واجه وزير الخارجية الأميركي السابق، هنري كيسنجر، في العام 1975، معضلة استراتيجية في لبنان. كان حليفه الإقليمي الجديد، الرئيس المصري أنور السادات، إضافة إلى العراق وليبيا، يدعم “الحركة الوطنية”، لمواجهة “الجبهة اللبنانية” التي كان الغرب يتعاطف معها ويسلحها. وأمام سورية حالياً، وجد زعيم أميركي نفسه أمام معضلة مشابهة.
تشكلت “الحركة الوطنية” من خليط من الأحزاب والحركات العروبية والشيوعية والاشتراكية، المعادية لأميركا والإمبريالية. ترأس الحركة زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي، كمال جنبلاط، الحائز على نجمة (فلاديمير) لينين، الزعيم المؤسس للاتحاد السوفييتي، القطب الدولي المنافس للولايات المتحدة في الحرب الباردة. ليس ذلك فقط، كانت الحركة متحالفةً مع منظمة التحرير الفلسطينية، العدو اللدود لكل من إسرائيل والأردن، حليفي أميركا المركزيين في المنطقة.
أسس الرئيس المصري السابق، جمال عبد الناصر، علاقات جيدة مع الحركة الوطنية. وعلى الرغم من أن السادات أحدث قطيعة مع النهج الناصري، محلياً وإقليمياً ودولياً، إلا أنه عزز العلاقات مع الحركة الوطنية، وأراد المحافظة على “اتفاقية القاهرة”.
تعقدت المعضلة التي واجهها كيسنجر في لبنان، بسبب قرب الجبهة اللبنانية من فرنسا والفاتيكان، وتوثق علاقات أطراف في الجبهة (حزب الكتائب) مع إسرائيل، حليفة واشنطن في المنطقة.
“وجد كيسنجر أن حافظ الأسد سيحقق كل عناصر الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط”
تتالت التناقضات أمام كيسنجر؛ فانتصار الحركة الوطنية على الجبهة اللبنانية، مدعومةً بالسلاح الفلسطيني، سيقوّي السادات (والنفوذ المصري في لبنان، ويخل بتوازن القوى المفضل لدى كيسنجر) ومنظمة التحرير، ويزيد الضغوط على إسرائيل والأردن في لحظةٍ حرجةٍ بالنسبة لدبلوماسية الشرق الأوسط. لكن انتصار الجبهة الوطنية (السيناريو الأفضل)، سيتسبب في ردة فعل داخل مصر والعالم العربي. خشي كيسنجر من أن تؤدي ردة الفعل هذه إلى ارتكاس الرئيس المصري عن تحوله الاستراتيجي نحو الولايات المتحدة، وتأييده عملية السلام مع إسرائيل.
قدّر كسينجر أن ميزان القوة المحلي في لبنان لا يتيح للجبهة اللبنانية الانتصار، بل هو يحتم أن تهزم على يد خصومها في الحركة الوطنية. لذلك، كان لا بد من تعديل الميزان العسكري المائل ضد الجبهة، عبر تدخل طرف إقليمي أو دولي.
نتيجة جراح فيتنام، كان تدخل واشنطن في النزاع اللبناني خارجاً عن التصور بالنسبة لكيسنجر. رفض تورّط فرنسا (الراغبة) في الساحة اللبنانية، لأنّ من شأن تدخلها هناك أن يؤثر على التزامها داخل حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وأن يغري الاتحاد السوفييتي بردٍّ مشابه. لم يكن كسينجر يريد للسوفييت أن يعودوا إلى الساحة الدبلوماسية في الشرق الأوسط من نافذة الأزمة اللبنانية، بعد أن عزلهم عن دبلوماسية الشرق الأوسط، عبر استراتيجية “خطوة خطوة”.
إذا كان خيار تدويل الأزمة اللبنانية سيقود إلى عودة سوفييتية مظفرة إلى شؤون الشرق الأوسط، فإن لأقلمة النزاع تداعياتها أيضاً. وألقى كسينجر نظرة فاحصة على الأطراف الإقليمية المستعدة للتدخل، فرأى أنها تنقسم إلى سورية وإسرائيل ومصر.
