من الممكن أن تنتهي المعركة الكبيرة التي تدور في المناطق المحيطة بحلب بمحاولة مليونَي سوري الدخول إلى تركيا من شمال غرب سوريا (انظر المرصد السياسي 2554، “معركة حلب: مركز رقعة الشطرنج السورية”). ويعود ذلك لأن الاستراتيجية التي يتبعها الجيش السوري – وحلفاؤه ككل – لمكافحة التمرد تقوم على طرد المدنيين في الخطوة الأولى تسهيلاً لتطهير المنطقة من الثوار. ولكن هناك منطقتين آمنتين محتملتين في شمال غرب سوريا تقعان خارج المناطق الكردية والمناطق الخاضعة لسيطرة الدولة. الأولى تقع في وسط محافظة إدلب التي يسيطر عليها الثوار، بينما تقع الثانية في المنطقة الشرقية من محافظة حلب ويسيطر عليها حالياً تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»). إن وصف كل منطقة قد يساعد في توضيح قدرتيهما كمنطقتين آمنتين.
محافظة إدلب
بعد سقوط الرقة، أصبحت إدلب ثاني عاصمة محافظة يخسرها النظام السوري، بعد أن سقطت في ربيع عام 2015 بيد تنظيم «جيش الفتح»، شأنها شأن المدينتين الكبرتين الأخرتين في المحافظة، جسر الشغور وأريحا، علماً بأن حكومة دمشق كانت قد خسرت سيطرتها على الريف في شتاء 2011-2012.
وإذا كان عدد سكان محافظة إدلب قبل اندلاع الحرب يصل إلى مليونَي نسمة، فهو لا يتعدّى اليوم 1.2 مليون شخص مع نزوح السكان إلى محافظات أخرى أو لجوئهم إلى تركيا. وفي التقييم الأخير الذي أجراه “مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية” في آب/أغسطس 2014، قُدّر عدد الأشخاص المشردين [النازحين] داخلياً من محافظة إدلب بنحو 708,000 شخص.
وفي الوقت نفسه، ينتمي سكان المحافظة إلى مجموعة عرقية ودينية متجانسة إلى حد ما، تتكون من 95 في المائة من العرب السنّة. فأثناء المعارك التي دارت في الأرياف بين عامي 2011 و 2012 وفي مدينة إدلب خلال شهر آذار/مارس 2015، هرب المسيحيون حين استولى الثوار على تلك المناطق. وما حدث بالتحديد هو أن السكان السابقين لقرية اليعقوبية الأرمنية انتقلوا بشكل جماعي إلى منطقة ناغورني قرة باغ الممتدة بين شرق أرمينيا وجنوب غرب أذربيجان. أما بلدتا الفوعة وكفريا فتحتضنان مجتمعات كبيرة من الشيعة ويحاصرهما الثوار منذ سقوط إدلب، بينما تتشتت عشر قرى درزية في جبل السماق. وعلى الرغم من أن مناصري مبدأ التقية لدى الشيعة كانوا قد أعلنوا عن دعمهم للثورة السورية في وقت مبكر، ليس من المستغرب أن يشككك تنظيم «جبهة النصرة» في كونهم منافقين. هذا ويعيش سكانٌ تركمان شمال جسر الشغور على مقربة من الحدود التركية.
