تقسيم سوريا بين الواقع والمأمول

تقسيم سوريا بين الواقع والمأمول

تقسيم سوريا بين الواقع والمأمول

تحولت فكرة تقسيم سوريا إلى مادة دسمة عند كثير من الكتاب والسياسيين خلال الأعوام الثلاثة السابقة، ومع كل تغير عسكري يطرأ على الجغرافية السورية تنطلق الأفكار التي تتحدث عن التقسيم، معززة بفكرة المؤامرة الدولية المستمرة ضد العرب من جهة، وبفكرة المؤامرات الطائفية والإثنية التي تحكم المشرق العربي من جهة ثانية.

وجاءت تصريحات وزير الخارجية الأميركي جون كيري أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ حول تقسيم سوريا، ثم تصريحات نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف عن جمهورية فيدرالية لتؤكد أن فكرة التقسيم ماضية على قدم وساق.

“الحقيقة أن فكرة التقسيم تهدد كينونة المجموعة السنية السياسية والاجتماعية خصوصا بعدما افتقدت قوتها ككتلة تاريخية وازنة خلال العقود الأربعة الماضية، وما زالت تنظر إلى الدولة الحالية (دولة ما بعد الاستقلال) على أنها وطن غير مكتمل بأرض غير ملائمة، واسم غير مناسب”

هذا المقال ينطلق من رؤية مخالفة تماما لفرضية التقسيم، بل صعوبة تطبيقها في سوريا لأسباب داخلية وأخرى خارجية، إقليمية ودولية على السواء، وليست تصريحات كيري انعكاسا لواقع متحقق أو في سيره إلى التحقق، وإنما القصد منه أن استمرار المعارك أكثر من ذلك سيؤدي إلى تقسيم مواقع القوى بشكل أوضح مما هي عليه الآن في عدة مناطق جغرافية مثل الأكراد في الشمال الغربي والشمال الشرقي، والنظام في الساحل ودمشق ومحيطها، والمعارضة في إدلب ومناطق أخرى، وداعش (تنظيم الدولة الإسلامية) في دير الزور والرقة.

وهذا الأمر يختلف اختلافا كبيرا عن التقسيم الجغرافي السياسي، والسبب في ذلك أن المناطق العسكرية أو ما يمكن تسميتها الكانتونات العسكرية ليست قائمة على حقائق ووقائع قومية أو مذهبية أو طائفية، بمقدار ما تعبر عن معطيات عسكرية متحولة، ومناطق النفوذ شيء ونشوء كيانات سياسية جديدة شيء آخر تماما، وعليه فإن التقسيم العسكري الحالي الذي فرضته المعركة لا يمكن أن يتحول إلى تقسيم سياسي يؤسس لكيانات ودول جديدة على أنقاض الدولة السورية.

كما أن الفدرالية التي يتم الحديث عنها بمعناها المتحقق في الغرب لا تستقيم مع الواقع السوري، ذلك أن الفدرالية نشأت كحل ضمن الدولة (الأمة) التي تحققت في الغرب، تلك الدولة التي اعتمدت المواطنة كأساس للانتماء إليها بغض النظر عن الانتماءات الصغيرة القومية والإثنية والطائفية، وهذه مرحلة غير متحققة في العالم العربي وسوريا منه، حيث المجتمع والدولة ما زالا في مرحلة ما قبل الحداثة السياسية، وبالتالي، لن تكون هذه الفدرالية في سوريا سوى وجه آخر من وجوه التقسيم الجغرافي السياسي.

الواقع الديمغرافي
لا توجد في سوريا كتل جغرافية ذات لون طائفي موحد، فالطوائف منتشرة فيما بينها، ففي الساحل يوجد السنة والعلويون والمرشديون والمسيحيون جنبا إلى جنب، وحتى في الشمال السوري ورغم تزايد القوة الكردية، فإن الواقع الديمغرافي لا يسمح بسيطرة كردية صافية ولا بسيطرة عربية صافية، وفي الجنوب وتحديدا في السويداء لا يملك الدروز أية مقومات داخلية وخارجية للانفصال، فضلا عن أن الهوية الوطنية السورية تعتبر هويتهم الأولى، وتاريخهم الوطني شاهد على ذلك، أما السنة فهم منتشرون في مختلف أنحاء سوريا، ولا يستطيعون تشكيل كيان سياسي موحد.