بالنسبة لكيسنجر، كان تعاون واشنطن مع القاهرة بشأن لبنان سيتطلب قبولاً أميركياً بانتصار الحركة الوطنية، وبالتالي، تعزيز نفوذ مصر في الهلال الخصيب. أما الخيار الإقليمي الثاني، فتمثل في منح واشنطن موافقتها على توسيع إسرائيل دورها في تزويد الجبهة اللبنانية بالأسلحة والمال. خشي كيسنجر هذا الخيار، ليس لأنه سيورّط إسرائيل في حربٍ دينيةٍ خاسرة، فحسب، بل لأنه سيقودها إلى حربٍ بالوكالة مع مصر على الأرض اللبنانية. هذه الحرب بالوكالة كانت ستهدد عملية السلام التي كان كيسنجر ينسج خيوطها الدقيقة بين القاهرة وتل أبيب.
محص كيسنجر خياره الأخير؛ سورية. كان حافظ الأسد حليفاً للاتحاد السوفييتي، لكنه قبل بالوساطة الأميركية لفصل القوات في الجولان؛ كان الأسد عدواً لإسرائيل لكنه على جفاء مع رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ياسر عرفات، أيضاً؛ بعثياً عروبياً، لكن علاقاته متوترة مع بعث العراق. أخيراً، كان حافظ الأسد سيبقى على الهامش ومعزولاً، طالما ظل الدور المصري في الشؤون الفلسطينية واللبنانية والعربية طاغياً.
تابع كيسنجر استراتيجية حافظ الأسد في سورية والمنطقة. قامت هذه الاستراتيجية على تصدير الأزمة العميقة التي أحدثها وصوله إلى السلطة في سورية، إلى الخارج. من هذا المنطلق، دخل حرب أكتوبر/ تشرين أول 1973، وسعى إلى الهيمنة على سورية الكبرى. وقف عدد من المنافسين عقباتٍ أمام مساعي حافظ الأسد، من مصر والعراق وإسرائيل والسعودية، إلى الملكية الأردنية، منظمة التحرير الفلسطينية، الجبهة اللبنانية والحركة الوطنية. أراد تحييد الأكثر خطراً، مصر ومنظمة التحرير. ففي وسع سورية التلاعب على التنافس المشتعل بين العراق والسعودية على كسب ود دول الخليج حديثة الاستقلال. أما في لبنان، ولولا العامل الفلسطيني، لأمكن لحافظ الأسد ضرب الحركة الوطنية بالجبهة اللبنانية. أما الأردن فلا يزال يعاني من عزلةٍ عربيةٍ قاسيةٍ نتيجة أيلول الأسود، وموقفه من الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية.
“بعد أن ضمن أمن سورية في الجولان، نتيجة اتفاق فض الاشتباك. ومن ناحية العراق المتورط في الحرب على التمرد الكردي، وجد حافظ الأسد أن الساحة اللبنانية مهيأة لكي تكون منصة إطلاق استراتيجيته الإقليمية”
بعد أن ضمن أمن سورية في الجولان، نتيجة اتفاق فض الاشتباك. ومن ناحية العراق المتورط في الحرب على التمرد الكردي، وجد حافظ الأسد أن الساحة اللبنانية مهيأة لكي تكون منصة إطلاق استراتيجيته الإقليمية. لكن الرجل الحذر بطبعه، خشي من رد فعل أميركا وإسرائيل ومصر على تحركاته. لذلك، جاءت التحركات السورية في بدايتها، تجاه لبنان، سرّية وعبر أدوات فلسطينية.
خشي حافظ الأسد من انتصار الحركة الوطنية المتحالفة مع منظمة التحرير. اعتبر أن هذا الانتصار سيقوّي المنظمة، ويجعلها رقماً صعباً في سورية الكبرى. كما رأى أن هذه النتيجة ستعزّز دور مصر فيما يعتبره الرئيس السوري السابق منطقة نفوذ خاص به. كما أقلق الأسد احتمال التدخل العسكري الإسرائيلي في لبنان، لمنع انهيار الجبهة اللبنانية.
من جهة أخرى، وبسبب التداخل بين لبنان وسورية، لم يكن في وارد حافظ الأسد ترك الميزان اللبناني الرهيف يعمل من دون تدخله، لأنه يشكل خطراً بعيد المدى على سلطة الرجل في دمشق.
