إن التحدي الرئيسي أمام العلم الاجتماعي العربي في الثمانينات هو البحث عن نموذج نظري جديد بعد سقوط النموذج القديم. وهذه عملية شديدة التعقيد تحتاج لفهم موضوعي عبر تبني المقاربة العولمية التي تدرس فيها الخصوصيات في ضوء العموميات. ولا ينبغي أن تحل اللغة المصطلحية الفنية محل الخطاب المعرفي الذي هو ضروري لفهم الوضع الراهن وتطورات المستقبل.
إن مقاربتي للمشكلة تنطلق من ثلاثة مبادئ. أولها، أن مناقشة الوضع الحالي للعلم الاجتماعي في العالم العربي أو دراسة التوقعات القائمة حول تطوره المستقبلي لا قيمة لها إلا إذا اعتمد النقاش على التحليل النقدي للجدل الفكري القوي الذي تدور رحاه في العالم العربي. ومن ثم فاتخاذ المقاربة الفنية بافتراض أجندة بحثية للعالم العربي دون وضع هذه الأجندة في السياق الاجتماعي والسياسي الأوسع أمر لا طائل منه.
ثانيا، ينبغي إنجاز النقد المعرفي للممارسات التطبيقية والنظرية للعلم الاجتماعي العربي في الماضي والحاضر باعتبار ذلك خطوة نحو فهم مشكلات العلم الاجتماعي والتخطيط لمستقبله.
هذا النقد أولى به أن يدور حول تحليل الخطابات العربية المتصارعة وحول الجدل القائم بشأن متطلبات وظروف نشأة نموذج نظري جديد بعد سقوط النموذج القديم. ولدينا في هذا الصدد ثلاثة أشكال من الخلاف الأساسية: الخلاف بين النظرية الماركسية والنظرية الوظيفية؛ وما بين العرب والغرب، وبين الإسلامي وغير الإسلامي (في حين يوصف غير الإسلامي بالغربي، والأجنبي، والوضعي، أو الغريب).
ثالثا، إن النقد المعرفي وتصنيف وتحليل الخطابات العربية المتصارعة ليست كافية للوصول لرؤية مستقبلية لتطور العالم العربي. والمفهوم البديل وهو مفهوم الإستراتيجية أولى ان يعاد صياغته ليجوز تطبيقه في العالم العربي. والمفهوم له وظيفة محورية ضمن وظائف أخرى لتهيئة الممارسات النظرية والعملية في العلوم العربية والوقوف على الأجندة البحثية، وهذا هو الأهم.
إن تحليل الخطاب عند الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو هو أسلوب لتحليل الأيديولوجية
أولا: الخطابات المتصارعة في العالم العربي
هناك طرق عديدة لقراءة الأيديولوجيات. وقد يرى أحدهم أن تحليل النص، أو تحليل الخطاب الذي يكشف عن أيديولوجيا بعينها، قد تطور كمجال بحثي في العقود الثلاثة الأخيرة. فالبنيوية والسيمولوجيا والماركسية البنيوية مدارس فكرية أساسية أثرت دراسة الأيديولوجيا. وتعتبر أسماء رولان بارت وألتوسير وميشيل فوكو وديريدا وكريستيفا هي الأكثر تمثيلا للدارسين الذين تعتبر أعمالهم مصادر للجديد من المفاهيم والمقاربات والنظريات.
إن تحليل الخطاب عند الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو هو أسلوب لتحليل الأيديولوجية. ويعني الخطاب هنا “أطر منظمة من المعرفة والممارسة في تفصلها المكاني الزماني” وبعض الخطابات تنم عن وجود نظام معرفي بذاته (ومصطلح نظام معرفي يستعمله فوكو ليعني به قيام مجموعة متشابك للغاية من العلاقات).
