معركة الوعي والواقع العربي القادم

معركة الوعي والواقع العربي القادم

580

التأزم والتعقيد هما سيدا الموقف فيما يعيشه العالم العربي الآن سياسيا واقتصاديا وحتى اجتماعيا، وباختصار حضاريا، ومع هذا فإن طبيعة العلاقة العضوية بين الأقطار العربية في الحاضر والتاريخ والجغرافيا والثقافة تأبى إلا أن تؤكد نفسها حتى في أزمتها الحالية الخطيرة.

ويعني هذا أن تقديم رؤية كلية عن العالم العربي لتفسير أو اقتراح تغيير ما يجري فيه، لن يكون من قبيل التعميم الخطأ، ولن يكون كذلك تجاوزا للخصوصيات القُطرية العربية التي لم تتحول -مع عبورها مراحل زمنية طويلة- إلى فروق جوهرية، بل بقينا مثل قنوات الماء المتجاورة والمفتوح بعضها على بعض من جهة أو أخرى، لا يسري في أحدها ماء صاف أو عكر إلا كان للأخرى نصيب منه على قدر قوته وكثرته.

اللاوعي والاستبداد
مركز الإشكالية في التاريخ العربي المعاصر؛ أي في مرحلة ما بعد الاستعمار -التي ما زلنا نعيش تجلياتها إلى الآن أو يبدو أننا نحاول التحول منها- هو استبداد السلطة السياسية المدعوم خارجيا والمتمسح بلافتات وطنية وقومية مخدِّرة للعقول والمشاعر، ومغيبة للتفكير والمراجعة، فضلا عن المحاسبة والتغيير وفقا لقوانين تناسب كرامة الإنسان وامتيازه.

وكون هذه السلطة بسلوكها الشاذ -وطنيا وإنسانيا- هي مركز الإشكالية لا ينفي مسئولية المكونات الاجتماعية الأخرى للدولة من مثقفين وموظفين وتجار وروابط عمالية ومهنية وجماعات وجمعيات دينية واجتماعية وفنية وثقافية، إلا أن تغول الدولة الحديثة وتمكنها من وسائل التعليم والإعلام والتوجيه الاجتماعي، واحتكارها لوسائل القوة، أجهض كثيرا من الجهود والمساعي التغييرية، رغم تنوع أدوات هذه الجهود واختلاف وسائلها طوال عقود ما بين الاجتماعي والفكري والسياسي، وحتى الثوري والقتالي.

وقد كان تزييف الوعي جزءا دائما من المعركة ضد حريات الشعوب في مختلف مراحل ما بعد الاستعمار، ولا خلاف على أن استعادة الوعي هي جزء مفصلي من المعركة ضد الاستبداد وحليفه الاستعمار الخفي.

وقد أرخ كثيرون لتزييف الوعي في تثبيت أقدام العسكر في السلطة بمصر مثلا عقب ثورة 1952، وقدموا في ذلك دروسا عامة تتجاوز الحالة المصرية، فقال أحدهم: كانت “الحقائق محجوبة، والرؤية الصحيحة للأشياء معدومة، ولم يبق أمامنا إلا اتجاه واحد وصورة واحدة هي ما ترسمه لنا سلطات محفوفة بدوي الطبول.. سحرونا ببريق آمال كنا نتطلع إليها من زمن، وأسكرونا بخمرة مكاسب وأمجاد، فسكرنا حتى غاب عنا الوعي” (توفيق الحكيم: عودة الوعي ص 74).

وقال: “لقد نجح الحاكم في أن يدمج مصر كلها فيه، وأن يقنع مصر البالغة من العمر أكثر من خمسة آلاف عام أن عمرها هو عمر الثورة ونظامها، وأن لا عمر لها قبل ذلك ولا بعد ذلك يستحق الذكر، هذه العملية البارعة لضغط مصر العملاقة ووضعها في علبة الثورة ونظامها خنق مصر، وأفقدها الوعي بحقيقة حجمها الهائل عبر التاريخ” (عودة الوعي ص 75).

وللقارئ أن يتخيل مدى إحكام الخطة التغيبية التي خضعت لها مصر -كنموذج تكرر كثيرا في عالمنا العربي- في تلك الفترة، حتى وقع صناع الوعي أنفسهم في شراكها، فما بالنا بالجماهير العريضة الكادحة التي تتلقى ما يملى عليها وتمضي صامتة؟!