ربط حافظ الأسد بين تنظيم “سورية الكبرى”، وبالقلب منها لبنان، واستقرار السلطة الحاكمة في سورية. ويتطلب تنظيم سورية الكبرى، وفقاً لمخطط حافظ الأسد، تعديلاً لبنية السلطة في لبنان، بما يتيح سيطرة سورية عليه (عبر ضبط ميزان للقوة تسهر عليه دمشق بين الحركة والجبهة). وقبل أن يتحقق الإصلاح الدستوري، لا بد من تحييد أثر منظمة التحرير. تقتضي استراتيجية حافظ الأسد وضع المنظمة تحت الجناح السوري، بوصفها ورقة تفاوضية مع أميركا، والاتحاد السوفييتي، وإسرائيل والعرب.
وتتمثل الخطوة الأولى، وفقاً لحافظ الأسد، في إبعاد المصريين عن الشؤون الفلسطينية واللبنانية. يتحقق ذلك بهزيمة الحركة الوطنية ومنظمة التحرير، وعلى الرغم من تحالفهما المعلن مع الاتحاد السوفييتي المزود الرئيس لسورية بالسلاح في حروبها ضد إسرائيل.
هكذا وجد كيسنجر أن حافظ الأسد سيحقق كل عناصر الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط. أولاً، إبقاء السوفييت خارج الوضع الدبلوماسي والعسكري في الشرق الأوسط. ليس ذلك فقط، بل، أيضاً إضعاف النفوذ السوفييتي، المتراجع أصلاً في المنطقة، عبر هزيمة حلفاء موسكو (العراق – ليبيا – منظمة التحرير – الحركة الوطنية). ثانياً، إعادة رسم موازين القوى الإقليمية، عبر طرد مصر من سورية الكبرى، وكفّ يدها عن التدخل في الشؤون الفلسطينية واللبنانية. وسيقلص هذا الترتيب نفوذ القاهرة وقوتها الإقليمية، ويجعلها أضعف أمام الضغوط الأميركية. ثالثاً، وضع الحريق اللبناني تحت الإدارة السورية، بما يمنع هذا الحريق، ويلهي دمشق، عن التأثير “سلباً” في عملية السلام بين مصر وإسرائيل. رابعاً، إضعاف العامل الفلسطيني في الهلال الخصيب، وترويضه حتى يتراجع عن مطلبه، وهو إزالة إسرائيل. أخيراً، إعادة التوازن السياسي (عبر الورقة الدستورية) والعسكري (عبر تقليص قوة الكتلة الوطنية) إلى لبنان.
بالنسبة للعنصر الأخير، كان كيسنجر يعتقد بضرورة إحداث تعادل في السلطة بين المسلمين والمسيحيين في لبنان، يعكس التحول في الموازين الديمغرافية للبلاد. وبوصفه مؤرخاً، كان كيسنجر يعتقد أن الوضع في لبنان بحاجة إلى إدارة خارجية بين مكوناته المتناحرة. ولأنه مؤمن بتأثير العوامل الجيوبوليتيكية، كان يعتقد أن دوراً سورياً في لبنان طبيعي جداً بل حتمي. لذلك، قرّر كيسنجر ألا يقف في طريق التدخل السوري، مفضلاً أن يساوم عليه، ويحدد شروطه.
أبرق كيسنجر إلى سفيره في دمشق، ريتشارد مورفي، يأمره بالتفاوض مع الأسد حول التدخل في لبنان، ولعب “الورقة الإسرائيلية” في لحظةٍ اقتربت فيها الحركة الوطنية من تحقيق نصر على الجبهة اللبنانية. كما أمر كيسنجر دبلوماسييه في لبنان باللعب على مخاوف المسيحيين، ووضع الخيار أمامهم، بين قبول معونة حافظ الأسد أو الهجرة عبر المتوسط. بهذه الطريقة، أطلق الوزير الأميركي مناورته الكبرى التي انتهت إلى التفاهم على اتفاق الجنتلمان “الخطوط الحمر”. قسم الاتفاق لبنان إلى مناطق نفوذ بين سورية وإسرائيل تحت الإشراف الأميركي.