إن مصطلحي الخطاب ونظام المعرفة ينظران لهما مرارا كتعبيرين اعتباطيين لمصطلحين شديدي العمومية وهما النظام ورؤية العالم، لكن فوكو يؤكد أن هذين المصطلحين يحيلان لمخطط تصنيفي مختلف. والأمر الهام بالنسبة لنا هو تعريف فوكو للخطاب باعتباره عبارة عن تحليل للأفكار والممارسات. فلو كنا، مثلا، ندرس “الخطاب الليبرالي” بالعالم العربي، فإننا نقوم ببحث ليس فقط الأفكار المحورية التي ينم عنها الخطاب طوال فترة من الزمن وما أصاب هذه الأفكار من تغيرات، لكننا نقوم أيضا بدراسة التطبيقات المستفيدة من هذه الأفكار.
هذا مبدأ منهجي رئيس أهمل أحيانا في الجدل الفكري المحتدم في العالم العربي. فالأيديولوجيات يدافع عنها المدافعون ويعمل فيها النقد وكأنها مجرد أفكار فحسب، دون الإحالة للممارسة والخبرة التاريخية المستفيدة من هذه الأفكار. لذلك فتحليل الخطاب الإسلامي حريص على تحليل الأفكار المحورية في الإسلام، بالإحالة لمدونة مخصوصة من النصوص التي قد تتباين بحسب المذهب الديني للمتحدث، لكن قلما تتوفر دراسة منهجية للممارسة الإسلامية في الماضي. وينطبق النقد ذاته على تحليل “الخطاب الليبرالي” أو “الخطاب الاشتراكي”.
ولطالما كان تحليل الخطاب منهجا مستعملا من جهة الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري ليطرح به الدرس النقدي “للفكر العربي المعاصر”، في كتاب يحمل ذات العنوان نشره عام 1982. ويبدو الرجل واعيا من المقدمة بأولوية مشكلة المنهج. إذ يحدد بوضوح خياره: ” لن يقيد نفسه بالظروف التي قيد بها مؤلفون بعينهم تطبيقهم للتقنيات أو المناهج. لذلك لن يستعمل بالضرورة مصطلحي “الخطاب” أو “النظام المعرفي”، كما يردان لدى فوكو. لكنه كرس اهتمامه بتناقضات الخطابات المتعددة وقلما أحالنا للتطبيقات. فقد كان مهتما بقياس التجانس الداخلي دون العناية بالخبرة المعيشة.
وهو يصنف الخطاب العربي لأربعة صنوف أساسية:
1. الخطاب النهضوي، الذي يعالج دوما قضايا تتصل بعلل التخلف وظروف النهضة في العالم العربي ومعالجة مشكلة أساسية وهي الأصالة والحداثة.
2. الخطاب السياسي الذي يعالج مشكلة الدين والدولة وقضية الديمقراطية.
3. الخطاب القومي، الذي يعالج قضايا الوحدة العربية والاشتراكية وتحرير فلسطين.
4. الخطاب الفلسفي الذي يعالج بناء أصول فلسفة الماضي والدفاع عن الفلسفة العربية.
ولن أناقش تفصيليا هذا الكتاب شديد الذكاء، الذي مثل مقدمة لآخر أعمال الجابري “نقد العقل العربي”. ومع ذلك يجوز أن نقدم قليلا من الملاحظات النقدية.
ولأن الجابري قيد نفسه بمفهوم للخطاب شديد الضيق، يبدو في كتابه لا تاريخي (فلم يدرس الظروف التاريخية لنشوء أي خطاب اهتم به) ولم يكن اجتماعيا ( فلم يشغل خاطره بظروف الفشل أو النجاح لأي خطاب قام بدراسته). كما لم يهتم مثلا بدراسة الشعبية الكبيرة “للخطاب الإسلامي” في العالم العربي الآن. فقد أغفلت تحليلاته كلية العلاقة الجدلية بين الفكر والوجود، العلاقة المحورية في علم اجتماع المعرفة. ومن باب الإنصاف أن نذكر رده :”لست عالم اجتماع معرفة، حيث أنني أدرس الخطاب من زاوية نظر معرفية”.