قبل بدء الأزمة السورية، كان سبعون في المائة من سكان إدلب يعيشون في الأرياف، التي هي عبارة عن منطقة زراعية خصبة تنتج الحبوب والزيتون والخضروات الشتوية وتتبع نمط الري الفردي الذي يتيح لها زراعة محاصيل إضافية في فصل الصيف. وقد شكلت الزراعة بالنسبة للذين بقوا في منطقتهم وسيلةً للصمود بوجه الاضطرابات. بيد، لم تشهد هذه المنطقة نشاطاً صناعياً يُذكر حتى قبل الحرب، وكانت إدلب معروفة كمدينة إدارية. وفي حين كانت محافظة إدلب تعتمد إلى حد كبير على حلب للحصول على المنتجات المصنّعة خلال السنوات التي سبقت الحرب، إلا أن كل شيء أصبح يأتي حالياً من تركيا. وحتى الإمدادات القادمة من تركيا محدودة للغاية بحيث أن قوافل المساعدات الإنسانية قادرة على الوصول إلى باب الهوى فقط. وتعود السيطرة السورية الصارمة على هذه الحدود إلى مطالبة سوريا المستمرة بـ”سنجق الإسكندرون” – أو محافظة هاتاي التركية حالياً. وفي الواقع، إن الحدود بين سوريا وتركيا مرسومة بالأسلاك الشائكة والمُشاع وحقول الألغام. وفي حين يتعذر حالياً اجتياز حدود باب الهوى إلا في حالات إنسانية محددة للغاية، لم يكن ذلك واقع المنطقة قبل عام 2015 وموجة الهجرة الكبيرة إلى تركيا. فخلال سنوات الحرب الأولى كان بوسع السوريين التنقل ذهاباً وإياباً إلى تركيا أو اللجوء إليها عندما تصاعدت وتيرة القتال.
محافظة شرق حلب
على غرار محافظة إدلب، سقط شرق محافظة حلب بسرعة من سيطرة الدولة وبقي نسبياً بمنأى عن القتال بين الجيش السوري والثوار. ولكن في شتاء 2013-2014، وقع اشتباك عنيف بين الثوار و تنظيم «الدولة الإسلامية» في المنطقة وفي كافة أنحاء شمال سوريا، وذلك حينما أبقى تنظيم «داعش» سيطرته على المنطقة حتى بعد أن تم دحره من مدينة حلب والجزء الغربي من المحافظة. ولا يزال التنظيم والثوار يتواجهون في ممر أعزاز ويشتبكون أحياناً (انظر المرصد السياسي 2532، “الصراع على ممر أعزاز قد يؤدي إلى تدخل تركي”). ولكن عموماً، بقيت المنطقة هادئة نسبياً وبمنأى عن القصف، حيث يفرض تنظيم «الدولة الإسلامية» قوانينه عليها ولكن في الوقت نفسه يوفر الأمان النسبي للسكان. أما اليوم فتشير التطورات إلى أن هذا الهدوء قد لا يطول. فقد شنّ الجيش السوري هجوماً من الناحية الجنوبية الغربية (السفيرة) لرفع الحصار الذي يفرضه تنظيم «داعش» على مطار الكويرس العسكري قبل أن يتوقف على بعد عشرة كيلومترات جنوب مدينة الباب. ومن ناحية الشرق، اجتاز الأكراد نهر الفرات في أواخر كانون الأول/ديسمبر 2015 عبر الاستحواذ على “سد تشرين”. هذا وتتمركز جماعة السوريين الأكراد المعروفة باسم «وحدات حماية الشعب» على بعد عشرة كيلومترات من مدينة منبج الواقعة بين أيدي تنظيم «الدولة الإسلامية» حيث توجد خطط لشن هجوم على المدينة في النهاية. وإلى الشمال هناك لواء “السلطان مراد” التركماني الذي سبق أن استولى على عدة قرى على طول الحدود التركية، ويتمتع بحماية المدافع التركية. ويبدو أن هذه الميليشيا الموالية لتركيا تراقب جرابلس لتستهدفها في خطوتها التالية من أجل منع «وحدات حماية الشعب» من الاستيلاء عليها انطلاقاً من موقعها في كوباني.
انقر على الخريطة لعرض نسخة عالية الدقة.
هناك مطامع كبيرة للغاية [للسيطرة على] شرق محافظة حلب وقد تندلع فيها أعمال العنف بسرعة وعلى نطاق واسع. وبخلاف إدلب الواقعة بيد الثوار، من المرجح أن تسقط هذه المنطقة بيد القوات الموالية لروسيا أو تلك الموالية للغرب، وذلك لأنها تخضع لسيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية». ومع ذلك، فكما هو الحال مع محافظة إدلب، يبقى السؤال الصعب الذي يطرح نفسه هنا هو كيف يمكن حماية المدنيين بعد طرد التنظيم.