والحقيقة أن فكرة التقسيم تهدد كينونة المجموعة السنية السياسية والاجتماعية خصوصا بعدما فقدت قوتها ككتلة تاريخية وازنة خلال العقود الأربعة الماضية، وما زالت تنظر إلى الدولة الحالية (دولة ما بعد الاستقلال) على أنها وطن غير مكتمل بأرض غير ملائمة، واسم غير مناسب بحسب تعبيرات كارلين دوناتي، ولا تكتمل الهوية السنية بالقضاء على الدولة الحالية، وإنما باستعادتها على أساس توزيع ديمقراطي لمجمل مكونات المجتمع السوري الذي يشكل السنة فيه الجانب الأكبر والأهم.

وبالنسبة للنظام، فحتى لو فكر بجعل جبال العلويين دولة له، فهناك عائقان يمنعان ذلك، الأول، أن هذه الدولة المفترضة لا تمتلك مقومات البقاء، حيث ستكون محاصرة من السنة، وثانيا أن مثل هذه الدول ستقوض الفكرة التي طالما استند عليها البعث طوال أربعة عقود (الوحدة الوطنية كضرورة للوحدة القومية).

“لن تكون الدولة العلوية المتخيلة لصالح العلويين، ذلك أنها ستحصرهم في فضاء جغرافي واجتماعي وسياسي واقتصادي ضيق، على عكس فضاء الدولة السورية التي شكلت بالنسبة لهم امتدادا جغرافيا تجاوز الحدود الجبلية التي طالما كانت بمثابة “الغيتو” بالنسبة لهم طوال القرون الماضية”

وما جرى من تدعيم لفكرة سوريا المفيدة، أي حماية المناطق الساحلية عسكريا، إنما جاء لحسابات اقتضتها ظروف المعارك، فمنظومة الحكم التي يعتبر العلويون قلبها، لا تستطيع التفكير في عملية التقسيم لأنه يؤدي إلى القضاء على امتدادهم في الجغرافية السورية وحصر تواجدهم في بقعة جغرافية محدودة (جبال العلويين، والساحل)، وحماية نظام الحكم لهذه المناطق حيث الانتشار العلوي، ليس من أجل تأمين شروط الدولة العلوية – كما ذهب البعض- وإنما لحماية العلويين من داخل الدولة السورية وليس على أنقاضها.

والأهم من ذلك أن الدولة العلوية المتخيلة لن تكون لصالح العلويين، ذلك أنها ستحصرهم في فضاء جغرافي واجتماعي وسياسي واقتصادي ضيق، على عكس فضاء الدولة السورية التي شكلت بالنسبة لهم امتدادا جغرافيا تجاوز الحدود الجبلية التي طالما كانت بمثابة “الغيتو” بالنسبة لهم طوال القرون الماضية.

ورغم حجم الأزمة الكبيرة التي أصابت سوريا، فإن خطاب التقسيم لم ينطق به أحد (باستثناء بعض الأكراد)، فالمجتمع السوري مجتمع علماني وإن كان محافظا، ولا يوجد فيه غلو طائفي كما الحال في العراق ولبنان، وقد ظل متماسكا رغم كل هذه الأهوال، والدليل على ذلك أن الحرب الأهلية لم تتحول إلى حرب طائفية واسعة كما حصل في جيرانه، واليوم تشهد اللاذقية وجبلة وطرطوس على النزوح السني الكبير جنبا إلى جنب مع العلويين الذين يشكلون القاعدة الشعبية للنظام، في وقت ينتشر العلويون في عموم دمشق حيث الغالبية السنية.

وما يجري الآن من إعادة توزيع ديمغرافي في بعض المناطق ليس مرتبطا بقيام الدولة العلوية المتخيلة، وإنما يرتبط بحسابات إقليمية (إيران)، ذلك أن إعادة التوزيع الديمغرافي تجري بعيدا عن البيئة الجغرافية لمعقل العلويين، إنها تجري في منطقة القلمون وبعض مناطق ريف حمص الغربي، بسبب ارتباطها الجغرافي بلبنان، أي أن عملية التوزيع غايتها تعزيز حضور الشيعة والعلويين في هذه المناطق كمصد خلفي لشيعة لبنان.