ولو قبلنا بتصنيف الجابري للخطاب العربي، فقد نطرح عددا من القضايا، يمثل بعضها قضايا بحثية:
– في المقام الأول، هل بالإمكان أن ننسب (ومفهوم النسب من عنديات كارل مانهايم) كل خطاب للجماعات الاجتماعية التي تتبناه؟
– كيف تنجز غايات الأصالة الثقافية، والوحدة العربية، والعدالة الاجتماعية، والديموقراطية، وبناء نموذج نظري عربي مستقل؟
– وما وجوه الاتفاق والاختلافات القائمة بين الخطابات المتنافسة بشأن هذه الغايات ؟ وكيف السبيل للوصول لإجماع قومي؟
إن النقد المعرفي وتصنيف وتحليل الخطابات العربية المتصارعة ليست كافية للوصول لرؤية مستقبلية لتطور العالم العربي
ثانيًا: سقوط النموذج النظري القديم وإشكالية نشوء نموذج نظري جديد
كمراقب لمشهد العلم الاجتماعي العربي في الثلاث عقود الأخيرة، يمكنني التأكيد على انهيار النموذج القديم ونحن الآن في لحظة بناء نموذج جديد، وهي لحظة تتسم بسيادة خلاف حاد في الآراء بين علماء العلم الاجتماعي العرب بشأن النموذج القادم. إنها في الآن ذاته عملية ومعركة فكرية ترتبط بالصراع بين الخطابات العربية المتصارعة.
وقبل الشروع في المناقشة، أود تعريف ما الذي أعنيه بمفهوم “النموذج النظري”، وكذلك خصائص النموذج القديم.
إننا نستخدم مصطلح “النموذج النظري” كما يعرفه ت.س كون في كتابه “بنية الثورات العلمية”، فحديثه عن المفهوم يراد به توجيه انتباهنا للعوامل العامة التي يشار لها لتفسير تصرفات العلماء. والسؤال هنا هو ما المشترك بين أعضاء المجتمع العلمي الذي يفسر التواصل والإجماع النسبي الحاصل حول الأحكام المتخصصة؟
إذ يقوم كون عبر فكرة النموذج أن يعزل عناصر متعددة. أولها التعميميات الرمزية المشتركة: أي الكشف عن الفرضيات النظرية المحورية التي هي فرضيات مشتركة وتوظف دون نقاش.
الأنماط: الاتفاق على الأنماط قد يكون اتفاقا غما على أن تشابها بعينه يوفر منهجا ناجعا لإرشاد العمل البحثي، أو أن هناك روابط ينبغي التعامل معها كهويات.
القيم: ويرى كون أن أعضاء المجتمع العلمي سيتفقون على ضرورة أن تكون النظرية بقدر الإمكان دقيقة ومتجانسة وواسعة المدى وبسيطة ومثمرة.
مبادئ ميتافيزيقية: سيتفق المجتمع العلمي على مجموعة من الفرضيات المسلم بها التي تلعب دورا هاما في تحديد مسار البحث.
الأمثلة أو المواقف الإشكالية الفعلية: فما هو في ذهن كون هو الاتفاق بين المجتمع العلمي حول ما يشكل المشكلات في الحقل العلمي وما يقدم حلا لها.
من المعروف أن تصور كون للنماذج النظرية مربك منهجيا، ومع ذلك يمكن للباحثين استعمال المفهوم لأن النماذج النظرية ، أو المقاييس المنضبطة بتعبير كون لاحقا، لها خواص محددة.
