مع تسليمنا الكامل بمفهوم الوحدة السكانية للعرب والتماثل الحقيقي بين شعوب الأمة، إلا أن ذلك لا يحول دون حقيقة أخرى تؤكد الخصوصية القُطرية لكل دولة في إطار إقليمها الجغرافي. لذلك فإننا نكتب اليوم عن العروبة في مصر والمراحل التي مرَّت بها والتحولات التي طرأت عليها وتأثير الأحداث المحلية والإقليمية فيها. ولأن لهذا الموضوع حساسية إذ يصدر من كاتب مصري، إلا أن تاريخه يدعم مسيرته القومية على امتداد نصف قرن أو ما يزيد. ولكي أكون واضحاً وموضوعياً، فإنني أطرح القضية في النقاط التالية:
أولاً: يدرك العرب في مختلف أقطارهم أن الفكر القومي خرج من بلاد الشام حيث مولده ونشأته، إذ إن من حملوا لواء القومية العربية هم روادها من سورية ولبنان، أي من الشام الكبير سواء كانوا في بلدهم أو في المهجر. والكتابات الأولى للحركة القومية تبدأ من السوريين بالمعنى الشامل للكلمة والذي يضم منطقة المشرق العربي. ولعل ذلك يفسر انطلاقة المد القومي من سورية حيث الدولة الإسلامية الأولى التي حملت العروبة معها وصهرتها في تكوينها الحديث. لذلك، فإن العروبة شامية الهوية، ولم تكن في يوم من الأيام نتيجة إفراز مصري، حيث سبق الإسلام مفهوم العروبة خلافاً لأرض الشام التي انطلقت منها العروبة لتحمل الإسلام. ولهذا السبب، فإنك إذا سألت سورياً عن هويته، فإنه يجيب بتلقائية أنه عربي من سورية. أما المصري، فإنه يجيب عن السؤال ذاته بعفوية معتادة قائلاً إنه مسلم من مصر!
ثانياً: لقد عرفت مصر لعقود عدة العروبة الثقافية ولم تعرف البعد السياسي لها إلا بقيام ثورة تموز (يوليو) 1952 حيث تبلورت شخصية مصر العربية وأخذت أبعادها التي عرفناها في النصف الثاني من القرن الماضي. ولقد كتب مؤرخ الجغرافيا العظيم جمال حمدان مقولته الشهيرة تحت مسمى «العروبة الطارئة» في معرض توصيفه للهوية المصرية وبحثه في عبقريتي الزمان والمكان للدولة المصرية. ولا ينتقص ذلك بالطبع من عروبة مصر التي ظلت قبطية قرابة قرنين من الزمان بعد الفتح الإسلامي، ثم تحول معظم سكانها إلى الإسلام مع بدايات العصر الفاطمي، بما لحق به من ضغوط واضطرابات. ويوم أن قرعت أجراس الكنائس المصرية دعوة إلى الصلاة باللغة العربية، كان ذلك إيذاناً بتعريب مصر واكتمال عروبتها، وإن ظل أبناء الكنانة يتوهمون دائماً أنهم عنصر مختلف متصورين أنها رداءٌ يرتدونه حين يريدون ويخلعونه حين يشاءون.
ثالثاً: لقد لعبت ثورة 1919 وزعامة سعد زعول باشا دوراً فاعلاً في تأكيد الشخصية المصرية عندما رفع الثوار شعار «مصر للمصريين» وترددت على الألسن كلمة «الأمة المصرية»، وبالمناسبة فإنني سمعت العماد إميل لحود، رئيس الجمهورية اللبنانية الأسبق، يردد في خطابه الرسمي يوم تنصيبه رئيساً لبلاده تعبير «الأمة اللبنانية»، وهو ما يعني أن المشاعر القطرية لا زالت مستقرة في أعماق بعض الشعوب العربية. وليس ذلك غريباً، فهو أمر معتاد داخل كثير من القوميات، فالمهم هو قبول المظلة التي تغطي شعوب القومية الواحدة اعتماداً على عدد من المقومات والعوامل يقع في مقدمها العامل الثقافي قبل سواه. ويجب هنا تأكيد أن العصر المملوكي في مصر كان دائماً يركز على الهوية المصرية قبل الانتماء العربي، إلى أن ظهرت النزعة الاستقلالية التي عرفتها مصر منذ المواجهة التاريخية بين محمد علي باشا والي مصر ومؤسس الدولة الحديثة وبين السلطنة العثمانية في الآستانة.