وفي مقابل هذا، فإن استعادة الوعي تحتاج إلى جهد منظم ووعي دقيق بالطرق والوسائل الملائمة، بل لعل بناء الوعي أشد عسرا من هدمه وتغييبه حسب المعروف من قوانين البناء والهدم.

الوعي الذي نستعيده
“الأبوة” شعور طيب تجاه الآخرين حين تكون معطية وفارضة للنظام الذي ينبغي، وأما حين تكون وصاية على الآخر ومانعا لذاته من التمدد الطبيعي وأخذ مواقعه الاجتماعية والقيام بمسئولياته ونيل حقوقه، فإنها تتحول إلى مصدر تدمير نفسي ومادي للآخر.

لأجل هذا لا ينبغي أن ينطلق القائمون على أمر التوعية من منطلقات أبوية سلبية تحولهم إلى أوصياء على الحاضر وقادة ضروريين للمستقبل، فكما لا يلزم أن يحكم المجاهدون أو المحاربون المنتصرون بالضرورة بعد المعركة، فكذلك لا يلزم أن يحكم القائمون على أمر التوعية، بل عنصر الكفاءة والقدرة والملاءمة هو الأصل في كل الأحوال.

إنها إذن توعية بلا وصاية، فلا تربط فهم المواطن وإدراكاته وتفسيراته بأشخاص ولا بهيئات، بل تربطه بهوية وطنه وثقافة أمته، وعي يميز الصديق من العدو، والمصلحة الثابتة من المصالح المتغيرة.

إنه ليس فقط الوعي بخطورة ما صنعته الثورة المضادة في المرحلة التاريخية الحالية، فهذا جزء فقط من المسألة، ولكنه وعي شامل وبناء كامل لمنظومة القيم والتفكير التي هدمتها عقود وعقود من الاستعمار والاستبداد.

كم استهزأنا بقيم المعنوي إلى جانب المادي، والفكري والعلمي مقارنا بالتجاري، بل بالديني لصالح الدنيوي، وقد حصدنا ثمرة هذا مُرة في المواجهة التي خاضها الربيع العربي مع الثورات المضادة، مما يعني أن هدف الوعي أوسع دائرة من تصحيح الوضع السياسي القائم وعلاج مشكلاته التي لا تتجاوز أن تكون أعراضا لمرض استفحل في الشخصية العربية.

إنه الوعي الذي لا يعطي الثقة فرصة لكي تخدعنا؛ فإن “الثقة شلت التفكير” -كما يقول توفيق الحكيم في تجربته مع الناصرية- حين كانت ثقة لا تعطي الوعي حقه من الفهم، ولا نصيبه من التفسير، ولا الشجاعة حقها من المعارضة والمساءلة.

إن للوعي أخلاقا يجب أن ترافقه، وإلا تحول إلى عملية حشد ومراكمة معلومات لا تجدي في ذاتها شيئا ما لم تكن خاضعة لمنظومة قيم متماسكة وقوية تقدم العام على الشخصي، والقيمة على المصلحة، والثابت على المتحول.

بعض طرق الاستعادة
في خط المواجهة مع الاستبداد المستميت في الدفاع عن مواقعه عربيا لابد من الوعي الواسع والعميق بالتجارب التغييرية التاريخية؛ حتى يشعر الناس بأن لا ثبات للأوضاع الخطأ، وأن التغيير مهما عسر فهو ممكن لو وافق قدَرا ووجد عاملِين، وإن وجد عاملين ولم يوافق قدرا كان لهم عذرهم عند الله وعند الناس!

وليس هناك في تاريخ الإنسان أعمق من التجربة النبوية المحمدية -على صاحبها أفضل الصلاة والسلام- في التغيير الإيجابي، وليس أكثر تداولا في ثقافات العالم الآن من التجربة الغربية للتحول من القرون الوسطى إلى ما بعدها حتى الآن، وفي كلا الحالين تمت التضحية حتى بالدماء الغزيرة، وظهرت نماذج من الجسارة نادرة في التاريخ.

ومع أننا لا يمكن أن نثبت التطابق بين التجربتين، وإلا كنا حربا على الوعي نفسه، إلا أن ثقافة التغيير الإيجابي يمكن استدعاء نماذج كثيرة لها شرقية وغربية قديمة وحديثة تشعر الناس بأنها ثقافة إنسان، وأنه لا يتنازل عن حقه فيها إلا من نسي أنه إنسان.

