منذ الثورة الإيرانية عام 1979، ارتبطت الثيولوجيا بشكلٍ وثيق بالسياسة الحديثة في الشرق الأوسط. فمبدأ “ولاية الفقيه”، الذي يدعو إلى حكم ثيوقراطي مرتكز على الشريعة، مهدّ الطريق أمام آية الله روح الله الخميني لتبؤ السلطة في إيران، في شباط/فبراير من ذلك العام. وطوال ثمانينيات القرن الماضي التي شهدت الحرب بين الاتّحاد السوفيتي وأفغانستان، نظرت جماعات إسلامية مختلفة إلى الاتّحاد السوفيتي على أنّه قامع للمسلمين في أفغانستان، واستخدمت هذه السردية لحشد مختلف الإسلاميين وحثّهم على الجهاد بالنيابة عن أخوانهم الأفغان. وخلال “حرب الخليج” عام 1991، اعترض الإسلاميون في المملكة العربية السعودية على وجود قوات أمريكية على الأراضي السعودية وثاروا غضباً على استقبال العائلة المالكة السعودية لهذه القوات ودخولها في شراكة مع قوى غير مسلمة، وتخلّفها بالتالي عن التزامها بالمحافظة على الإسلام. وفي الوقت نفسه وطوال العقدين الماضيين، كان فكر ثيولوجي متنافس آخر، هو الفكر السلفي، الدافع وراء تنظيمي «القاعدة» و «الدولة الإسلامية» (المعروف أيضاً بـ «داعش») في سعيهما للجهاد العالمي.
ومع ذلك، شكّلت الأفكار الثيولوجية عنصراً عارضاً للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. ففي كلّ واحد من هذه المنعطفات التاريخية، أخفقت الولايات المتحدة في الاعتراف بخلفياتها الدينية المحتملة. فبعد ثمانية أشهر من الثورة الإيرانية عام 1979، عملت السفارة الأمريكية في طهران على طمأنة واشنطن بأنّ التحول السياسي لم يضمّ سوى “جماعات معتدلة تعّبر عن صوتها بقوة وتفضل مجتمعاً أكثر توازناً مشابها للديمقراطية الاجتماعية في الغرب”. كما احتفت واشنطن بمشاركة الإسلاميين العرب في أفغانستان معتبرةً أنهم يشكلون جبهة إضافية ضدّ الشيوعية. وبقيامها بذلك، غابت عن واشنطن دلائل أشارت على ولادة بذور ما سيصبح فيما بعد “تنظيم «القاعدة»” خلال تلك المعركة ذاتها. وكما أشار الباحث “ستيفن تشان”، اعتبرت الحكومة الأمريكية مشاركتها في “حرب الخليج الأولى” إحدى أولى اختبارات انتصار الديمقراطية على الشيوعية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. وفي هذا الصدد، وصف الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب نجاح الحرب “انتصاراً لليبرالية”. وباختصار، فإن المكاسب السياسية قصيرة الأمد، على غرار إمكانية إقامة ديمقراطية في إيران وتراجع نفوذ الاتحاد السوفيتي في أفغانستان وتحرير الكويت، عتّمت على التحركات الدينية في ذلك الوقت والتي اعتُبرت على أنها غير ذات صلة بالسياسة الخارجية.