والسؤال الهام هو إذا ما قبلنا بمصطلح النموذج النظري بمعناه العام، فكيف نصف النموذج القديم للعلم الاجتماعي العربي؟
ومن وجهة نظري أن النموذج المقصود عبارة عن مركب من التعميمات الرمزية المشتركة، والأنماط، والقيم، والمبادئ الميتافيزيقية، ومواقف إشكالية فعلية. ودون السعي لدراسة منهجية، سألقي الضوء على بعض الأفكار الأساسية المشتركة.
– العلم الاجتماعي ظاهرة غربية. وهذه الفكرة مسلمة أساسية مقبولة بين الفلاسفة والمؤرخين وعلماء اجتماع العلم، فالعلم في أصوله وحداثته الكلاسيكية (القرن السابع عشر) هو علم غربي بالضرورة. هذه المسلمة، التي يؤكد عليها مؤرخ العلم المصري المشهور رشدي راشد الباحث في المركز القومي للبحوث العلمية في باريس، وصاحب التأثير المعتبر، لا تزال تؤسس الأيديولوجيات العلمية المعاصرة,. وينطبق الحال على العلم الاجتماعي. فقد نشأ علم الاجتماع كعلم على يد أوجيست كونت، كما تعلمنا المصادر الغربية. وقلما ذكراسم ابن خلدون. فنادرا ما ذكرت مساهمات علماء من بلدان غير غربية في الكتيبات التي تتبع نشوء العلوم الاجتماعية وتطورها. قلما تذكر بالذات مساهمات العرب، والهنود، والصينيين.
– القبول العام بفكرة حياد العلم الاجتماعي تحت تأثير المدرسة الفرنسية في علم الاجتماع.
– القبول بالاتجاه الإمبيريقي، وأحيانا بصيغته الرديئة، بفضل تأثير علم الاجتماع الأمريكي كمعادل لـ”العلم القويم”.
– الايمان بوجود فارق واضح بين العلم والأيديولوجيا. ولم تقبل فكرة التداخل بين العلم، وخاصة العلم الاجتماعي ، والأيديولوجيا، حتى الستينات، بفعل تأثير بعض الأعمال الأساسية في سوسيولجيا المعرفة.
– تبني علماء السياسة للتحليل الوظيفي دون وعي منهم بواقعه ووظيفته في سياق علم السياسة الأمريكي.
– أدت المقاربة اللاتاريخية في تطبيقات علم الاجتماع لانخراط علماء الاجتماع في دراسات إمبيريقية دون التفات للتاريخ الاجتماعي.
– قاد التوجه السلبي، وإن كان ضمنيا، من الدين إلى استبعاد المشكلات الدينية بتنويعاتها من أجندة البحث (فسوسيولوجيا الدين في العالم العربي متخلفة للغاية).
– القبول بتعريف المشكلات الاجتماعية كما هو وارد في علم الاجتماع الغربي دون نقد.
– التزام الباحث بأيديولوجيا سياسية بعينها لها تأثيرها على موضوعيته.
هذه بعض الملامح المحورية في النموذج القديم في العلم الاجتماعي العربي الذي وقع فريسة النقد أواخر الستينات (وأتحدث هنا بخاصة على حالة مصر).
ثالثا: نحو نموذج نظري جديد
إن نقد النموذج القديم جاء نتيجة التأثر ببعض الكتابات الأساسية التي تناولت النظرية الاجتماعية الغربية. ومنها كتاب زيتلن المعنون بـ ـ”الأيديولوجيا والنظرية الاجتماعية”، الذي نال اهتماما واسعا بين علماء الاجتماع المصريين. فالكتاب يأتي على عكس الكتب التي تناولت تاريخ علم الاجتماع، وطبقت المقاربة التقليدية لتاريخ الأفكار، فيطرح لأول مرة تاريخ علم الاجتماع كصراع بين النماذج النظرية: النموذج المحافظ، الذي يناصره دوركايم وفيبر وباريتو، في مقابل النموذج الراديكالي، الذي يدافع عنه كارل ماركس. ولأول مرة يكشف الكتاب عن القصة الحقيقية لنشوء علم الاجتماع كعلم وظيفته الأساسية هي الدفاع عن الوضع القائم؛ أي عن النظام الرأسمالي.