كذلك فإن معركة الوعي ليست إعلامية بالمعنى المؤسساتي وحده، بل هي كذلك بالمعنى الفردي والشخصي أيضا؛ خاصة في عصر صار فيه بعض الأفراد المشاهير وغير المشاهير أقوى من كثير من المؤسسات، وصارت آراؤهم ومشاركاتهم في صفحاتهم الشخصية وتعليقاتهم على الأحداث مادة مهمة للإعلام المؤسساتي نفسه.

وليست معركة الوعي أيضا إعلامية فقط، وإنما تتخلل تفاصيل الحياة اليومية والمعاملات الاعتيادية، ومهارة القائم بالتوعية يجب أن تبرز في تسكين الوعي بتلقائية، وإشاعته بمهارة وسط هدير الحياة العملية والعلمية والعائلية والاجتماعية عموما.

ومثال قضايا الوعي المهمة أن المواطن لا يعي في أغلب الأحيان، أو ينسى كثيرا فكرة أن المسئولين في الدولة يأخذون رواتبهم من ماله الشخصي (الضرائب) والوطني (ناتج صادرات الدولة)، وبالتالي ليس الحاكم أكثر من متعاقد تعاقدا مشروطا مع الأمة، أو هو أجير يعمل لدى الأصل الاجتماعي والبشري للدولة، وهو الأمة.

ومثالها الآخر أن قيام الموظف العمومي بواجبه ليس تفضلا منه، وأن حفظ أي شخص للأمانة العامة والخاصة ليس منة يتفضل بها على الناس، بل هو واجب لازم عليه، ومن هنا لا ينبغي أن نبالغ في امتداح القائم بواجبه إلا تشجيعا للآخرين على فعل مثله، وإلا بقي مستقرا في عقلية الناس أن الأصل في الموظف العمومي هو تضييع الأمانة في مقابل الجماهير، وتعريضه هو للهوان المادي والمعيشي من قبل الدولة.

ومثالها الثالث أن الأجهزة الأمنية للدولة -وكذا الجيش أيضا- ليست ملكا لشخص الحاكم ولا لقادتها، بل هي من الأمة وملك للأمة والمجتمع، ولا ينبغي توجيهها إلا إلى حيث تخدم مصلحة الأمة.

وأساس ذلك أن الإنسان مخلوق مكرم عند الله وذا رسالة في هذه الحياة، ولا ينبغي أن يُستعبَد لأحد غير الله، ولا أن يعطي مطلق الطاعة والتسليم لغير خالقه وشريعته المعصومة، ولا يصح أن يبيع ضميره في هذه الحياة القصيرة لمخلوق مهما علا شأنه.

إشكالية التفاصيل
وإذا كانت التفاصيل في قضايا الوعي توقع في الإشكالات، والتطبيقات الواقعية له تؤدي إلى الاصطدام بعقليات مغزوة بالوعي الزائف، فيمكن للقائم بالوعي في الظروف الحالية أن يستعين بنتائج الواقع التي أنتجتها التجارب المريرة عقب ربيع العرب، بل بنتائج التسلط الطويل الذي جثا على قلب العرب طوال عقود ضاعت فيها الحريات، وأُهدرت الثروات، وتراجعت البلاد إلى أوضاع أسوأ بكثير مما كان من ترد في حقبة الاستعمار الكئيب.

ولعل الأرقام والإحصائيات العلمية وكل وجوه التحديد الدقيق للبيانات والمعلومات، لعلها تمثل أدوات مهمة في يد القائم بالوعي لا يملك عقل المستقبل لها ردا.

والحقيقة أن هذا كله ليس عودة بمشروع الإصلاح الإسلامي الذي انطلق منذ حوالي قرنين من الزمان إلى بدايته، ولكنه البناء عليه، وتجميع خطوطه الرئيسية، والانتفاع بخبرته السالفة، واستزراع معانيه في تربتها المؤهلة؛ حتى تؤتي ثمارها المرجوة بعد أن تحددت مبادئ هذا الإصلاح تماما، وصنع لنفسه نخبة تمثله في مختلف المجتمعات الإسلامية في العالم.

نبيل الفولي

نقلا عن الجزيرة نت