وحالياً يبلغ عدد السكان في شرق محافظة حلب نحو 700 ألف نسمة، كما كان عليه في عام 2010. ويعزى هذا الاستقرار جزئياً إلى القتال المحدود في الوقت الذي يحل فيه الأشخاص المشردين داخلياً من مدينة حلب محل اللاجئين إلى تركيا. أما عدد النازحين داخلياً في شرق محافظة حلب فيناهز الـ 600 ألف شخص وفق التقديرات الصادرة عن “مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية” لعام 2014، لكن من المحتمل أن تكون المعارضة السورية قد ضخّمت هذا الرقم لتحصل على كمية أكبر من المساعدات الإنسانية. وكما هو الحال في إدلب، تشكل الزراعة أهم نشاط اقتصادي في شرق حلب، وبذلك تتم تلبية احتياجات السكان الأساسية إلى حدٍّ كبير، بينما يتم جلب السلع المصنّعة والأدوية وغيرها من تركيا دون أي صعوبة. وقد حافظت حافظت هذه العملية لنقل البضائع على ثباتها بينما بقي النفط السوري يتدفق في الاتجاه المعاكس، حتى مع فرض القيود على سفر المدنيين إلى تركيا منذ الهجمات التي تعرضت لها باريس في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015.
بالإضافة إلى ذلك إنّ جميع سكان شرق حلب هم الآن من السنّة. فقد كان الوجود المسيحي فيها نادراً حتى قبل عام 2010، علماً بأن آخر العائلات المسيحية قد فرّت مع الموظفين الحكوميين العلويين في عام 2012. مع ذلك، فِإن التنوع العرقي في تلك المنطقة أكبر من التنوع الديني، فالأقليات الكردية والتركمانية تتمتع بمكانة يصعب تقديرها، إذ إنّ العديد من القرى مختلطة كما أن التمثيل الذي تملكه هذه المجموعات العرقية غير معروف في المناطق الحضرية في منبج والباب وجرابلس. ولهذا الغموض الديمغرافي أهمية لا سيما في صفوف الأكراد الذين يزعمون أن تلك المنطقة هي كردية تاريخياً. وبالتالي يمكن أن تقع مواجهة كبيرة في أعقاب رحيل تنظيم «الدولة الإسلامية»، ما لم تُتخذ الاحتياطات اللازمة لملء الفراغ السياسي.
مناطق آمنة ومجتمع ريفي قادر على التكيف
بقي كلٌّ من محافظة إدلب وشرق محافظة حلب بمنأى نسبياً عن القتال السوري. ولا تزال المجتمعات المحلية الريفية قوية وتستفيد عموماً من الخدمات الأساسية الفعالة وتوزيع المساعدات الإنسانية التي توفرها حكوماتها المحلية. ومع أن هاتين المنطقتين تنعمان تقريباً بالاكتفاء الذاتي عندما يتعلق الأمر بالطعام، يبقى من الضروري الحفاظ على ممر مفتوح لها إلى تركيا خاصة فيما يتعلق بالخدمات العلاجية والصحية. لذلك من شأن إقامة منطقة آمنة في أي من هاتين المنطقتين أن يشجّع اللاجئين والنازحين داخلياً على العودة إلى القرى والبلدات الصغيرة حتى في غياب الخدمات العامة الكاملة. وفي الواقع أن أبناء الريف الذين أقاموا سابقاً في تلك المناطق سيكونون معتادين على نمط العيش التقشفي أكثر من سكان المدن. كما أن تأمين الظروف اللائقة لعودة اللاجئين إلى المدن الأكبر التي دُمرت فيها البنى التحية ينطوي على تعقيدات أكبر من القرى والمدن الصغيرة. وفي إطار اتفاقٍ لوقف إطلاق نار عام، يمكن للعلاقات التجارية أن تعود إلى مجاريها سريعاً بين المناطق الخاضعة لسيطرة النظام وتلك الخاضعة للثوار، الأمر الذي قد يسهّل التنمية الاقتصادية وييسّر عودة اللاجئين والنازحين داخلياً.
فابريس بالونش
معهد واشنطن