ومنذ البداية، تتولد عدد من القضايا المعرفية. يأتي على رأسها التشكك في صدق الاعتقاد في حياد العلم الاجتماعي. علاوة على ذلك فالادعاء بحيادية الباحث تجاه المشكلة البحثية قد ثبت أسطوريته. وعلى النقيض جرى الاهتمام بالتزام الباحث، وبأن الإطار النظري لأي بحث، ينبغي أن يكون موقف الباحث ورؤيته واضحة.
كذلك نشأت قضايا عديدة بشأن جدوى المسلمات والمفاهيم والنماذج المستمدة من علم الاجتماع الغربي. فعالم السياسة المصري بهجت قرني في دراسة متميزة له بعنوان “التخلف والنظرية السياسية: دراسة حالة للسياسة الخارجية”، يقتبس من الباحث المغربي عبدالباقي الهرماسي، الذي يرى أن المسلمات والمفاهيم والنماذج “… تمثل استدلالات لخبرات (أوروبية) مستقلة، وأي محاولة ترمى لتعميمها خارج الزمن والمكان الذي ولدت فيه إنما تقوض معقوليتها. هذا ينطبق على ما ورد قديما من نظرية مالتوس للسكان، والنظرية الماركسية حول بؤس الجماهير المفرط، ونظرية كينز بشأن البطالة، كما ينطبق على نماذج العلم الاجتماعي الحديثة التي تتناول العلاقات العسكرية – المدنية، التركيبة السياسية، أنماط النمو، الأسرة النووية، الرابطة الديمقراطية، وهلم جر”.
إن عملية بناء نموذج نظري جديد مرت على الأقل بثلاثة مسارات كبرى: أولها السعي لبناء نموذج ماركسي يحل محل النموذج الوضعي والوظيفي. حيث حاولت مجموعة من علماء الاجتماع المصريين تطبيق الإطار الماركسي في رسائلهم في الماجستير والدكتوراه وغير ذلك من صور البحث العلمي. ومنها محاولة كاتب غير أكاديمي وهو احمد صادق سعد الماركسي المصري حين أرخ لتاريخ نمط الإنتاج في مصر مطبقا النظرية الماركسية حول نمط الإنتاج الآسيوي، ما أثار جدلا محتدما حول صحة الإطار النظري المستخدم في دراسة الواقع المصري.
ثانيا، نشأت حركة لبناء علم اجتماع عربيز وشاهدها بعض الكتابات والمؤتمرات. ويمثلها مقال شديد الأهمية لعالم الاجتماع التونسي عبد القادر زاجال حول “مدارس الفكر الغربي والبنى الاجتماعية في الشرق الأوسط”. وفيه يحاول استخدام حجة أساسية لدى برايان تيرنر في كتابه الهام “ماركس ونهاية الإستشراق”، في نقد تطبيق كل من المقاربة الماركسية والفيبرية في دراسات الشرق الأوسط. وينهي مقاله بالإشارة لابن خلدون داعيا لجهد عربي لبناء نموذج نظري عربي أدق لدراسة المجتمع العربي.
وعلى الطرف الآخر، أقام المركز الإقليمي العربي للبحوث والتوثيق في العلوم الاجتماعية مؤتمرًا شديدة الأهمية في أبي ظبي في أبريل 1983. والموضوع الرئيسي للندوة واضح: نحو علم اجتماعي عربي. وكان من بين الأوراق البحثية المقدمة في المؤتمر ما قدمته الدكتورة ناهد صالح مدير المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية من ورقة شديدة الأهمية. وفي ورقتها “نحو علم اجتماع عربي: دراسة في سوسيولوجيا المنهجية”، تقدم الباحثة بألمعية نموذجا لبناء هذا العلم.