بنيله التكليف الأميركي، توصل حافظ الأسد إلى ما يريد. سيعيد ترتيب لبنان بدعم أميركي وتأييد أردني ومباركة سعودية، بينما العراق منشغل بمشكلاته الداخلية والإسرائيليون على الحياد. دخل الجيش السوري في أعقاب قوات “العاصفة الفلسطينية”، إلى لبنان، مراعياً اتفاق الخطوط الحمر. هُزمت الحركة الوطنية ومنظمة التحرير، وتمكّنت الجبهة الوطنية من استعادة أنفاسها. لكن ذلك لم يتم فوراً بل بنهج تدريجي.
“تكاملت عناصر المأزقين، السوري واللبناني، أمام كيري وكيسنجر. وابتدع الوزيران الحل. الالتجاء للخصم. كيسنجر لحافظ الأسد. كيري لبوتين”
بهزيمة حلفائه، اضطر السادات للرضوخ. عُقدت قمتان عربيتان مصغرة وموسعة، أدت خلالهما السعودية دور الوسيط بين حافظ الأسد والسادات. اتفق الزعماء العرب على تشكيل قوات ردع عربية في لبنان، عمادها الجيش السوري. بهذا القرار، أسبل العرب شرعيتهم على التدخل السوري في لبنان. أما مصر، فقد أُخرجت من الهلال الخصيب، ليس على يد كيسنجر وبسلاح أميركي، بل على يد حافظ الأسد، وبسلاح سوفييتي. وعقب هذه الأزمة، أصرّ السادات على السير وحيداً في طريقه العنيد نحو كامب ديفيد.
دفعت الجبهة اللبنانية ثمن التدخل السوري بالموافقة على الورقة السورية المتضمنة للإصلاحات الدستورية. أمنت السعودية المؤيدة “الحل السوري” انفضاض الزعماء التقليديين للسنة في لبنان من حول جنبلاط ومنظمة التحرير. في المقابل، سحب مؤسس حركة أمل، الإمام موسى الصدر الطائفة الشيعية بعيداً عن الحركة الوطنية واليسار. وهكذا ذوت الحركة. كان من الطبيعي، من وجهة نظر حافظ الأسد وحتى هنري كيسنجر، تخليص لبنان من عنصر عدم استقرار دائم هو كمال جنبلاط.
وبعد أربعين عاماً، كان على إدارة أميركية أخرى أن تواجه معضلة انهيار ترتيبات حافظ الأسد الداخلية والإقليمية. فبعد سنتين من الخلاف، تعاونت السعودية مع تركيا وقطر في سورية. أثمر التعاون عن شن قوى المعارضة هجماتٍ متزامنةً على مواقع النظام في كل من إدلب وحلب ودرعا وريف دمشق. خسر النظام تلك المواجهات. خلال أشهر معدودة، تمكّن التعاون السعودي التركي من قلب المعادلة الميدانية، وحشر إيران والنظام في الزاوية. لكن واشنطن لم تكن سعيدة بالآثار الجانبية “زيادة قدرة المتطرفين”، واختلال التوازن الإقليمي. في مايو/ أيار 2015، زار وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، من أجل إعادة تفعيل المسار الدبلوماسي بشأن سورية، وعزلها عن الخلاف الروسي الأميركي بشأن أوكرانيا. ولكن، اتضح أن موسكو كانت تخطط لأشياء مختلفة.
كيري.. كيسنجر.. معضلتان والحل واحد
في ربيع العام 2015، وجد كيري نفسه في مواجهة الأزمة السورية أمام المعطيات نفسها التي واجهها كيسنجر في لبنان، قبل حوالي أربعين عاماً. حلفاء لأميركا يتبعون سياسات تتعارض والاستراتيجية الأميركية الشرق أوسطية، والأسوأ من ذلك، إنهم يدعمون الأطراف الخاطئة في المعادلة. أما خصوم أميركا، فهم يملكون مفاتيح ترتيب حلٍّ يتوافق مع متطلبات التوزان الإقليمي الذي تنشده إدارةٌ تعيد النظر في التزاماتها حول العالم. والأهم، أن عزل أولئك الخصوم عن القضية أمر صعب من الناحية الجيوبوليتكية. وأخيراً، منطقة يجري إعادة بنائها وتركيبها في ظل متحولات دولية وإقليمية كبيرة.