وردّت الولايات المتّحدة على هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر عبر وضع مكافحة الإرهاب على قائمة أولويات الأمن القومي. وتضمّن ذلك عملياً إنشاء مؤسسة إنفاذ قانون عالميّة متطورة بدلاً من إعادة تقييم دور الأفكار الدينية في دفع الحركات التي هي على مستوٍ ما دون الدولة. وشرح الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن استراتيجيته في خطاب ألقاه في “الأكاديمية العسكرية الأمريكية” في “ويست بوينت” في حزيران/يونيو 2002 – والذي شكّل الحجر الأساس لـ “عقيدة بوش” – قائلاً: “علينا كشف الشبكات الإرهابية في أكثر من 60 بلداً باستخدام جميع الأدوات المالية والاستخبراتية وتلك المتعلقة بإنفاذ القانون”. وفي الخطاب نفسه، أطلق على الحرب على الإرهاب التسمية التي أصبحت تعرف بها وهي “صراع بين الخير والشرّ”. وعلى الرغم من أن مصطلح “الشرّ” يصف بالتأكيد القوة الدافعة لهجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، إلا أنه لا يذهب أبعد من ذلك بما يكفي لشرح كيف كيّفت الشبكات الإرهابية أطر أعمالها الثيولوجية رداً على السياسة الخارجية للولايات المتحدة. فبعد فترة وجيزة مثلاً من دخول الولايات المتحدة العراق في عام 2003، نشر واضع استراتيجيّات تنظيم «القاعدة» أبو مصعب السوري كتاباً مؤلّفاً من 1600 صفحة بعنوان “دعوة المقاومة الإسلامية العالمية”، فصّل فيه رؤيته حول طريقة العمل التي يجب أن تمضي بها حركة الجهاد العالمي. وأضاف السوري ملحقاً يضمّ حوالى 100 صفحة من الأحاديث النبوية التي تصف حلول نهاية العالم، وهي التي ساعدت تنظيم «الدولة الإسلامية» في ما بعد على صياغة سرديته. وبقي هذا الإغفال نقطة بارزة مجهولة في حرب عام 2003 في العراق. فخلال ذلك الوقت، بدأ تنظيم «القاعدة في العراق»، والذي سمّى نفسه لاحقاً بـ تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق وسوريا» يضع استراتيجية لتنفيذ رؤيته حول نهاية العالم. أما تفكير الإدارة الأمريكية خلال حربها في العراق، والذي تضمّن تدريب شركائها في الشرق الأوسط على مراقبة النشاط الإرهابي داخل حدودها، ويمكن القول بأنه لبّى حاجات الولايات المتحدة الأمنية المباشرة، فقد فشل أيضاً في ملاحظة هذه الأخطار الناشئة عن الجهات الفاعلة غير الحكومية. وفي هذه الحالة، فإن قرار التركيز على الإرهاب حصراً باعتباره أولوية أمنية ثنائية القطب بدلاً من كونه مشكلة إقليمية تمسّ بالسياسة الخارجية، كان يعني أنّ واشنطن لربما غفلت عن التحولّات البارزة والمميتة التي كانت تحدث خارج الأطر السياسية الرسمية.
سوء فهم الأفكار الدينية
يختلف الخطر الإرهابي الأخير، أي تنظيم «داعش»، عن الآخرين في سعيه نحو تأسيس خلافة عالمية. لذلك، سارع المحلّلون لتحديد تنظيم «الدولة الإسلامية» على أنه دولة في اللحظة التي بدأ يُظهر فيها سلوكيات مشابهة للدولة على غرار التوسّع الجغرافي وفرض الضرائب وإدارة الموارد والأموال. وبالفعل، لـ تنظيم «داعش» حكم فعلي، وادّعاءاته بأنه دولة وخلافة هي جزء من حملته الدعائية. إلّا أن قدرته على جذب المجندين المحتملين يتركز أساساً في سرديته المتميزة حول نهاية العالم ووعوده بمذهب فلسفي سلفي أصولي. لذلك، فإن التعاطي مع تنظيم «الدولة الإسلامية» على أنه دولة عدائية لن ينجح. إذ تستجيب الدول الفاسدة، على سبيل المثال، للضغوط الجغرافيّة السياسية والنفوذ الدبلوماسي بمختلف أنواعه. ولكن، في حالة تنظيم «داعش»، على واشنطن أن تتذكر أنّ الأفكار الدينية، أولاً وقبل كل شيء، هي التي تحرّك تنظيم «الدولة الإسلامية» وليس أولويات تختص بالدولة، مما يجعل التنظيم أكثر مرونة من الدولة التقليدية. وسيجد تنظيم «داعش» طرقاً للتكيّف والتطوّر رداً على الهجمات الأمريكية على نحو لا تستطيع الدول التقليدية القيام به.
ومن المهم أيضاً أن نتذكر أن تأسيس تنظيم «داعش» لدولة هو مجرّد طموح وليس حقيقةً. ففي سوريا، أعربت «جبهة النصرة» وحركة «أحرار الشام» بصراحة أيضاً عن نيّتهما تأسيس دولة سلفية، ووضعتا أنظمة قضائية وأشكال أخرى يمكن إقرانها بالحوكمة، إلا أن الغرب لا يعتبرهما دولاً. ومن خلال أخذ إدعاءات تنظيم «الدولة الإسلامية» بمعناها الظاهري، يجازف الغرب بالتأكيد على مشروع التنظيم. وعوضاً عن ذلك، على الغرب أن يحاول عرقلة تقدّم تنظيم «داعش» نحو إقامة دولة من خلال الضغوط الملموسة على مشروعه الجغرافيّ (عبر قطع قدرته على الحصول على الموارد والنقود، ووقف جهود توسّعه وتجنيده)، بالإضافة إلى جمع جهات فاعلة محلّية وإقليمية مختلفة – ليس لمحاربة تنظيم «داعش» فحسب، كما نسمع غالباً، بل أيضاً للمساعدة على إعادة بناء بلدانها. وعبر قيامها بذلك، لن توقف الولايات المتحدة فقط التقدّم الجغرافي لـ تنظيم «الدولة الإسلامية»، بل ستفضح زيف سرديته الدينية التي يروّج لها ومفادها: أنّ الأزمات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط هي جزء من حرب طائفية تنذر بنهاية العالم، ويشكّل فيها المذهب الفلسفي السني لـ تنظيم «داعش» العقار المضاد.