ومن الملفت أن أحمد خليفة، الذي عمل مديرا للمركز القومي في مصر لأكثر من عشرين عاما، قد صرح في ملاحظاته التمهيدية أن علينا أن نسال أنفسنا بعد مرور 25 عاما من الخبرات في تطبيق البحث الاجتماعي في العالم العربي: هل مضينا في المسار الصحيح، أم ترانا اعتمدنا على النظريات الغربية والمنهجيات المستوردة، التي لم تساعدنا في فهم المشكلات الاجتماعية فهما عميقا؟
لكن ما الذي يعنيه علم اجتماعي عربي؟ لقد قالت الدكتورة ناهد صالح، ملخصة النقاش الذي دار بالمؤتمر، بأنه علم عربي بتوجهاته الفكرية النابعة من تاريخنا الاجتماعي الخاص، بموضوعه الذي هو المجتمع العربي كموضوع رئيس، بمعالجته للقضايا المركزية في المجتمع العربي، لا الموضوعات الهامشية، وبتوجهه نحو خدمة مصالح الأفراد العاديين وليس طبقات اجتماعية، أو مؤسسات، أو مصالح محدودة بعينها.
والمسار الثالث لصياغة نموذج جديد هو طرح النموذج الإسلامي ليحل محل النموذج الغربي، أو الأجنبي أو الغريب.
ولدينا هنا إسهامات عديدة تأتي من مصادر مختلفة. على رأسها كافة المساهمات التي قدمها الدارسون الشيعة البارزون، من أمثال على شريعتي، وبني صدر، وتلقاني، وبكير الصدر. وهناك كتابات هامة على الطرف الآخر من الجانب السني من أمثال سيد قطب وعبد القادر عودة والمودودي.
إن مهمة الباحث هي تحليل الخطابات المتصارعة والسعي لنقد معرفي للنموذج القديم أو النماذج النظرية السائدة. والأهم من ذلك هو العمل على وضع إستراتيجية للعلوم الاجتماعية في العالم العربي
وأخيرا نختار اختيارا ملفتا لكتابات إسلامية شديدة التعقيد لبعض العلماء الباكستان الذين هم على وعي كامل بمفاهيم النظرية الغربية ونماذجها. من قبيل ساردار في كتابه الهام “مستقبل الحضارة الإسلامية” الذي يطبق فيه تحليل الأنظمة في تحليله للحضارة الإسلامية. وكذلك يطبق كليم الصادقي رؤية كون للنموذج النظري في دراسته للإسلام المعاصر من أجل المقارنة بين النموذج الإسلامي والغربي.
هذه المسارات الثلاثة تتنافس داخل عملية بناء نموذج عربي جديد وهذا التنافس مرتبط عضويا بالصراع بين الخطابات العربية.
رابعا: نحو بناء لإستراتيجية للعلم الاجتماعي العربي
وكما قلنا في البداية، فإن أي نقاش للوضع الراهن للعلم الاجتماعي العربي، أو التنبؤ بالتطور المستقبلي، ليس ذي جدوى إن لم يرتكن لتحليل نقدي للجدل المحتدم الدائر في العالم العربي. بلغة أخرى، يتبين لنا أن الصراع على المسار المحوري للمجتمع العربي سيؤثر على النظرية والممارسة في العلم الاجتماعي، إذ فهم على النحو الذي ينبغي أن يفهم عليه- كعلم غير مستقل عن المجتمع.
إن مهمة الباحث في العلم الاجتماعي العربي هي تحليل الخطابات المتصارعة والسعي لنقد معرفي للنموذج القديم أو النماذج النظرية السائدة. والأهم من ذلك، إن نظرنا للمستقبل، هو العمل على وضع إستراتيجية للعلوم الاجتماعية في العالم العربي.