بالنسبة لكيري، بدت سياسات حلفاء أميركا (فرنسا، تركيا، قطر، السعودية) في سورية متعارضةً مع الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط والعالم. هدّدت سياسات هؤلاء الحلفاء بجر واشنطن إلى المستنقع السوري الذي لا مصلحة أميركية مباشرة فيه، وحيث ستجد أميركا نفسها في مواجهة قوى كبرى (روسيا)، إقليمية (إيران) ومحلية (النظام، داعش والنصرة). في بداية الحرب اللبنانية، خشي كيسنجر من أن الاصطفاف مع إسرائيل ضد مصر سيؤدي إلى خسارة أميركا صداقة السادات، وعودته إلى الاتحاد السوفييتي. أيضاً، قلق كيسنجر من أن تقود معاداة سورية في لبنان إلى تصعيد كبير، يتورّط فيه الجباران النوويان.
“ضغط كيري على حلفاء بلاده لوقف دعم المعارضة السورية، فهو يرفض هذا الدعم. ويريد أن يتوقف الدعم، لأنه يصل، في النهاية، إلى “الأيدي الخطأ””
خشيت واشنطن من أن يؤدي تورطها في سورية إلى استمرار الانخراط الأميركي الكثيف في الشرق الأوسط، في وقت تعمل إدارة أوباما على إعادة تشكيل الموقف الأميركي في المنطقة، من أجل إعادة نقل مواردها وتركيزها في الشرق الأقصى واحتواء الصين الصاعدة. وبالمثل، كانت خطط كيسنجر تتمحور حول إعادة توزيع الموارد الأميركية من عموم الشرق الأوسط إلى الخليج العربي، لملء فراغ انسحاب القوة البريطانية من شرق السويس (عام 1971)، والسيطرة على منابع النفط.
وبسبب القيود التي وضعها الرئيس الأميركي، باراك أوباما، والرأي العام الأميركي، على التدخل العسكري في الخارج، بعد حربي أفغانستان والعراق، تزايدت الرغبة داخل الإدارة الأميركية بالبقاء بعيدةً عن الأزمة السورية. تشابه تلك القيود الحدود التي فرضت على استخدام القوة إبّان عهدي الرئيسين، ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد، بعد حرب فيتنام. نتيجة تلك الحدود، ابتكر كيسنجر استراتيجية “الوكلاء الإقليميين” الذين عهد إليهم بحماية المصالح الأميركية في مناطقهم. وبالمثل، خططت إدارة أوباما لتوكيل أطرافٍ إقليميةٍ بحماية مصالحها، ودعمهم من الخلف (القيادة من الخلف). في الشرق الأوسط، كانت رغبة أوباما الدفينة في الاعتماد على إيران، لكن استمرار أزمة النووي ورغبات وكالة الاستخبارات المركزية عطلت المشروع، حتى تعيين كيري وزيراً للخارجية.
من جهة أخرى، كان حلفاء واشنطن يدعمون المعارضة السورية التي تحتوي على بعض الفئات المتطرفة، تماماً كما كانت مصر المرشحة لتصبح حليفة واشنطن، تدعم “الحركة الوطنية” المتحالفة مع منظمة التحرير الفلسطينية (الإرهابية في ذلك الوقت) في لبنان.
وفيما كانت إدارة أوباما تعيد النظر في التزاماتها الشرق الأوسطية، برزت روسيا وإيران. شكلت الدولتان المعسكر المقابل لحلفاء واشنطن. لكن، بالنسبة لأوباما، مثلت طهران وموسكو مفتاحيْن لا غنى عنهما، لإنهاء التورط الأميركي في أفغانستان والعراق، وحل أزمة النووي الإيراني. وعلى الصعيد الأوسع، رأى البيت الأبيض في الكرملين شريكاً فعالاً لإدارة أزمة انهيار اتفاقية سايكس بيكو، بعد حوالي المائة عام من توقيعها.
جيوسياسياً، لم يكن بإمكان أحد تجاهل القواعد الروسية في سورية. أيضاً لم يمكن من الواقعي تجاهل التطويق الإيراني لسورية من البقاع (عبر حزب الله) ومن العراق عبر المليشيات الشيعية. والأهم أن أوباما عقد في العام 2010 شراكة مع الإيرانيين لإدارة شؤون العراق الذي من الصعب أن تتخلى واشنطن عنه لأي من القوى الكبرى المنافسة.