ويرتبط سوء فهم ديني آخر أيضاً بمصداقية تنظيم «الدولة الإسلامية» على الصعيد الإسلامي. فمنذ نشر المقال المؤثّر في مجلة “أتلانتيك” بعنوان “ما الذي يريده تنظيم «داعش»” قبل عام على وجه التحديد، والذي يوثّق كيف تتصرف عناصر التنظيم حيال معتقدات محددة، ناقشت الأوساط الأكاديمية والسياسية مكانة التنظيم على الصعيد الإسلامي. إذ يحاجج البعض بأن تنظيم «الدولة الإسلامية» لا يمثّل الإسلام، بينما يقول البعض الآخر إنه يمثلهم، أو على الأقل يستمدّ أفكاره من النصوص والمفاهيم الإسلامية. وحتّى أنّ إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما دخلت في هذا النقاش عبر وصف وزير الخارجية الأمريكية جون كيري عناصر التنظيم بـ “المرتدين”. ومن المهم أن نفهم كيف يستخدم التنظيم النصوص الإسلامية لصياغة رسالته الملفقة. (ففي الواقع، من وجهة نظر السياسة الخارجية، من المفيد جداً فهم النصوص الدينية التي يعتمد عليها تنظيم «داعش»، حيث بإمكان ذلك أن يوجّه صنّاع السياسات نحو فهم الطموحات الإقليمية للتنظيم). لكنّه ليس من المفيد الغرق في نقاش دقيق بشأن ما إذا كان يجب وصف التنظيم بأنّه إسلامي أم لا.
كما أنّ ثمة إصرار على استخدام مصطلح “أيديولوجيا” لشرح ماهية تنظيم «الدولة الإسلامية» أو أي جماعة إرهابية أخرى، علماً أنّ هذا المصطلح مستمرٌ من أيام الحرب الباردة وهو ليس مشابهاً لمصطلح “الثيولوجيا” أي اللاهوت. إذ عادةً ما يُستعمل مصطلح “أيديولوجيا” للإشارة إلى مجموعة من الأفكار الكامنة وراء هياكل أو جماعات سياسية أو اقتصادية. أما “الثيولوجيا”، فتتحلى بجانب روحي واضح وباستطاعتها أن تمارس نفوذ خارج الأطر السياسية والاقتصادية. بالإضافة إلى ذلك، إنّ عدم تقدير قيمة المزاعم الروحية البحتة التي تروّج لها جماعات ذات توجهات دينية أمثال تنظيم «داعش» يخاطر بالتقليل من شأن القبضة الدينية التي يبسطها تنظيم «الدولة الإسلامية» على مجنديه، والتي هي أقوى بكثير من السيطرة الواهية التي مارستها الأيديولوجية الشيوعية على مواطني الاتحاد السوفيتي مثلاً. ومع ذلك، يستخدم صنّاع القرارات مصطلح “أيديولوجيا” بشكل عشوائي بغض النظر عن مدى منهجية أفكار تلك الجماعات أو تنظيمها السياسي. إذ قال كيري عن التنظيم في عام 2014: “نحن نحارب أيديولوجيا وليس نظام حكم”. وبعد عام على قوله هذا، وفي أعقاب إطلاق النار الذي جرى في سان برناردينو في الولايات المتحدة، لم يُشِر أوباما أيضاً إلى الفكر الثيولوجي الفريد الذي يُنذر بنهاية العالم والكامن وراء الهجمات التي تتم على يد جانٍ وحيد بالنيابة عن تنظيم «داعش»، بل أثار موضوع القوانين المتساهلة لحمل الأسلحة. كما شرح أنّ “وكالات الاستخبارات وإنفاذ القانون لدينا لا يمكنها، بغض النظر عن مدى فاعليتها، أن ترصد كل فرد قد يقوم بإطلاق النار بصورة جماعية، سواء كان هذا الفرد مستقياً من أيديولوجيا تنظيم «الدولة الإسلامية» أو أي أيديولوجيا أخرى مفعمة بالكراهية”. غير أنّ هناك اختلافات دقيقة بين أفكار هذه الجماعات (من حيث فكرها الثيولوجي والنصوص التي تقتبسها وروابطها الشخصية وسرديتها)، وبالتالي فإنّ جمع كافة الجماعات الجهادية في فئة واحدة والنظر إلى الهجمات على أنّها حالات عنف مسلح، يقودنا إلى سياسات غير فعالة حول كيفية وقف هذه الهجمات.