رابعاً: يجب أن يتذكر الجميع أن العرش المصري كان يتطلع إلى الخلافة الإسلامية منافساً للشريف حسين الهاشمي من ناحية، والملك عبد العزيز آل سعود من ناحية أخرى، فكانت طموحات الدولة المصرية طموحات إسلامية وليست عروبية. بل لقد جرت محاولة لتنصيب الملك فاروق على العرش في احتفال ديني في مسجد جده محمد علي في قلعة صلاح الدين بدلاً من إتمام إجراءات ولايته في البرلمان المصري وفقاً للتقاليد المدنية المعاصرة، ولكن مصطفى النحاس باشا ووراءه حزب الغالبية (الوفد) رفض مثل هذا النهج الديني وصمم على الأخذ بالتقاليد الديموقراطية وفقاً للدساتير الحديثة. إن ذلك يعني أن طموحات الأسرة العلوية وتطلعات الشعب المصري كانت إسلامية بالدرجة الأولى ولم تكن مرتبطة بعالمها العربي كما نظن. فضلاً عن أن الحركة الوطنية المصرية كانت إسلامية قبل أن تكون عروبية، لأن المصريين كانوا يواجهون احتلالاً غربياً مسيحياً، بينما كان أبناء بلاد الشام يواجهون قهر الأتراك المسلمين، فاعتصموا بعروبتهم قبل إسلامهم.
خامساً: لقد سيطرت على العقل المصري – قبل ثورة يوليو عام 1952 – غاية أساسية تمثلت في وحدة وادي النيل والعلاقة الأزلية بين مصر والسودان، وكانت لذلك المفهوم أولوية على غيره من أبعاد الهوية المصرية. ويكفي أن نتذكر أن الثورة المصرية قامت لإطاحة ملك مصر والسودان، وقد أدى الصراع بين اللواء محمد نجيب والبكباشي جمال عبد الناصر إلى مخاوف مستقبلية لدى السودانيين، وتحول إسماعيل الأزهري من وحدوي النزعة إلى داعية للاستقلال الذي تحقق في الخرطوم في أول كانون الثاني (يناير) عام 1956. وعندئذ بدأ عبد الناصر ينظر شرقاً وليس جنوباً، فكانت الوحدة المصرية السورية تجسيداً حياً للطرح القومي الذي تبناه عبد الناصر وتحولت به القاهرة لكي تكون مركزاً عروبياً يعلو على أبعاد الهوية الأخرى كافة، لأن العامل الثقافي الذي يعتمد على وحدة اللغة يكون كافياً لإحداث الترابط المطلوب والسعي نحو الوحدة المنشودة.
سادساً: قد يتساءل بعضهم إذا لم تكن مصر عروبية سياسياً قبل عام 1952، فما هو تفسير قيام جامعة الدول العربية وفقاً لبروتوكول الإسكندرية والخطاب الشهير للنحاس باشا؟ وكأنه اعتراف من الحزب المتمسك بالوحدة الوطنية المصرية وداعية الليبرالية والذي يتمتع بمسحة علمانية غير دينية، بعروبة مصر ودورها كدولة مركزية محورية تستحق أن تكون عاصمتها مقراً لجامعة الدول العربية. وقد تحقق ذلك بتوافق مصري – سعودي، كما لم تكن بريطانيا بعيدة من فكرة إنشاء الجامعة بعد أن فرغ الحلفاء من الحرب العالمية الثانية وبدأوا يتطلعون إلى منطقة الشرق الأدنى وأهمية التماسك العربي الحليف للقوى الغربية حينذاك.