وكيري الذي فرغ لتوه من عقد صفقة النووي مع إيران (في يونيو/ حزيران 2015)، لم يعد مهتماً كثيراً بالضغط على طهران في سورية، بل، بات أكثر اهتماماً بفرش السجاد الأحمر أمام ممثلي المرشد الأعلى، عله (كيري) يعيد إيران إلى حضن الولايات المتحدة. أما روسيا فبإمكانها ملء بعض الفراغ الذي سيخلفه تراجع الدور الأميركي في المنطقة، وبإمكانها لعب الدور في تسوية الأزمة السورية التي تتيح قتال داعش، وتشكيل النظام الشرق الأوسطي الجديد.
فكما أدت حربا 1967 و1973 إلى تفكك الشرق الأوسط الذي هيمنت عليه مصر، وجهت تداعيات غزو العراق (2003) ضربة قوية للهيمنة الأميركية، وكاد الشرق الأوسط، لولا الأزمة السورية، أن يسقط تحت الهيمنة الإيرانية، برضى واشنطن. هذه الأزمة التي ترافقت مع الفوضى الإقليمية التي خلفتها سياسات إدارة جورج بوش الابن، جعلت أوباما يتوصل إلى أهم أهدافه. إنهاء أزمة الملف النووي، وتشكيل توازن إقليمي، لا يسمح بهيمنة أحد، ويمكن واشنطن من سحب مواردها بسلاسة أكبر إلى الشرق الأقصى.
وعلى مدار السنوات الماضية، دعمت إيران وروسيا النظام بشدة. لم تدفعهما خسارة بشار الأسد المحتملة إلى التوقف عن دعمه، بل على العكس كثفتا مساعداتهما، وزادتا التعاون والتنسيق فيما بينهما، من أجل منع سقوطه. واقتربت الدولتان من زيادة دعمهما النظام بشكل خطير في يوليو/ تموز الماضي. وبدل أن يرفض كيري الأمر، اختار أن يساوم عليه. ولذلك، أطلق عملية فيينا التي مثلت تحديداً للجهد العسكري الروسي الإيراني المشترك في سورية.
في المقابل، ضغط كيري على حلفاء بلاده لوقف دعم المعارضة السورية، فهو يرفض هذا الدعم. ويريد أن يتوقف الدعم، لأنه يصل، في النهاية، إلى “الأيدي الخطأ”. أما الحلفاء فهم يشترطون، لوقف الدعم عن المعارضة، التوصل إلى حل للأزمة السورية يلحظ مصالحهم. لكن هذا يناقض مخطط كيري الذي يريد ألا يقصي أي حل النظام وإيران وروسيا.
يختلف كيري مع حلفائه بشأن النتيجة النهائية المرغوبة في سورية. هؤلاء الحلفاء يريدون إما أن تنتصر المعارضة عسكرياً، بغض النظر عما سيرافق انتصارها من فوضى شاملة وزيادة حدة التدخلات الروسية والإيرانية واستفادة داعش والنصرة، أو استمرار حرب الاستنزاف حتى يستسلم النظام، وهذا مستحيل، طالما تدعمه موسكو وطهران. أما كيري فهو يريد إعادة تركيب السلطة في دمشق، بما يتيح إعادة بناء المنطقة والقضاء على داعش.
تتقاطع هذه المقاربة، على الأقل، مع غايات موسكو التي ترمي إلى إعادة ترتيب المنطقة بما يتوافق والعودة الروسية إليها. ولقد تعهدت كل من إيران وروسيا سلفاً بإعادة إنتاج دستور جديد لسورية، الأمر الذي يبدو أن لعاب كيري قد سال عليه.
وأخيراً، هناك جانب شيطاني في مساعي كيري. فهو يريد أن يكسر المعارضة (حلفاء حلفائه). وسيؤثر تحقيق هذه الغاية على التحالفات الأميركية. لذلك، قرّر الوزير الأميركي الاستعانة بالروس والإيرانيين. كما أنه يريد أيضاً أن يحول عداء المتطرفين الإسلاميين عن بلاده باتجاه روسيا.
هكذا تكاملت عناصر المأزقين، السوري واللبناني، أمام كيري وكيسنجر. وابتدع الوزيران الحل. الالتجاء للخصم. كيسنجر لحافظ الأسد. كيري لبوتين.
نقلا عن العربي الجديد