قوة التصوّر
أمام هذا الواقع، لا يكمن الحل في “تكلّم لغة تنظيم «داعش»”، حيث تفتقر واشنطن للمصداقية والمؤسسات اللازمة لتحدي مثل هذه الرؤية الكونية الثيولوجية المحافظة. كما يسود شعور غريب بالاستقطاب عندما يقوم مسؤولو الحكومة الأمريكية باستخدام مصطلحات عربية بدلاً من إنجليزية، كما فعلت الإدارة الأمريكية مؤخراً في اعتمادها الكلمة المختصرة العربية تنظيم «داعش» للإشارة إلى “«الدولة الإسلامية في العراق والشام»” واستخدام مصطلحات دينية كما فعل كيري مؤخراً في وصفه عناصر تنظيم «الدولة الإسلامية» بـ “المرتدين”.
ولردع تنظيم «الدولة الإسلامية» عن بناء دولة، على الغرب التمسك بتحطيم القبضة التي يبسطها التنظيم على مساحات من الأراضي في العراق والشام، أي المناطق الجغرافية التي تشكّل محور سردية الجماعة التي تُنذر بنهاية العالم. ولإبطال القضية الدينية التي ينادي بها التنظيم، على الغرب التفاعل مع مجموعة واسعة من الأطراف من مختلف الأطياف العرقية والدينية، وذلك ليس لمساعدة هذه الأطراف على محاربة تنظيم «داعش» فحسب، بل لاستعادة أراضيها وبنائها أيضاً. فـ تنظيم «الدولة الإسلامية» هو الذي يقوم حالياً بتعبيد الطرق وتوفير اللقاحات للأطفال، أو ذلك ما تزعمه الجماعة في حملتها الدعائية.
كما يمكن لمجموعة الأدوات التي تستخدمها واشنطن لبسط الدبلوماسية والتي تشمل عناصر تقليدية مثل القوة الناعمة والقوة الصلبة، أن تستفيد أيضاً من إضافة “قوة التصور” حيث تنظر المجتمعات المحلية إلى الإجراءات الأمريكية وتعيد تفسيرها (أكانت تتم هذه الإجراءات باستخدام القوة الناعمة أو الصلبة)، لا سيما من خلال السرد الديني. ويستوجب ذلك احتساب تكاليف ومنافع الإجراءات الأمريكية – ليس بالنظر إلى المكاسب قصيرة الأجل وثنائية القطب فحسب، بل أيضاً بالآثار المحتملة الطويلة الأجل التي تسببها الإجراءات الأمريكية ضد الجماعات التي تعتمد وجهات نظر تنبؤية بدلاً من التأثّر بالضغوط السياسية. وعلى الرغم أنه من الممكن جداً للقوة الصلبة لوقف تنظيم «داعش» أن تقصّر طريق مشروع التنظيم بإقامة دولته، إلا أنه لديها الإمكانات أيضاً على زيادة أتباع التنظيم بصورة أكثرجرأةً. وبالمثل، فعلى الرغم من أنّه بإمكان القوة الناعمة التي تنطوي على اندماج اجتماعي واقتصادي محلي أكبر، أن تخفف من عزلة المقاتلين الأجانب المحتملين، إلا أنها لا تضاهي في النهاية التأثير الديني الذي يُحدثه سرد تنظيم «الدولة الإسلامية». ومن الضروري أن يتصدى صنّاع السياسات الأمريكيون للتحدي الجديد البارز المتمثل في الطريقة التي تطورت فيها الجماعات غير الحكومية ذات التوجه الديني في الشرق الأوسط الجديد ونشرت معتقداتها في جميع أنحاء [الدول] الغربية.
يعقوب أوليدروت
معهد واشنطن