سابعاً: عندما قامت ثورة يوليو عام 1952 طار محمد نجيب، قائد الثورة ومعه عدد من الضباط الأحرار للقاء العاهل السعودي الملك عبد العزيز والذي رحل عن عالمنا في تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1953، إذ إن هناك تقليداً مصرياً هو أن يبدأ حاكمها الجديد بزيارة للأراضي المقدسة تبركاً ودعاءً بالتوفيق، وقد استقبلهم الملك عبد العزيز وتمكن بفراسته من أن يقول: إن قائد الثورة الحقيقي ليس هو نجيب ولكن يبدو أن هناك شخصاً آخر هو مركز الثقل في الثورة المصرية، وكأنه كان يقرأ في كتاب مفتوح ويرى جمال عبد الناصر من بُعد. ولقد توثقت العلاقات بين الرياض والقاهرة في السنوات الأولى للثورة. وكان الأمير فيصل بن عبد العزيز قريباً من جمال عبد الناصر حتى أن بعض أشقائه تطوعوا للمشاركة في حرب 1956 أثناء العدوان الثلاثي على مصر. وبذلك تجسد دور مصر العربي، إلى أن وقع الخلاف بين مصر والسعودية حول اليمن من جانب، وقامت الدعوة إلى الاشتراكية التي تبناها عبد الناصر مع علاقات قوية بالاتحاد السوفياتي السابق، في جانب آخر.
ثامناً: لقد انخرط جمال عبد الناصر بكل مشاعره وطموحاته وغاياته في أتون الحركة القومية العربية وأصبح النداء المتكرر من إذاعة «صوت العرب» هو: «أمجاد يا عرب أمجاد»، و»من الخليج الثائر إلى المحيط الهادر لبيك ناصر»، وكانت تجربة «الوحدة الوطنية السورية» متواكبة مع طموحات الرئيس المصري وأحلامه لأمته العربية حتى أصبح الدور القومي لعبد الناصر يبدو تكراراً للدور التوسعي لمحمد علي حتى استنزفت حرب اليمن جزءاً كبيراً من إمكانات جيشه وأرهقت الاقتصاد المصري بحيث وقفنا على أعتاب نكسة عام 1967 والخلافات العربية – العربية، في أوج توترها، وإذا كان القدماء قد قالوا: «رُبَّ ضارة نافعة»، فإن النكسة دفعت عبد الناصر إلى القمة العربية في الخرطوم حتى استعاد ثقته في نفسه بعد ما رأى الشعب السوداني يدفع به إلى الأمام مدعوماً من العاهل السعودي الملك فيصل بن عبد العزيز الذي وقف بقوة وراء توفير الدعم المادي من دول الخليج للجيش المصري استعداداً لمعركةمقبلة.
تاسعاً: لا شك في أن الاضطرابات في سورية ولبنان بل وفي المشرق العربي عموماً دفعت القاهرة إلى تبني سياسات لا تخلو من تهمة التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية الأخرى. بل إن طعنة الانفصال عام 1961 كانت هي الضربة القاصمة التي أثرت في عبد الناصر صحياً وسياسياً، حتى جاءته ثورة اليمن تعويضاً جزئياً عن تراجع حماسته بعد سقوط دولة الوحدة. كما كان حصول الجزائر على استقلالها بعد كفاح مرير ضد الاحتلال الفرنسي وسياسة التذويب الثقافي التي اعتمدتها باريس لضم الأراضي الجزائرية، دعماً آخر لعبد الناصر لا يوازيه إلا قيام ثورتين (السودانية والليبية) بعد نكسة عام 1967 ليلتقط عبد الناصر أنفاسه بعد ضغوط الهزيمة ومرارتها التي دفعت جيشه الباسل لخوض حرب الاستنزاف ضد الاحتلال الإسرائيلي، وهي من أكثر حروب التحرير شرفاً وبسالة.
عاشراً: إن مفهوم العروبة يتفاوت بين حزب وآخر وبين تجمع سياسي وغيره في مصر، فهناك أصوات لا زالت تتحدث عن مصر الفرعونية وأخرى تدعو إلى مصر الإسلامية، ولكن الفكر القومي لا زال حياً في جنبات الوطن المصري، ولا زال هناك دعاة مخلصون للمبادئ القومية ومتحمسون للدور المصري عربياً مهما كانت التضحيات. ولقد أدت ثورات الربيع العربي إلى استعادة روح عبد الناصر سياسياً بما يرتبط بها من مد قومي وتوجه عروبي.
إن العروبة المصرية بدأت دينية ثم أصبحت عروبة ثقافية إلى أن استقرت لكي تكون عروبة سياسية لا يختلف المصريون حولها وإن لم يتحمس بعضهم للإيمان بها، خصوصاً مع توالي النكبات والنكسات وشيوع أسباب الإحباط المختلفة التي وصلت بنا إلى ما نراه اليوم في عالم عربي مفكك وواقع قومي مؤلم وأجواء سياسية متراجعة.
مصطفى الفقي
صحيفة الحياة اللندنية