؤشر إلى ذلك مستقبلا.

عبدالحسين شعبان

الجزيرة نت