وفي هذا السياق، علينا أولا مراجعة التصور الغربي للإستراتيجية لمد مدى المفهوم ليغطي مجالات لم يسبق له تغطيتها. إذ تقليديا كانت قضايا الأمن القومي والدفاع هي موضوع الاهتمام الرئيسي للدراسات الإستراتيجية. لكن هل هذه اهتمامات الدول في العالم الثالث؟
ويطرح الباحث البنجلادتشي أبدور روب خان في مقال ممتاز له هذا السؤال المحوري ويحدد كتالوج عام للمشكلات التي تواجه دول العالم الثالث. وهي على النحو التالي:
– مهددات الأمن.
– نقص التكامل القومي.
– غياب الإجماع القومي
– انخفاض مستويات النمو السياسي
– غياب مشروعية أجهزة الدولة.
– الصراعات غير المحلولة والتراث الاستعماري
– الفقر، وانخفاض مستوى التنمية، وندرة الموارد.
وفي ضوء مشكلات وقضايا العالم الثالث كما هي مبينة بعاليه، فإن محتوى التنظير الاستراتيجي في العالم الثالث لهو مختلف عن نظيره الغربي المتطور.
يوجد قضايا عديدة وردت بالكتالوج في العالم العربي. ولعل توسعة مفهوم الإستراتيجية قد يساعد في إضافة مشكلات أخرى على أجندة البحث.
وأخيرا، ما دور الباحث في العلم الاجتماعي العربي في المستقبل، في ضوء الصراعات القائمة في الخطابات العربية، وفي عملية صياغة النموذج النظري الجديد؟
ونتفق هنا أيضا مع خان حول الدور الحاسم لبناء إجماع قومي. بإمكان العلوم الاجتماعية أن تتبنى مقاربة ذات مسارين في هذا الصدد.
أولها إنشاء منتدى للآراء المختلفة وجماعات المصالح المتباينة، من مخططي السياسة، والبيروقراطية المدنية والعسكرية، وقادة السياسة والأكاديميين. ويمكن فيها أن توجد سلسلة متواصلة من الحوارات، وأن تحلل نتائجها بدقة.
ثانيا، التحليل العميق للمشكلات القومية ومقترحات السياسة يمكن أن تعرض على صناع السياسة لاتخاذ القرارات الضرورية. ومن ثم يتولد سؤال الأمن القومي أمام كل من التهديدات الداخلية والخارجية.
وعندما نضع هذه المقترحات أمامنا، من المجدي ذكر أن هناك حركة دائمة تجاه انجاز أهداف هذه الإستراتيجية تجري خطاها في بعض البلدان العربية. ففي المغرب هناك نادي الحوار، الذي أقام مؤتمرات عديدة حول قضايا حيوية، مثل مشكلات الديمقراطية في العالم العربي، ومشكلة بناء مشروع ثقافي عربي.
وفي مصر يوجد منتدى الفكر الديمقراطي المنشأ لمناقشة العناصر الأساسية لمشروع ثقافي وطني، التي تشمل، كما هو وارد في برنامجه، على الأصالة الثقافية، والديمقراطية، والاستقلال الوطني، والعدالة الاجتماعية، والتنمية المستقلة، والنضال الشعبي ضد العنف الصهيوني في المنطقة.
وفي الأردن، يوجد أيضا منتدى الحوار الذي يضم أعضاء من رجال الأعمال والمثقفين.
علاوة على ذلك كله، فإن الهدف الرئيسي للمثقفين العرب هو ممارسة النقد المزدوج للأبعاد السلبية في تراثنا الثقافي ، وفي كافة الأيديولوجيات الغربية ذات الهيمنة.
وأخيرا أمام التهديد الفعلي لإسرائيل، فإن مسئوليتنا الكبرى هي إعداد أمتنا للدفاع عن نفسها وأن نكون جاهزين للمواجهة في هذا الصراع المخطط.
السيد يسين
قام بترجمة المقال د. محمود عبد الله.
المركز العربي للابحاث والدراسات