وبعودة سريعة إلى العقود الأربعة الماضية، يمكن اكتشاف حجم التغير الديمغرافي الكبير، فمع تولي حافظ الأسد للحكم، حدث أمران مهمان، الأول بداية تشكل الدولة المركزية بعد سنوات الضعف التي أعقبت الاستقلال، والأمر الثاني النهوض الاقتصادي الذي حدث مطلع السبعينيات. وهذان الأمران ساهما في انتقال أعداد كبيرة من الريف إلى المدينة وتحديدا العاصمة.

ثم جاءت الأزمة الزراعية قبيل الأزمة لتدفع مئات الآلاف للانتقال إلى دمشق والساحل، ثم جاءت الأزمة الأخيرة لتدفع كثيرا من السنة إلى السكن في طرطوس واللاذقية وجبلة، وهكذا أصبح الواقع الديمغرافي غير مرتبط بالجغرافيا، الأمر الذي يعقد فكرة التقسيم إن لم يجعلها مستحيلة.

الواقع الإقليمي والدولي
فكرة التقسيم فكرة مرفوضة على المستوى الإقليمي، لأن تقسيم سوريا بهذا المعنى سيفجر المنطقة، فتركيا لا تتحمل وجود إقليمين كرديين مستقلين، أحدهما في العراق والآخر في سوريا، وإذا كانت قبلت بالكيان الكردي العراقي، فإنها لن تقبل بكيان كردي سوري، لسبب رئيسي هو أن إقليم كردستان العراق لا يرتبط بتركيا بحدود طويلة (331 كلم فقط)، فضلا عن وجود موانع طبيعية (جبال قنديل)، الأمر الذي يحد من التأثير الكردي داخل الحدود التركية، خلافا للوضع بالنسبة لسوريا، حيث الحدود مع تركيا تصل إلى نحو 900 كلم، مع أرض منبسطة يسهل فيها التداخل الديمغرافي.

“فكرة التقسيم مرفوضة إقليميا، لأنها ستفجر المنطقة، فتركيا لا تتحمل وجود إقليمين كرديين مستقلين، ولبنان لا يحتمل وجود دولة أو كيان علوي على حدوده الشمالية والشمالية الشرقية، والعراق لا يحتمل وجود كيان كردي يكون امتدادا لإقليم كردستان، ولا يقبل أيضا نشوء كيان سني على حدوده الغربية”

وفكرة التقسيم مرفوضة لدى جميع الدول الإقليمية، فلبنان لا يحتمل وجود دولة أو كيان علوي على حدوده الشمالية والشمالية الشرقية لأنه سيخنق عكار وطرابلس حيث الثقل السني، والعراق لا يحتمل وجود كيان كردي يكون امتدادا لإقليم كردستان، في وقت لا يقبل أيضا نشوء كيان سني على حدوده الغربية يشكل عمقا إستراتيجيا للأنبار حيث الثقل السني، والأردن لا يتحمل دويلات متعددة على حدوده، وقد عبر الملك الأردني أكثر من مرة عن كارثية فكرة التقسيم في سوريا.

وليس صدفة أن يرفض رئيس الحكومة التركية أحمد داوود أوغلو خلال زيارته طهران والرئيس الإيراني حسن روحاني أية فكرة لتقسيم سوريا، لأنها تضر بمصالح البلدين، وعلى الرغم من الدعم الإيراني ذي الصبغة الطائفية للنظام السوري فإن طهران تدرك جيدا أن تقسيم سوريا يفقدها أهم ورقة جيوإستراتيجية في المنطقة.

وبالنسبة للغرب -وخصوصا الولايات المتحدة- فلا يتحمل هو الآخر تقسيم سوريا، وكان أحد أهم الأسباب التي جعلت واشنطن تقف ضد أية محاولة لإسقاط النظام، هو الخوف من انهيار الدولة ونشوء حروب طائفية قد تنتهي بتقسيم فعلي للبلاد في المستقبل البعيد.

والأمر في سوريا يختلف عنه في العراق، عندما طرحت فكرة التقسيم عام 2007 مع إدوارد جوزيف ومايكل أوهانلون في معهد بروكينغز الأميركي اللذين أكدا أن تقسيم العراق إلى ثلاث مناطق (جنوبية، وسطى، شمالية) يتطلب وجود حرب طائفية، وهو أمر لا يمكن تحمله في سوريا حيث التداعيات أكبر وأعظم على عموم المنطقة.

حسين عبدالعزيز
الجزيرة نت